منعت السلطات البريطانية أخيراً نجم كرة القدم المتقاعد ديفيد بيكهام من القيادة ستة أشهر، بعدما رصدته عدسة الكاميرا وهو يتحدّث عبر الهاتف أثناء القيادة. للأسف، اللاعب الإنكليزي ليس وحده من يعتقد على ما يبدو أن بإمكاننا الاستفادة من الوقت الذي نمضيه وراء عجلة السيارة في إنجاز أمور اخرى.
ولكنّ الهواتفَ ليست وحدها ما يشتِّت انتباهنا خلال القيادة. في الواقع، وعلى نحو متزايد، تأتي المركبات وهي مزوّدة مسبقاً بتكنولوجيا تعد بتحسين حياتنا واستغلال تنقّلاتنا كي نصبح أكثر إنتاجية بعض الشيء. ويشمل ذلك وجود أنظمة مساعدة رقمية مثل "ألكسا" أو أجهزة تتولّى عملية ركن السيارة. صمّم الخبراء مجموعة كبيرة من تلك التقنيات للحفاظ على سلامتنا، لكن هل يمكن أن تكون خطيرة في الحقيقة، بمعنى أنها تعطينا انطباعاً خاطئاً بإمكانية تركيز انتباهنا على مهمات اخرى غير القيادة؟ لقد كنا نستشف ذلك الأمر.
بشكل مثير للاهتمام، يدعم معظم السائقين الرأي القائل بأنّ استخدام الهواتف المحمولة أمر محفوف بالمخاطر، لأنه قد ينطوي على رفع يدي السائق عن مقود السيّارة. ويدرك هؤلاء أيضاً أن القانون يمنع التحدّث عبر الهاتف أثناء القيادة. ثمة مشكلة تتمثّل في أن كثيراً من السائقين مستمرون في استخدام هواتفهم في وضعية "تحرير اليدين"، لأن القانون يسمح باستخدام الهاتف النقّال شرط أن تكون اليدان ممسكتين بالمقود. ويوحي ذلك بأنه بديل آمن.
في المقابل، تظهر البحوث بوضوح أن سلوك القيادة وخطر التعرض إلى حادث تحطّم لدى سائق يستعمل الهاتف النقّال (مستعيناً بيديه أو من دونهما)، يوازيان المخاطر التي قد يتعرّض إليها سائق مخمور، بل إنهما يتخطيانها سوءاً في بعض الأحيان.
بيّنت بحوثنا أن استعمال الهاتف النقّال يحمل تكلفة كبيرة في ما يتعلق بانتباه السائق، إذ يجعل الأخير أكثر عرضة لارتكاب أخطاء تشمل حدوث فشل في الإدراك البصري وعجز عن اكتشاف المخاطر وتلافيها.
المشكلة الحقيقية في استخدام الهاتف تكمن في المتطلبات المعرفية التي يضعها على عاتق السائق. إذا حاولنا تخصيص انتباهنا لمهمة اخرى جذابة أثناء القيادة، سيتدهور مستوى الأداء لدينا في المهمتين سيتدهور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معلومات وترفيه وسلامة
باتت السيارات تُعطى تقنيات تتزايد باستمرار. إذ يمكن للسائقين الآن طرح سؤال على "أليكسا" أو "غوغل أسيستنت"، والاستماع إلى الرسائل النصيّة التي يقرأها "نظام الترفيه" بصوت مرتفع واستخدام الطلبات الصوتيّة لتشغيل المكالمات الهاتفية وغيرها. كذلك تعمل تلك التقنيات كافة استناداً إلى افتراض أنك في حال لم تستعمل إلا صوتك فسوف لا يحدث ما يضر بسلامتك.
يشتمل ذلك الافتراض على مشاكل معقدة. وقد أثبتت مجموعة من البحوث أن هذا النوع من تكنولوجيا المعلومات والترفيه المتصل بها، يتسببان فعليّاً في صنع إلهاء يسهم في زيادة أخطاء السائق.
إنّ القيادة عملية معقدة وسريعة الخطى وتتطلب معالجة معلومات تأتي من مداخل متعددة، ومع ذلك نشعر غالباً بأنها سهلة. ولكن الطلب على التركيز عند القيادة يختلف بين دقيقة واخرى، ما يعني أن أي تركيز يذهب إلى مكان آخر هو مورد ثمين ربما لا يكون متاحاً عندما يواجه السائق حدثاً غير متوقع. وبيقى أن الاستماع إلى الموسيقى يمثّل مشكلة أقل وطأة، لأنها ليست تفاعليّة على غرار التقنيات الاخرى.
نظراً إلى أن حدوث الارتباك على مستوى المقود يمكن أن يستدعي عواقب وخيمة، فمن غير المستغرب أن تصبح فكرة الحلول التكنولوجيّة لتخفيف خطأ السائق أكثر شيوعاً. أغلب الظنّ أن سيارة بيكهام "البنتلي" مزوّدة (على الأقل) بنظام منع انغلاق المكابح، وتقنية مساعدة السائق في ركن السيارة، وأجهزة استشعار الرجوع إلى الخلف، وتقنية البقاء في المسار. أدّت تلك التكنولوجيات إلى ظهور نزعة في الإعلانات تشجّع على الاعتقاد بأن سياراتنا الحديثة يمكنها أن تقود نفسها بنفسها إلى حد كبير.
أعلن البرلمان الأوروبي أخيراً أنه بداية من عام 2022، يجب تزويد السيارات الجديدة كلها بتقنية "المساعدة الذكيّة للسرعة"، إلى جانب ميزات سلامة اخرى مصممة لتنبيه السائقين في حالة تشتيت انتباههم أو الشعور بالنعاس.
ولكن، هل تعزِّز تلك التقنيات الأمان أم أنها تحثّ على مزيد من الإلهاء؟ من الواضح أن السائقين لا يثيرون الإعجاب في احترام حدود السرعة. لذا، قد تبدو فكرة جيدة أن نسعى إلى إخراج القرار بزيادة السرعة أو خفضها، من يد السائقين. في المقابل، كي يصبح سلوكاً ما قابلاً لـ"التصحيح التقني"، يجب اختزال التعقيد في سلوكيات القيادة، ليصبح مجرد خيار حاسم بين "آمن" و"خطير". تحتاج التكنولوجيا إلى معرفة رد الفعل الذي يؤدي إليه هذا السلوك أو ذاك، بل يجب صوغ ذلك في مصطلحات مباشرة من اللغة الإلكترونية الثنائيّة (بمعنى أن تختار مباشرة بين "نعم" و"لا"، ما يوازي "صفر" و"واحد" في اللغة الثنائية الإلكترونيّة)، لأنها لا تستطيع (حتى الآن) التعامل مع "ولكن" و"في حال" و"الظروف المحيطة". ولكن، هناك خطر يكمن في أن ذلك الأمر قد يشجعنا على الاعتقاد مثلاً بأن سرعة 30 ميلاً في الساعة هي آمنة بطبيعتها، حتى لو كان 20 ميلاً في الساعة أو ربما أقل هو الخيار الأكثر أماناً في ظروف معيّنة. إنه أمر نود استكشافه أكثر في بحثنا.
بطريقة ممائلة، فإن التقنية التي تحذر السائقين عندما تظهر عليهم علامات نعاس أو تسمم، وتركن السيارة بدلاً منهم إن لم يستجيبوا بشكل صحيح، يمكنها أن تشجعهم فعليّاً على الاعتقاد بأن يستطعيون القيادة حتى عندما لا يكونون مؤهلين لذلك، بافتراض أن تقنيات السيّارة ستتدخل لإنقاذهم. يمكن تسويق التكنولوجيا على أنها تعزِّز السلامة. ولكن الأخيرة تتطلب الاستيعاب ولا تخضع للثنائيات التي تقتضيها اللغة الثنائيّة الإلكترونيّة.
نعلم أن السائق حتى إن كان يضع يديه بكل لطف على "الوضع 10 و2" يمكن مع ذلك أن يشرد ذهنه بشكل خطير. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نستفيض بدعم سياراتنا بتقنيات تشتّت الانتباه. للأسف، لا يمكننا التأكّد من أن الشركات المُصنّعة تتحرك بدفع من الترويج للسلامة، أو أنها على العكس تروّج للسلامة الأكثر مبيعاً من الناحية التجاريّة.
* جيما بريغز كبيرة المحاضرين في علم النفس في الجامعة البريطانية المفتوحة.
هيلين ويلز كبيرة المحاضرين في علم الجريمة في جامعة كيل.
ليان سافيغار زميل أبحاث ما بعد الدكتوراه في علم النفس بجامعة كيل.
نُشر هذا المقال لأول مرة في The Conversation
© The Independent