حرب أوكرانيا تؤثر في كل بلد في العالم بأكثر ما يؤثر فيها العالم. وهي تبدو كأنها البديل من الحرب العالمية الثالثة التي يحاذر الغرب الأميركي والأوروبي الانزلاق إليها، مكرراً التأكيد يومياً أن قوات "الناتو" لن تواجه القوات الروسية الغازية.
وأبرز ما يرافق حركة الدبابات الروسية وحركة العقوبات على موسكو، فوق أكاذيب الأطراف التقليدية في البروباغندا الحربية، هو الحديث عن نظام عالمي جديد بعد الحرب. وهذا أمر طبيعي قياساً على السوابق التاريخية. لكن، من الصعب تصور هذا النظام الجديد شكلاً ومحتوى، قبل أن ينجلي غبار المعارك ومعرفة متى وأين وكيف تتوقف الحرب، وإلى ماذا تنتهي. وطبعاً قبل إدراك ما تحدثه العقوبات غير المسبوقة التي يصفها الكرملين بأنها "حرب اقتصادية" على روسيا. ولا أحد يعرف تماماً كيف يفكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وما الذي يمكن أن يفعله "قيصر" مغامر لا يجادله معاونوه. "قيصر" يرى المؤرخ نيال فيرغسون أنه مثل "مايكل كورليوني في فيلم العراب". ويصفه الجنرال جيمس كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة الأميركية بأنه "قاسٍ بارد منضبط وشبه آلة تقريباً". ويراه ملهمه المنظر ألكسندر دوغين "بطرس الأكبر المعاصر" الذي سيعيد مجد روسيا عبر "الحلم الأوراسي".
ولا أحد يجهل في المقابل حدود ما يفعله الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. والكل يحاول أن يقرأ المستقبل في كتاب الماضي.
ذلك أن كل حرب قادت الى نظام جديد. حرب الثلاثين سنة في القرن السابع عشر قادت إلى نظام الاعتراف الجماعي بـ"سيادة الدول وحدودها" في أوروبا. حروب نابليون أدّت إلى "مؤتمر فيينا" عام 1812 ونظام "توازن القوى" في أوروبا الذي "هندسه" مستشار النمسا مترنيخ ولا يزال ملهِم الدكتور كيسنجر. الحرب العالمية الأولى انتهت عام 1919 بسقوط الإمبراطوريات ومبدأ "حق تقرير المصير" للشعوب ونظام "عصبة الأمم". الحرب العالمية الثانية قادت عام 1945 إلى منظمة الأمم المتحدة ونظام القطبين الدوليين. الحرب الباردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي انتهت، ومعها سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، إلى نظام الأحادية القطبية الأميركية على قمة العالم. حرب "عاصفة الصحراء" التي أخرجت قوات الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت قادت إلى "نظام عالمي جديد" بحسب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب. المغامرات العسكرية للرئيس جورج بوش الابن تحت عنوان "بناء الأمم" و"نشر الديمقراطية" وإقامة "شرق أوسط جديد" انتهت، لا سيما بعد حرب العراق وصعود الصين وعودة روسيا، بتعب أميركا و"استقالتها" من الأحادية القطبية وتسليم الرئيس باراك أوباما بالانتقال إلى تعدد الأقطاب من دون نظام أو ما سمّته هيلاري كلينتون بـ"تعدد الشركاء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واللعبة في حرب أوكرانيا لا تزال متحركة. شيء من تطوير الهجوم الروسي والمقاومة الأوكرانية. وشيء من حديث بايدن عن "ثمن باهظ" ستدفعه موسكو. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيرته البريطانية ليز تراس يهددان بوتين بـ"هزيمة استراتيجية" بعد "المكاسب التكتيكية المؤقتة" التي أحرزها.
ولكن، ماذا لو توصّل الرئيس الروسي إلى "نصر استراتيجي"؟
في حال الهزيمة الاستراتيجية، فإن الرابح إلى جانب أميركا والاتحاد الأوروبي، هو الصين. والمرجح هو ترتيب نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ليس لروسيا فيه سوى دور شريك صغير تحت جناح الصين. أما في حال النصر الاستراتيجي، فإن "مبدأ بوتين" يفرض نفسه على العالم الذي ينتقل من كونه "قرية كونية" إلى كونه "غابة كونية"، "نظام غابة" يفرض فيه القوي "قانونه". كل قوي يأخذ ما يريد بالقوة من جيرانه أو سواهم. كل بلد أوروبي ليس في "الناتو" لا حماية له. كل قوة إقليمية في الشرق الأوسط تجرب حظها في إقامة "ميني- إمبراطورية"، إذا ضمنت مصالح قوة كبرى.
وهذه قمة التراجيديا الإنسانية والوطنية. والخطير هو عودة القرن الحادي والعشرين إلى القرن التاسع عشر وما هو أسوأ بكثير.