يسود الغموض خريطة الانتخابات النيابية في لبنان في ظل ضبابية التحالفات وتركيب اللوائح قبيل إقفال باب الترشيح في 15 مارس (آذار)، لا سيما أن المهلة القانونية بعد ذلك والمتعلقة بإعلان اللوائح التي على وزارة الداخلية طباعتها وفق قانون الانتخاب على قاعدة النظام النسبي للاقتراع للوائح مقفلة، تنتهي في 4 أبريل (نيسان) المقبل. وهي مهلة قد تفرض الفرز السياسي والانتخابي في كل المناطق، وتوضح الصورة أكثر.
في انتظار اتضاح مشهد المنافسات الانتخابية يبدو أن العوامل التي تتحكم بالعملية الانتخابية تقوم على جملة مستجدات قياساً إلى المعارك الانتخابية السابقة، وآخرها في عام 2018 وما رافقها في إنتاج البرلمان الحالي الذي تنتهي ولايته في 21 مايو (أيار) المقبل، أي بعد ستة أيام من عمليات الاقتراع لهذه الدورة. وأبرز هذه العوامل احتمال كبير لإحجام نسبة من الناخبين عن الإقبال على عملية الاقتراع جراء تضافر العديد من الأسباب أبرزها:
عوامل التدني المتوقع في نسبة الاقتراع
- النقمة الشعبية على الطبقة السياسية برمتها لأنها المتهمة بالتسبب بإفلاس البلد وانهيار الاقتصاد والتدهور المريع في أوضاع اللبنانيين الاقتصادية والمالية، التي تسببت بإحالة أكثر من 85 في المئة منهم إلى حالة الفقر، و55 في المئة إلى ما دون خط الفقر، وفق إحصاءات الأمم المتحدة. وهذا يقود إلى فقدان القوى السياسية التقليدية القدرة على تجييش الناخبين بالشعارات السياسية التعبوية. فنسبة الاقتراع كانت 49.68 في المئة عام 2018، ما يعني أن أكثر من نصف الناخبين لم يقترعوا. ومن المتوقع أن تقل هذه النسبة هذه السنة. وأبرز العوامل في ذلك يمكن تعدادها كالآتي:
- شح الإمكانات المالية للناخبين للانتقال من أماكن سكنهم في المدن إلى قراهم للإدلاء بأصواتهم. وهذا سيرتب على القوى السياسية واللوائح الانتخابية تأمين عمليات نقل الناخبين إلى قراهم في حال كانت قادرة على توفير المال اللازم لذلك، لأن المال الانتخابي لم يعد متاحاً لهؤلاء كما كان قبل الأزمة المالية، وإن تفاوتت قدرة الأحزاب في ذلك. فبعضها يعتمد على المال الاغترابي وبعضها تراجع تمويله من الخارج. والبعض الآخر ما زال يتمتع بدعم مالي نسبي مثل "حزب الله" من إيران.
- تراجع شعبية تيارات أساسية داخل طوائفها وفي مقدمها الفريق الحاكم المتمثل بـ"التيار الوطني الحر" على الصعيد المسيحي. وهذا التراجع أصاب كل الأحزاب من دون استثناء، ولو بتفاوت بين هذا الفريق أو ذاك، من تلك التي التي شاركت في الحكم منذ بدء رئاسة الرئيس ميشال عون في 2016، وحتى تلك التي عارضته.
- تراجع شعبية الأحزاب التي تشكل منها التحالف الحاكم، الذي محوره تحالف عون مع "حزب الله"، على الرغم من مغادرة حزب "القوات اللبنانية" وتيار "المستقبل" مركب هذا التحالف. لكن ذلك لم يؤد إلى استقطاب كبير من قبل أخصام هذا التحالف على الرغم من أن انفكاك جزء من جمهور "التيار الحر" قد يكون تحول إلى حزب "القوات اللبنانية". لكن الجزء الأكبر من هذا الجمهور توزع بين القرف من كل القيادات السياسية، والاستعداد للتصويت إلى جانب رموز ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) التي اندلعت مع انفجار الأزمة الاقتصادية في 2019، والإحجام عن تأييد أي من الفرقاء. وصناديق الاقتراع ستحدد نسبة هذه الفئة أو تلك، لأنها ما زالت إلى الآن في المنطقة الرمادية.
الانكفاء السني والتأخر في التحالفات والتشتت
- إعلان رئيس تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في 24 يناير (كانون الثاني) الماضي تعليق العمل السياسي وعدم خوض الانتخابات هو وتياره، ما سيؤدي إلى استنكاف جزء من الجمهور السني في المدن الرئيسة الثلاث بيروت وطرابلس وصيدا عن المشاركة في الاقتراع، جراء ما يسمى "الإحباط السني" بسبب شعور شريحة واسعة من الناخبين من هذه الطائفة أن التحالف الحاكم سعى إلى إضعاف الزعامة الأقوى في صفوفها وإلى تهميش الموقع الذي تحتله في التركيبة الطائفية، أي رئاسة الحكومة، طوال ولاية الرئيس عون بحكم تحالفه مع "حزب الله".
- التأخر في إعلان التحالفات ووضوحها يزيد من إرباك الجمهور الانتخابي ومن الحماسة التي ترافق عادة هذا الاستحقاق، والتي تبدأ بالتبلور عادة قبل أربعة إلى خمسة أشهر من موعد الاقتراع... لا سيما أن هناك انطباعاً بأن المجموعات التغييرية المنبثقة من ثورة 17 أكتوبر ما زالت مشتتة في بعض الدوائر، ما يخفض تلك الحماسة عند الشرائح الاجتماعية الناقمة على رموز الطبقة السياسية التقليدية للإقبال على صناديق الاقتراع.
وتتوقف قدرة المرشحين الذين سينزلون إلى ساحة المعركة الانتخابية في استنفار الجمهور، على ما إذا كانوا ضد تحالف عون - "حزب الله"، بعدما تصاعدت الحملات السياسية على الحزب وسلاحه وما يعتبره جزء واسع من اللبنانيين هيمنته على القرار السياسي في شكل أسهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية.
"حزب الله" سبَّاق في تنظيم تحالفاته
فالحزب بات متهماً أكثر من أي وقت بأنه السبب في عزل لبنان عن محيطه العربي وأن إلحاقه لبنان بمشاريع إيران الإقليمية وراء تردد المجتمع الدولي والدول العربية في مساعدته على التعافي الاقتصادي، إذا لم تتخذ السلطة إجراءات تحد من ممارسات الحزب، ومنها إقفال الحدود التي ينشط تنظيمه العسكري عبرها بسبب فلتانها، في التهريب وحرمان خزينة الدولة من مداخيل الجمارك، فضلاً عن مشاركته حلفاءه مغانم السلطة في التوظيف العشوائي وزيادة النزف المالي في القطاع العام... وأدى نمو النقمة على الحزب سياسياً إلى المزيد من التجرؤ في الحملات عليه وصولاً إلى وصمه لا سيما في الوسط المسيحي بأنه يمثل "الاحتلال الإيراني" للبلد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع الغموض في تركيبة اللوائح حتى مطلع الشهر المقبل، فإن الجهة التي حسمت مسألة التحالفات في شكل مبكر وهيأت للترويج للوائح التي سترى النور قريباً هي "حزب الله"، الذي تشير التقديرات إلى أنه مع تأثر شعبيته كسائر الأحزاب والقوى السياسية بسبب تحميله المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية، فإنه ما زال قادراً على تجييش الجزء الأكبر من جمهوره لأسباب مذهبية من جهة، وبالخطاب السياسي الذي يتهم الولايات المتحدة بأنها وراء الأزمة بفعل الحصار الذي تفرضه عليه بالعقوبات، وتصيب لبنان، من جهة ثانية.
الحزب و"التيار الحر" يحتاج بعضهما إلى بعض
حسم الحزب تحالفه الانتخابي مع "التيار الوطني الحر" متجاوزاً الخلافات التي أثارها معه رئيسه النائب جبران باسيل، بسبب تراجع شعبيته في الوسط المسيحي الذي يتهم التيار بأنه تحول إلى غطاء لسياسات الحزب المضرة بالبلد، وبأنه استقوى به لإيصال عون للرئاسة ثم من أجل المساهمة في صفقات التربّح في السلطة مقابل التنازل عن سيادة الدولة تحت شعار "دعم المقاومة" ضد إسرائيل و"الإرهاب التكفيري"، ما أنتج الأزمة المالية الاقتصادية التي أفقرت اللبنانيين. وغض الحزب النظر عن الانتقادات التي وجهها باسيل ورموز تياره إلى تحالفه مع رئيس البرلمان نبيه بري، الذي يتهمه المحازبون العونيون بالفساد وبالتسبب بإفشال العهد الرئاسي. وتفهم نصر الله حاجة حليفه إلى التمايز عنه بحكم وجود خصم قوي على كتفه هو حزب "القوات اللبنانية"، وضغط سياسي ومعنوي في وجهه تمثل بالخطاب الواضح للبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الداعي إلى استعادة السيادة ورفض مصادرة قرار الدولة من الفريق المسلح الوحيد والدعوة إلى حياد لبنان في الصراعات الإقليمية.
فالفريقان يحتاج بعضهما إلى بعض في الانتخابات النيابية: الحزب للاحتفاظ بالغطاء المسيحي الذي أمنه له عون وباسيل من أجل الإبقاء على سلاحه مقابل إيصال الأول إلى الرئاسة عام 2016، فيسعى إلى مساعدة باسيل على تعويض ما خسره من نواب استقالوا من تكتله النيابي وعلى الحؤول دون انخفاض كبير في عدد نواب هذا التكتل، و"التيار الحر" يحتاج إلى الحزب من أجل الحصول على الأصوات الشيعية المرجِّحة في بعض الدوائر الانتخابية المسيحية، وعلى أصوات حلفاء الحزب من قوى "محور الممانعة" الموالين لسوريا وإيران الذين له مونة عليهم مثل الحزب "السوري القومي الاجتماعي" لعله يعوض ما خسره. وطالما أن الانتخابات تتم وفق نظام اللائحة المقفلة على قاعدة النسبية، فإن "حزب الله" أصر أيضاً على حليفه بري أن يقبل بضم المرشحين العونيين إلى لوائح التحالف بينهما، على الرغم من أن ما بين حركة "أمل" و"التيار الحر" يفوق ما بين داحس والغبراء. لكن بري أصر على أن يقتصر هذا التحالف على المناطق ذات الأغلبية المسيحية في جبل لبنان فقط وألا يشمل البقاع الغربي وجزين مثلاً. لكن ما يهم الحزب تأمين أكثرية في البرلمان الذي سينتخب رئيس الجمهورية بعد ثمانية أشهر.
رفع نسبة الاقتراع الشيعي... وأمركة وتخوين المعارضين
اتبع "حزب الله" نهج ضمان الاستنفار الشيعي إلى جانبه، لتفادي انخفاض نسبة اقتراع جمهوره المذهبي كما هو متوقع أن يحصل لدى طوائف القوى السياسية الأخرى، فاعتمد منذ أشهر خطاباً سياسياً يركز على الضغوط الأميركية استناداً إلى "مؤامرة أميركية إسرائيلية لإضعاف المقاومة"، مدعياً مشاركة بعض الدول العربية فيها، ولا سيما الخليجية، بهدف تغيير موازين القوى السياسية تمهيداً لاتفاقات مع إسرائيل، فلم يخلُ خطاب أو تصريح لقادته ولإطلالات أمينه العام حسن نصر الله، من ترداد هذه المقولة وتكرارها لترسيخها في أذهان "جمهور المقاومة". وشملت التعبئة تحذير الجمهور الشيعي من أن مجموعات الحراك الشعبي والمجتمع المدني التي ظهرت في الجنوب والبقاع منذ اندلاع ثورة 17 أكتوبر تمويلها من السفارة الأميركية والدول الغربية، وبات مصطلح "مجموعات السفارات" يحضر بمناسبة وبلا مناسبة في أدبيات قادة الحزب. وبلغ الأمر حد وصف أحد قادته رئيس المجلس السياسي إبراهيم أمين السيد المعركة الانتخابية بأنها معركة "حرب يوليو (تموز) عام 2006 سياسية"، لاستدراج عطف جمهوره. وتوخى هذا الخطاب السياسي إقناع الناخب الشيعي بأن من لا يقترع للوائح الحزب وحلفائه يكون منحازاً لأميركا وإسرائيل، وتخوين الخصوم الذين يهاجمون الحزب وسلاحه ويطالبون بنزعه.
والهدف من ذلك منع أي اختراق من قبل مجموعات المجتمع المدني المعارضة لسيطرة الحزب وحركة "أمل" على القرار الشيعي، التي نشأت في مناطق شيعية عدة إذا تمكنت من جذب الناقمين على الوضع المعيشي المتردي، والتي قد يتيح نظام الانتخاب النسبي حصولها على مقعد أو مقعدين. فالأولوية هي فوز "الثنائي الشيعي" بالمقاعد النيابية الشيعية الـ27 من أصل 128، لتفادي ترشح أي نائب لرئاسة البرلمان غير بري، أو في الأقل حصر تسمية رئيس البرلمان في الثنائي الشيعي، كي تنتفي أي قدرة للقوى السياسية الأخرى أن تؤثر في هذا الاستحقاق عند قيام البرلمان الجديد. كما أن إقفال الباب أمام إمكان أي اختراق يبقي حجة "الميثاقية" التي كرسها الثنائي الشيعي وعون عرفاً بعدم جواز أي خطوة إذا كان كل ممثلي إحدى الطوائف ضدها (نوع من حق الفيتو). وهذا يؤثر في تسمية رئيس الحكومة وتشكيل الحكومات والقدرة على تعطيلها أو على تفعيلها، وفقاً للظرف السياسي.
السعي لاختراقات في الساحتين السنية والدرزية
وإذا كانت الأولوية الثانية للحزب هي المساعدة في تركيب اللوائح لخفض خسارة الحليف العوني، تقتضي شيطنة منافسه القوي حزب "القوات اللبنانية" ورئيسه سمير جعجع، واتهامه بالسعي للحرب الأهلية منذ حادثة الطيونة في أكتوبر الماضي، فإن الأولوية التي توازيها بالأهمية هي الإفادة من الانقسامات في الطوائف الأخرى، وتحديداً السنة والدروز، من أجل إحداث اختراقات فيها تعويضاً عما سيخسره حليفه "التيار الحر" مسيحياً.
ويعتمد الحزب على الأصوات الشيعية في دائرة بيروت الثانية (11 نائباً)، التي تضم أكبر ثقل انتخابي سني، والتي تُعتبر عرين الحريرية السياسية، من أجل دعم حلفائه السنة فيها إضافة إلى إنجاح مرشحه ومرشح "أمل" للمقعدين الشيعيين. وترك الحزب لحلفائه في "جمعية المشاريع الإسلامية" أن يخوضوا المعركة بلائحة منفصلة عن اللائحة التي سيدعمها هو، لتجنب اتهامهم من قبل الجمهور السني بأنهم يخضعون للحزب، لعلهم يوفقون في استقطاب أصوات سنية تؤهلهم للفوز بمقعدين بدل مقعد واحد. ويطمح الحزب إلى الفوز بمقعد أرثوذكسي في تلك الدائرة بدعم ترشح شخصية مقربة من محور الممانعة، سواء كانت النائب السابق نجاح واكيم (تردد أن مفاوضاته معه تعثرت) أو غيره، فيما يسعى إلى خطف النائب الدرزي الوحيد في تلك الدائرة من "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي يرأسه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. فالأخير صرح قبل أيام أن هناك توجهاً لتحجيمه رداً على مواقفه في الأشهر الأخيرة ضد الحزب ودعوته إلى إنهاء "الاحتلال الإيراني" في البلد. ويشير قادة "الاشتراكي" إلى أن "حزب الله" يعمل لأجل "تأديب" جنبلاط ويخطط مع "التيار الحر" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي" في دائرة الشوف في الجبل، لإسقاط أحد مرشحيه الدرزيين، لصالح خصمه المقرب من سوريا وئام وهاب ولاستبعاد مرشحه من الطائفة الكاثوليكية، فضلاً عن التركيز على إسقاط النائب وائل أبو فاعور في دائرة البقاع الغربي.
ويركز الحزب على إسقاط النائب عن "القوات اللبنانية" في البقاع الشمالي الذي نجح في الدورة الماضية بالأصوات القواتية والسنية.
مبادرة السنيورة في مواجهة خطة الحزب
ويتوقف نجاح خطط "حزب الله" وتوجهاته، التي يرتكز جزء منها على الإفادة من عزوف الحريري و"المستقبل" عن المعركة وبالتالي انخفاض نسبة الاقتراع السني، على المبادرة التي أطلقها رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في 22 فبراير (شباط) الماضي معتبراً أن "الانتخابات النيابية محطة يجب عدم تفويتها لأنه لا يجوز أن يصار إلى إخلاء الساحة الوطنية والسياسية. وبالتالي، فإن النضال البرلماني يجب أن يستمر ضد هذا الارتهان للنفوذ الإيراني الذي أصبح يحجب ويحمي الفساد السياسي المستشري". فهو سيسعى إلى ملء فراغ انكفاء الحريري برعاية تركيب لوائح انتخابية في كل المناطق اللبنانية بالتعاون مع جنبلاط وجعجع ورئيسي الحكومة السابقين نجيب ميقاتي وتمام سلام. وهذا ما ستظهر وقائعه في الأسابيع القليلة المقبلة.