بدأ الأفرقاء اللبنانيون يشحذون "أسلحتهم" الخطابية على أنواعها عشية إقفال باب الترشيحات للانتخابات النيابية في 15 مارس (آذار) بالتزامن مع إعلان الأحزاب الرئيسة مرشحيها استعداداً لعمليات الاقتراع التي ستجري في 15 مايو (أيار) المقبل، وسط تأكيدات من بعضهم بأنها ستجري في موعدها بفعل استمرار شكوك البعض بأن هناك من يسعى إلى تأجيلها خوفاً من نتائجها.
طبيعي أن تكُرّ سبحة إعلان الزعامات السياسية لمرشحيها خلال الساعات الـ48 التي سبقت إقفال باب الترشح من قبل وزارة الداخلية، كما فعلت أربع قوى رئيسة، أهمها رئيس البرلمان وحركة "أمل" نبيه بري (17 مرشحاً)، ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل (21 مرشحاً)، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع (20 مرشحاً)، وقبلهم الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله (14 مرشحاً)... ما يرفع مستوى التعبئة الانتخابية للمناصرين والناخبين إلى مستوى من التراشق بالاتهامات والشعارات الرنانة. وسيعلن المزيد من الترشيحات في الأيام التي تلي انتهاء المهلة، وصولاً إلى انتهاء مهلة إعلان اللوائح والتحالفات في الرابع من أبريل (نيسان) التي ما زالت قليلة، كي تكتمل رسمياً صورة المنازلة الكبرى التي سيشهدها يوم الاقتراع.
فالاستحقاق سيجري وسط متغيرات جوهرية تتناول الأزمة اللبنانية التي أثبتت السنوات القليلة الماضية أنها عصيّة على الحلول والتسويات، بسبب عمق الخصومات بين قادة الطوائف وتطلعاتها من جهة، والصراعات بين الأحزاب داخل بعض الطوائف على الخيارات الكبرى من جهة ثانية، وبفعل تداخل العديد من العوامل الخارجية إقليمياً، والتي ازدادت تعقيداً مع تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية على أوضاع المنطقة، ومنها لبنان، حيث لإيران نفوذ تسعى إلى تثبيته.
تقاذف الاتهامات والخشية من الفراغ السني
فالأفرقاء اللبنانيون يتقاذفون المسؤولية عن المأزق الاقتصادي المالي الذي انفجر في صيف 2019 وبقيت معالجاته قاصرة عن الحد من تدهور أوضاع اللبنانيين المعيشية، جراء الخلاف السياسي، في ظل نشوء انتفاضة شعبية في حينها، يترقب المجتمع الدولي المعني بإدارة هذا المأزق، مدى قدرة مجموعاتها المتعددة المشارب والأهداف على إثبات نفسها في هذه الانتخابات لعلها تشكل تغييراً في ميزان القوى النيابي الذي هيمن نفوذ "حزب الله" عليه بالتعاون مع الفريق الحاكم برئاسة ميشال عون، وصهره ووريثه السياسي رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل.
إلا أن الأبرز في مستجدات الانتخابات النيابية المنتظرة، هو عزوف الزعيم الأقوى في الطائفة السنية رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري، عن المشاركة وتياره في هذه الانتخابات، ومطالبته نواب كتلته النيابية وقادة التيار بحذو حذوه، وإلا الاستقالة منه. فالترشيحات في الدوائر الانتخابية التي تتميز بثقل الناخبين السنة، تأخرت، بفعل الارتباك الذي تركه هذا القرار، مع إعلان زهاء ستة نواب من "المستقبل" العزوف أسوة بالحريري، مقابل استقالة بعض القياديين في "التيار" من أجل خوض المعركة، أبرزهم نائب رئيسه النائب السابق مصطفى علوش الذي يتمتع بحيثية شعبية محترمة في طرابلس، وينتظر أن تتضح خريطة المنافسة الانتخابية في المناطق السنية في الأسبوعين المقبلين، في ظل مخاوف قيادات في الطائفة من أن يقود انسحاب الحريري و"المستقبل" إلى فراغ في الساحة يسبب انخفاضاً في نسبة الاقتراع السني فيستفيد منه "حزب الله" ليدعم مرشحين سنة مقربين منه، ويحصد جزءاً من المقاعد النيابية إلى جانبه ويسهل عليه تأمين الأكثرية التي يسعى إليها في البرلمان.
عزوف ميقاتي وسلام وتحرك السنيورة لملء الفراغ
هذه المخاوف دفعت رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي ينتمي إلى "الحريرية السياسية" لعلاقته مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإن لم يكن في تيار "المستقبل"، إلى إطلاق مبادرة تتوخى الدعوة إلى المشاركة في الانتخابات، ورعاية تشكيل لوائح مع بعض الحلفاء في مناطق عدة بدءاً ببيروت، ينتظر أن تتبلور في الأيام المقبلة. ويركز على جمع شخصيات بيروتية غير بعيدة عن الحريرية السياسية وإن كانت لا تنتمي إلى "المستقبل"، مطمئناً بعض من حملوا على مبادرته بأنه يعمل لوراثة سعد الحريري، فمعاونو الأخير حملوا على تحركه من هذه الزاوية، ثم تراجعوا، وإن كان ذلك أوحى بوجود شرخ ضمن الفريق الواحد، يضعف الحماس السني في الإقبال على صناديق الاقتراع، وأزعج انخراط السنيورة في دعم مرشحين، طامحين للإفادة من انكفاء الحريري لتبوؤ موقع تمثيل الطائفة، التي منها يتم اختيار رئيس الحكومة لاحقاً.
الانكفاء لم يقتصر على الحريري، بل شمل رئيس الحكومة السابق تمام سلام، والسنيورة نفسه على الرغم من الإشاعات التي سادت بأنه ينوي الترشح وثبت أنها غير صحيحة، في وقت أعلن فيه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في 14 مارس عزوفه هو الآخر، وبرر ميقاتي موقفه بأن "قناعتي بأن يكون المسؤول مجرداً بالكامل من أي مصلحة، لا سيما في هذا الاستحقاق الديمقراطي الذي نحن مقبلون عليه، ولأن تجربة الحكومة التي ترأستها عام 2005 قدمت نموذجاً في الفصل بين إدارة الانتخابات وعدم الترشح، واستطعنا من خلالها نقل البلد من ضفة إلى أخرى في أصعب مرحلة، وكان هذا الخيار موضع تقدير محلي وخارجي".
وإذ وعد اللبنانيين بأن حكومته تعمل "بكل ما أوتينا لتكون المرحلة الصعبة التي تسبق بدء التعافي قصيرة"، دعا "لأن تكون المنافسة الفعلية على ما يلبي طموحات اللبنانيين في التغيير الحقيقي، والبرامج الإنقاذية، وليس على نبش الاحقاد وتأجيج الخلافات والانقسامات والعودة إلى الاصطفافات السياسية التي لا طائل منها".
ويعمل ميقاتي بالتنسيق مع السنيورة على رعاية تشكيل لائحة في الشمال، في سياق الحرص على تجنب الفراغ في الحضور السني في البرلمان الجديد، وهو ما سيتضح في الأيام المقبلة ويزيد من ارتفاع حرارة المعركة الانتخابية.
باسيل يتموضع بموقع الضحية: لا تخافوا سنربح
ودعوة ميقاتي إلى تجنب نبش الأحقاد تعود إلى أن إعلان اللوائح من الأفرقاء الآخرين لم يخل من اللغة العالية اللهجة، خصوصاً بين الأفرقاء المسيحيين المتنافسين، وفق ما جاء على لسان النائب باسيل الذي شنّ هجوماً على معظم القيادات اللبنانية من دون أن يسميها، متموضعاً في موقع الضحية أمام جمهوره الذي خسر جزءاً منه بفعل الاتهامات له وللرئيس عون بأنهما ممن تسببوا بالأزمة المالية الاقتصادية التي ضربت اللبنانيين، فاستهدف الحريري حين أشار إلى "واحد يلغي حزبه والهدف" إسقاط جبران والتيار"، وجعجع حين قال إن "الثاني يأتي بالمال من دولة ويوزع على الإعلام والعنوان "إسقاط جبران والتيار"، واتهم "الثالث (؟) بأنه يأتي بـ30 مليون عبر "Sponsor" ليمول مشروع "إسقاط جبران والتيار"، كما تناول الحريري الأب حين قال، "سياستهم المالية منذ (عام) 90، تفقير لبنان واللبنانيين لإخضاعهم فيصبحوا أسرى الحل المفروض عليهم، أي صفقة القرن وتوطين الفلسطينيين"، وركز على جعجع، كون "القوات" منافس "التيار الحر" في معظم الدوائر ذات الوجود المسيحي، حين قال، "اسألوا الميليشياوي عن تحالفه مع ميليشياوي كان يحاربه (رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط)، تقاتلوا وهجروا ويتحالفون"، ولم ينسَ باسيل مهاجمة النواب المسيحيين الذين انسحبوا من تكتله النيابي بعد ثورة "17 تشرين" عام 2019، ويخوضون معركة بوجه مرشحي تياره في هذه الدورة الانتخابية ومنهم صهر الرئيس عون الثاني العميد شامل روكز، فقال، " تسلقوا على أكتافنا في انتخابات 2018، ولما حان موعد المواجهة، هربوا من التكتل كالحرامية في الليل، وعربشوا على وجع الناس. اجتمعوا كلهم وصاروا يزايدون بشيطنتنا ويتسابقون بالدفع لمن يسبنا أكثر. اجتمعوا ضدنا لأنه لا شيء يجمعهم إلا أنهم ضدنا"، كما هاجم النائب السابق سليمان فرنجية والنائب بطرس حرب ونجله المرشح مجد حرب والنائب المستقيل ميشال معوض... ولم يوفر ثوار "17 تشرين" مميزاً بين المزيفين فيهم والحقيقيين، واصفاً من أيدوها بـ"الحرباية".
الدفاع عن التحالف مع "حزب الله"
وشدد على الدفاع عن تحالفاته الانتخابية مع "حزب الله" باعتبارها من المآخذ عليه في الوسط المسيحي، فقال إن الأخير هو "الوحيد الذي مد يده إلينا للتحالف"، وحرص على الإشارة إلى نقاط التمايز معه. ودعا مناصريه إلى مواجهة من ينتقد هذه التحالفات بانتقاد تحالفاته، وبرر وجوده على لوائح واحدة مع حركة "أمل" ومرشحي الرئيس بري الذي يتهمه بالفساد وعرقلة القوانين الإصلاحية، فقال، "نتحالف انتخابياً ونبقى أحراراً سياسياً... صحيح في قطار واحد، ولكن كل واحد في مقصورة"، واللافت أنه كرر الوعد بتحقيق الإنجازات التي سبق أن وعد بها في الانتخابات السابقة، متهماً كل من حمل عليهم بأنهم السبب في إفشاله.
وقال عن ذكرى انتفاضة "14 آذار" التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، "في 14 آذار 89، أطلق الجنرال معركة تحرير السيادة، ونحن في 14 آذار 2022، نُعلنها حرب تحرير اقتصاد لبنان وودائع اللبنانيين".
جعجع: المعركة وجودية
أما جعجع فاعتبر أنه "حين يصبح لبنان منارة منطفئة، وخبرية منسية وسقطات حتمية"، عندها تصبح الانتخابات النيابية معركة وجودية وليس مجرد معركة سياسية". ودعا إلى "التمييز بين حزبه الذي القوات يريد بناء الدولة ويقدر عليها، والذين لا يريدون الدولة لأنها لا تناسبهم باعتبارها نقيض مشروعهم الأساسي وفلتان سلاحهم وفسادهم "حزب الله"، والذين لا يمكنهم تحقيق ذلك لأنهم يفتقرون إلى التنظيم والحضور والإمكانات بفكرهم المشتت وقوتهم المحدودة وليس لديهم لا التجربة ولا الخبرة ولا التاريخ (مجموعات الثورة)، وبين الذين رددوا على مدى 30 سنة أنهم "هم الإصلاح وهم التغيير"، وأنهم الخلاص والقوة والحلم الموعود، وهم أنفسهم الذين وصلوا إلى الحكم، واكتشفنا بعدها "أنه بالتأكيد كان خداعاً، وجل ما يريدونه واستطاعوا عليه هو "تنظيف" الدولة إلى "آخر قرش وتعبئة جيوبهم" (قاصداً التيار الحر)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتناول جعجع المعركة التي خاضها "التيار الحر" من أجل استحداث "الميغا سنتر" (مراكز الاقتراع في أماكن السكن للذين يترددون بالانتقال إلى قُراهم) قائلاً، تارة يفتحون موضوع "الميغاسنتر" قبل أيام من إقفال باب الترشيح، ليس حباً به، إنما كرهاً بالانتخابات، ورفضاً للتغيير الآتي، وغراماً بالبقاء على الكرسي، وأخرى، يفتحون ملف انتخاب المغتربين، ليس بهدف "اقترابهم" من كل دوائر الوطن، إنما ليغربوهم أكثر وأكثر في بلاد الله الواسعة ليبقوا متحكمين".
ورد جعجع على بعض ما قاله باسيل، قائلا، "من الحرام أن نواجه لغة الشارع "الزقاقية" أمام ما نطرحه من مبادئ عامة وفكر سياسي"، وعلق على الشعار الانتخابي لـ"حزب الله" "نحمي ونبني"، بالقول، "لم يطلب منه أحد الحماية، ومن أكبر المخاطر التي تواجه لبنان هي وجود "حزب الله". واعتبره " شعاراً فارغاً من أي معنى".
بري يهاجم التمويل من الخارج
وتميز إعلان بري عن مرشحيه بالإشارة إلى أن هذه الانتخابات هي "الاستحقاق الأول الذي ألمس فيه هذا الكم الهائل من الاهتمام الدولي والإقليمي غير المسبوق باستحقاق دستوري في هذا البلد الصغير في حجمه وجغرافيته والكبير جداً في دوره".
وانضم بذلك إلى حليفه "حزب الله" في مهاجمة "البعض الذين يريدون تحويل هذا الاستحقاق إلى مناسبة لتسييل ما تم الاستثمار عليه طيلة السنوات الماضية من مشاريع فتن مذهبية وطائفية وحملات تشويه وافتراءات". ورأى أن "البعض في الخارج يمول بعض الداخل لتسييل كل تلك العناوين المحقة في صناديق الاقتراع أصواتاً لتحقيق مآرب سياسية واستراتيجية لتغيير وجه لبنان وهويته وخياراته وثوابته من بوابة الاستحقاق الانتخابي حتى أصبح استحقاق حق يراد منه باطل". وانتقد "البرامج الانتخابية والوعود البراقة والشعارات التي تخاطب الغرائز وتوقظ الأشباح الطائفية والمذهبية ونبش قبور التاريخ"، الأمر الذي اعتبره مراقبون أن المقصود به باسيل.
وفي وقت كان باسيل قد دافع عن قانون الانتخاب الحالي لأنه يسمح بتمثيل المسيحيين من ناخبيهم، دعا بري إلى "التخلص من القوانين الانتخابية التي تكرس المحاصصة الطائفية والمذهبية ولا تضمن الشراكة للجميع لإقرار قانون انتخابات عصري خارج القيد الطائفي على أساس النسبية مع دوائر موسعة، وانشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف بعدالة".
شراسة المعركة في الدوائر المسيحية
وارتفاع حدة التخاطب التي تراوحت بين فريق وآخر تعود إلى التوتر والخشية من قدرة الخصم على جمع الأصوات على حساب الآخر، ومن الواضح أن المعركة ستكون شرسة في الدوائر ذات الأغلبية المسيحية.
ويعكس هجوم باسيل المكثف على "القوات اللبنانية" سعيها مع حزب "الكتائب" ومجد حرب لإسقاط باسيل في منطقته في البترون، ويعكس هجومه على تحالف "القوات" وجنبلاط في دائرة الشوف عاليه السعي لإسقاط مرشح باسيل عن المقعد الكاثوليكي في الشوف الذي كان من نصيب كتلة جنبلاط في البرلمان الحالي في وقت يرعى "حزب الله" تحالفاً بين التيار الحر وبين خصوم جنبلاط في الساحة الدرزية طلال إرسلان ووئام وهاب لتقليص كتلة جنبلاط مسيحياً ودرزياً.
كما أنه حمل على النواب الذين انسحبوا من تكتله النيابي وعلى ثوار "17 تشرين"، بسبب نية تعاون هؤلاء (مثل نعمة أفرام وشامل روكز) مع مرشحين ينتمون إلى المجتمع المدني لإسقاط مرشحته وزيرة الطاقة السابقة في دائرة كسروان ندى بستاني.
أما موقف بري الرافض لطروحات باسيل فيعكس رفضه الالتزام بالانضمام إلى لوائح التحالف بين "أمل" والحزب في كل المناطق. فهو وافق على هذا التحالف بناء لإصرار من "حزب الله"، فقط في المناطق المسيحية و"ليس في مناطقنا"، ما يعني أنه ترك لنفسه حرية التعامل مع خصوم "التيار الحر" في مناطق أخرى (جزين، البقاع الغربي...).