تواجه دول أوروبا أزمة حقيقية، ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، بل بانعكاس ذلك على فواتير استهلاك الطاقة في البيوت والمصانع في دول القارة. وعلى الرغم من أن مشكلة ارتفاع أسعار الطاقة بالتجزئة بدأت منذ نهاية الصيف الماضي، إلا أن الحرب الروسية في أوكرانيا زادت تعقيد المشكلة لتتحول إلى أزمة تتطلب تدخلاً سريعاً من الاتحاد الأوروبي.
وفشلت قمة غير رسمية لزعماء الاتحاد الأوروبي استضافها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي بفرساي نهاية الأسبوع الماضي، في التوصل إلى طريقة لتخفيف عبء أزمة الطاقة على المواطنين في 27 دولة بالاتحاد.
واقترحت دول مثل إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها قراراً من المفوضية الأوروبية بعدم ربط أسعار الغاز الطبيعي بأسعار الكهرباء المولدة باستخدامه، ولا بأسعار التجزئة للمستهلكين، وترغب تلك الدول في أن يسمح لها بفرض سقف سعر طاقي للمنازل والمصانع، لكن دولاً أخرى في الاتحاد الأوروبي عارضت بشدة أي إجراء يمثل تدخلاً من السلطات في سوق الطاقة.
وعقب القمة أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن المفوضية ستطرح في شهر مايو (أيار) المقبل خطة تمكن دول الاتحاد من تقديم الدعم للمستهلكين ليتمكنوا من دفع فواتير الطاقة، على أن يمول الدعم من ضريبة أرباح على شركات توزيع الغاز والكهرباء، ويقدر أن تحقق تلك الشركات أرباحاً إضافية هذا العام تصل إلى 220 مليار دولار (200 مليار يورو).
الاستغناء عن روسيا
وقالت فون دير لاين إن الخطة المقترحة التي ستعلن الشهر بعد المقبل تتضمن أيضاً ما يمكن عمله "لتقليل اعتمادنا على واردات النفط والغاز والفحم من روسيا بأسرع ما يمكن"، وكان اجتماع لوزراء الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي خلص إلى أنه بالإمكان تقليل الاعتماد على الغاز من روسيا بنحو الثلثين مع نهاية العام.
وجاء الاجتماع الأوروبي بعد إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا وقف استيراد النفط والغاز من روسيا في إطار تشديد العقوبات المفروضة على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، لكن رئيسة المفوضية الأوروبية أعلنت عقب "قمة فيرساي" أن بإمكان الاتحاد الأوروبي تقليل اعتماده على واردات الطاقة من روسيا بحلول العام 2027.
وذكرت أن دول القارة ستبدأ في استيراد الغاز الطبيعي المسال من دول أخرى، وتطور سوق طاقة الهيدروجين في أوروبا وتزيد كفاءة استخدام الطاقة وتسرّع الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة، إلا أن عدداً من دول الاتحاد تشكك في إمكان تحقيق ذلك، فأوروبا تستورد نحو 40 في المئة من الغاز الطبيعي من روسيا، وثاني أهم مصدر للغاز الطبيعي لدول أوروبا هو النرويج التي تنتج بأقصى قدراتها ولم تعد لديها سعة إنتاج إضافية، لذا تسعى أوروبا إلى زيادة واردات الغاز الطبيعي من دول مثل الولايات المتحدة وقطر وأذربيجان والجزائر ومصر.
ومن بين القرارات التي اتخذت في القمة الأوروبية الأخيرة ضرورة ملء مخزونات الغاز الطبيعي تحت الأرض في القارة إلى مستوى لا يقل عن 90 في المئة قبل شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وكانت تلك المخزونات شهدت انخفاضاً غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة نتيجة أزمة الطاقة في أوروبا، وسيعني ملؤها الآن زيادة الكلفة لشراء الغاز للتخزين بالأسعار المرتفعة حالياً.
البدائل المتاحة
ما زال الغاز الطبيعي الروسي يتدفق على دول أوروبا، حتى ذلك الذي يمر عبر أوكرانيا التي تشهد حرباً، لكن الدول الأوروبية تتحسب لاحتمال تعطل ذلك الانسياب نتيجة الحرب أو نتيجة العقوبات الغربية على روسيا التي تجعل التجارة مع روسيا، بما فيها استيراد النفط والغاز، غير ممكنة، لذا ناقش وزراء الطاقة الأوروبيون خلال اجتماعهم الأسبوع الماضي البدائل المتاحة لمواجهة ذلك الاحتمال، وليس فقط الاستجابة لضغوط أميركية لفرض حظر على استيراد الطاقة من روسيا. ومن بين المقترحات الآنية العاجلة الاستمرار في تشغيل محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم، على الرغم من أنها كانت على وشك التفكيك في إطار تحقيق أهداف الحد من التغير المناخي، فالفحم أكثر تلويثاً للبيئة من النفط والغاز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك في مقابلة مع الإذاعة الألمانية، "علينا أن نبقي محطات الطاقة التي تعمل بالفحم على أهبة الاستعداد، وربما حتى علينا تشغيلها من الآن".
والحقيقة أن ألمانيا من بين الدول الأوروبية التي أعادت تشغيل محطات الطاقة بالفحم مثل بريطانيا وغيرها مع نهاية الصيف الماضي، حين تعرضت شبكة الكهرباء إلى نقص في الإمدادات مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي.
وهناك أيضاً على المدى الطويل زيادة الاستثمار في إنتاج الطاقة من مصادر متجددة مثل الشمس والرياح، لكن القارة الأوروبية تفتقر إلى حد كبير لتلك المصادر، وكان هدوء الرياح في الخريف الماضي سبباً في توقف توربينات توليد الطاقة في القارة، إضافة إلى الاستثمار أكثر في الطاقة الهيدروجينية وتوليد الطاقة بمحطات نووية، لكن الدول التي تستخدم المحطات النووية ستظل أيضاً تعتمد على محطات تعمل بالنفط والغاز والفحم، فعلى سبيل المثال تنتج فرنسا نحو 70 في المئة من الطاقة من محطات نووية، لكن حين تعطلت أربع مفاعلات قبل أشهر، واجهت الشبكة الفرنسية والبريطانية والألمانية نقصاً حاداً في الكهرباء.
ويبقى الغاز الطبيعي المصدر الأساس لتوليد الطاقة في أوروبا على المدى المنظور، ومع استيراد أكثر من 360 مليار متر مكعب من روسيا سنوياً ستجد الدول الأوروبية صعوبة في تعويض النسبة الأكبر من تلك الواردات، والحل المتاح هو استيراد شحنات أكبر من الغاز الطبيعي المسال على الرغم من ارتفاع كلفته عن الغاز الطبيعي الذي يأتي من روسيا عبر الأنابيب، كما أن أوروبا هنا ستنافس دول آسيا التي تعد أكبر مستورد لشحنات الغاز الطبيعي المسال، مما يعني أيضاً ارتفاعاً أكثر في الأسعار لتحويل الناقلات من آسيا إلى أوروبا.
ومع كل ذلك يقدر المحللون في سوق الطاقة أن المتوافر من سعة إنتاج إضافية لدى الدول المصدرة للغاز خصوصاً في الشرق الأوسط لا يكفي لتعويض سوى نسبة ضئيلة من الواردات الأوروبية من روسيا، فقطر لديها سعة إنتاج إضافية بنحو 11 مليار متر مكعب، بينما الجزائر لديها سعة إنتاج إضافية بنحو أربعة مليارات متر مكعب، وحتى إذا أضفنا أي سعة إنتاج إضافية للغاز الطبيعي المسال من مصر وغيرها، فإنها بالكاد ستساوي ثلاثة في المئة تقريباً من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي الروسي.