يوماً بعد يوم، تتوالى أصداء الحرب الروسية على أوكرانيا، هادمة معها كثيراً من الأفكار الراسخة منذ عقود، ولم تكن الرياضة بمنأى عن تلك المتغيرات الدولية، بل استُخدمت كأحد الأسلحة الغربية لردع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظامه، ليكون السؤال الأبرز: هل كشفت الحرب الروسية كيل الرياضة العالمية بمكيالين؟
لا لتسييس الرياضة
لسنوات طويلة، ظلت الكيانات الدولية الحاكمة للرياضة عالمياً، على رأسها اللجنة الأولمبية الدولية، والاتحادات الدولية للألعاب المختلفة، تُنادي بإبعاد السياسة عن الرياضة، وتتخذ مواقف متشددة مع كل من يُخالف ذلك، مستغلاً حدثاً رياضياً في توجيه رسائل محددة أو لنُصرة قضية سياسية أو قومية.
وتحظر المادة 50 من الميثاق الأولمبي على الرياضيين اتخاذ موقف سياسي في مجال اللعب.
ولا تدخر اللجنة الأولمبية الدولية، وهي المظلة الكبرى للرياضة، أي جهد في تذكير الرياضيين بإبعاد السياسة عن ساحات الرياضة، وتراقب من كثب كل تصرف يُمكن أن تكون له دلالات غير رياضية أو تبعث على الانقسام.
وخلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي، قبيل انطلاق منافسات الألعاب الأولمبية الصيفية في العاصمة اليابانية طوكيو، حذرت اللجنة آلاف الرياضيين المشاركين في الحدث من توجيه أي رسالة سياسية حتى لو كانت عبر القبضات المرفوعة من قبل العدائين الأميركيين تومي سميث وجون كارلوس في ألعاب مكسيكو سيتي عام 1968، بل أطلقت قبل البطولة وثيقة من ثلاث ورقات لتحذير الرياضيين من الإجراءات التأديبية في طوكيو.
سيل من العقوبات
لكن منذ اليوم الأول للغزو الروسي للجارة أوكرانيا، تجاهلت المؤسسات الدولية الحاكمة للرياضة، الميثاق الأولمبي، ومبدأ عدم تسييس الرياضة، وتحوّلت الألعاب المختلفة لوسائل ضغط على روسيا، عبر إقرار عقوبات جماعية وفردية غير مسبوقة، تكاد أن تمحو الرياضة الروسية من المشهد.
وجاء مشهد بداية خلط الرياضة بالسياسة، الخميس 24 فبراير (شباط)، حين أعلن نادي شالكه الألماني، إزالة شعار شركة "غازبروم" الروسية من مقدمة قمصان فريقه، اعتراضاً على غزو القوات الروسية أوكرانيا.
وجاء موقف شالكه بعد إعلان رابطة الدوري الأوكراني تعليق منافسات البطولة المحلية لمدة ثلاثين يوماً على الأقل لحين تقدير الموقف السياسي والاجتماعي في البلاد، قبل إيقاف الدوري إلى أجل غير مُسمى لاحقاً.
وسرعان ما انضم نادي برشلونة الإسباني إلى موجة مقاطعة روسيا، حيث أعلن عبر موقعه الرسمي قرار عدم سفر فريقه لكرة السلة إلى روسيا، لخوض مباراتين ضد نادي زينيت سانت بطرسبرغ.
وفي اليوم التالي، قرر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا"، سحب تنظيم المباراة النهائية للنسخة الحالية من دوري أبطال أوروبا من روسيا ونقلها إلى العاصمة الفرنسية باريس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان من المقرر أن يستضيف إستاد غازبروم أرينا في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، المباراة يوم 28 مايو (أيار) المقبل، لكن "يويفا" دعا، لاجتماع استثنائي في أعقاب تصعيد روسيا ضد أوكرانيا، بخاصة بعد طلب البرلمان الأوروبي تغيير مكان إقامة المباراة وعدم إقامة أي بطولات دولية في مدن روسية.
وقبل مرور ساعات على قرار "يويفا" أعلنت بطولة العالم لسباقات سيارات "فورمولا 1"، إلغاء سباق جائزة روسيا الكبرى في العام الحالي.
وخلال الأيام التالية، أصدر الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" قرارات لتقييد ومعاقبة كرة القدم الروسية أهمها استبعاد المنتخب الروسي من الملحق المؤهل لكأس العالم 2022، وكذلك الأندية الروسية من البطولات الأوروبية.
وطاولت العقوبات الرياضيين الروس بصفة فردية، حين أعلنت اللجنة البارالمبية الدولية، منع اللاعبين من روسيا وبيلاروس من المشاركة في الألعاب الشتوية التي استضافتها العاصمة الصينية بكين، بين 4 و13 من مارس (آذار) الجاري.
واتخذ الدوري الإنجليزي الممتاز، الأربعاء التاسع من مارس، قراراً بتعليق عقد البث التلفزيوني لمبارياته مع الشريك الروسي "رامبلر"، بعد إجماع الأندية الـ20 على إنهاء الاتفاقية، بعد أسبوع من المباريات التي شهدت دعماً لأوكرانيا قبل انطلاق كل مباراة.
وقال الدوري الإنجليزي في بيان، إنه سيتبرع أيضاً بمليون جنيه استرليني للمساعدة في تقديم المساعدات الإنسانية، للمتضررين من الأزمة في أوكرانيا، كما أعلنت الرابطة الإنجليزية لكرة القدم، أنها قطعت بث مبارياتها في روسيا.
آثار جانبية
ولم يتوقف توغل السياسة في الرياضة الدولية عند حد الإضرار بالكيانات الرياضية الروسية، بل ظهرت آثاره الجانبية بتوجيه الضرر أو فقط أصابع الاتهام لأفراد وكيانات لارتباطها بروسيا.
وكان نادي تشيلسي الإنجليزي، حامل لقب دوري أبطال أوروبا، أول المتضررين من العلاقة بروسيا، حيث يمتلكه الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش، المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، ممن يُمكن إطلاق مصطلح "الأوليغارشية" عليهم.
وبعد أيام من القلق والترقب وتأهب أبراموفيتش لبيع النادي، أعلنت الحكومة البريطانية، الخميس الماضي، منع الروسي من التصرف في أمواله وممتلكاته في البلاد، ضمن سبعة رجال أعمال روس، بعد إضافتهم إلى قائمة العقوبات المفروضة على روسيا.
ولجأت الحكومة البريطانية لإصدار ترخيص استثنائي لتشيلسي، لتمكين إدارته من تسيير الأعمال، وفق ما ذكرته وزيرة الدولة لشؤون الثقافة والإعلام والرياضة، نادين دوريس.
وتمتد صلاحية الترخيص الاستثنائي لتشيلسي حتى نهاية مايو (أيار) المقبل، وتتيح للفريق الإداري تسديد المبالغ المستحقة على النادي للجهات المتنوعة وصرف رواتب اللاعبين والعاملين بالنادي، مع تخصيص قيمة لا تزيد على 500 ألف جنيه استرليني كمصروفات لكل مباراة يستضيفها "البلوز" في إستاد ستامفورد بريدج، و20 ألف استرليني للمباريات خارج أرضه.
لكن نظراً لمحدودية المسموح للإدارة وفقاً للترخيص الجديد وكثرة الممنوعات، بدأ رعاة النادي في الرحيل، وكانت البداية مع شركة ثري لخدمات الهاتف المحمول، التي كانت الراعي الرئيسي لقمصان الفريق، وبات النادي مهدداً بخسارة بقية الرعاة، على رأسهم شركة "نايكي" الأميركية، صاحبة حقوق تصنيع وبيع قمصان ومعدات النادي، التي أبرمت صفقة في عام 2016 لمدة 15 سنة بقيمة 900 مليون جنيه استرليني، والتي أعلنت أنها تدرس فسخ العقد، وهو ما قد يكلف النادي خسارة نحو 540 مليون جنيه استرليني، مما قد يعني إفلاسه.
وعلى رغم الوضع الصعب لتشيلسي، تبدو حالته جيدة مقارنة بموقف القائد السابق للمنتخب الأوكراني لكرة القدم أناتولي تيموتشوك، الذي أوصت لجنة القيم بالاتحاد الأوكراني بتجريده من رخصة التدريب وجوائز من الدولة، بسبب صمته أمام الغزو الروسي للبلاد واستمرار عمله في نادي زينيت سانت بطرسبرغ الروسي.
ويُعد تيموتشوك، البالغ من العمر 42 سنة، أكثر لاعبي أوكرانيا خوضاً لمباريات دولية، إذ لعب 144 مباراة بين عامي 2000 و2016، وتوج بألقاب للدوري مع شاختار دونيتسك وزينيت، بينما حقق ثلاثية مع بايرن ميونيخ الألماني في 2013، ويعمل حالياً مساعداً لمدرب النادي الروسي.
وماذا عن فلسطين؟!
وتسبب هذا الحصار الدولي للرياضة الروسية بعد غزو أوكرانيا، في تعالي أصوات كثيرة لتذكير المؤسسات الحاكمة للألعاب بصمتها عن قضايا دولية عدة، لكن الرسالة الأكثر وضوحاً جاءت من المصري علي فرج، بطل العالم في الإسكواش، الذي توج يوم 11 مارس بلقب بطولة أوبتاسيا في العاصمة البريطانية لندن، ثم قال في فيديو انتشر سريعاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، "الآن أنا في ورطة، جميعنا نرى ما يحدث في العالم خلال الوقت الراهن، ونشاهد ما يحدث في أوكرانيا ولا أحد سعيد بذلك، ولا ينبغي لأحد أن يقبل أي عمليات قتل في العالم".
وأضاف "لكننا لم يكن يُسمح لنا أبداً بالحديث عن السياسة في الرياضة، وفجأة أصبح مسموحاً بذلك، لذا آمل في أن ينظر الناس أيضاً إلى الاضطهاد في كل مكان في العالم، أعني أن الفلسطينيين يعانون منذ 74 سنة، لكن ما يتعرضون له لا يتناسب مع رواية وسائل الإعلام في الغرب، لذلك لا يُمكننا التحدث عنه، لكن بما أننا الآن يمكننا الحديث عن أوكرانيا، فلنتحدث أيضاً عن الفلسطينيين".
الجودو مثالاً
وعلى ذكر القضية الفلسطينية، يُمكن النظر إلى الاتحاد الدولي للجودو كمثال على الكيل بمكيالين في ما يخص خلط السياسة بالرياضة، بمجرد النظر إلى واقعتين يفصل بينهما ستة أشهر فقط.
فخلال منافسات دورة الألعاب الأولمبية بطوكيو، الصيف الماضي، في افتتاح تصفيات وزن 73 كيلوغراماً للجودو، انسحب الجزائري فتحي نورين ومدربه عمار بني خليف، من مواجهة اللاعب السوداني محمد عبد الرسول، خشية العبور للدور التالي ومواجهة الإسرائيلي توهار بوتبول.
وقال نورين لوسائل إعلام جزائرية وقتها إن مساندته للقضية الفلسطينية تمنعه من مواجهة الإسرائيلي بوتبول، مما دفع اللجنة الأولمبية الجزائرية لسحب اعتماد نورين ومدربه، وقررت إعادتهما إلى الديار من العاصمة اليابانية طوكيو.
فيما أعلن الاتحاد الدولي للجودو إيقاف اللاعب ومدربه مؤقتاً لارتكاب سلوك غير رياضي، وأن الثنائي "استغل الألعاب كمنصة للاحتجاج والترويج للدعاية السياسية والدينية"، ولاحقاً قرر الاتحاد الدولي للجودو إيقاف نورين ومدربه لمدة 10 سنوات.
لكن في خضم عقوبات الكيانات الرياضية على روسيا، بادر الاتحاد الدولي للجودو، بإعلان عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورجل الأعمال الروسي أركادي روتنبرغ من جميع مناصبهما في الاتحاد.
وكان بوتين الذي سبق له أن شارك في تأليف كتاب يحمل عنوان "الجودو: التاريخ والنظرية والممارسة"، يشغل منصب الرئيس الشرفي للاتحاد.
وألغى الاتحاد أيضاً في وقت سابق بطولة في روسيا كان من المقرر إقامتها في مدينة كازان بين 20 و22 مايو (أيار) المقبل.