أتذكر أني عرفت روسيا في الطفولة، حين ركبت أول سيارة في حياتي، سيارة ملكها أبي، وقد اشتراها بالتقسيط. سيارة غير معتادة، من حيث ضخامتها وخشونتها، وغير منتشرة. قيل لي إنها سيارة روسية. وقد اشتراها أبي ليس إعجاباً بها، إنما بحسب امكانياته المالية، كما ذكر لي فيما بعد، وأكد أنه لم يسمع بروسيا إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، حين كانت ليبيا تخوض الحرب إلى جانب الحلفاء، من دون العرب كافة، لهذا كان البعض من الليبيين يقلدون شنب ستالين، باعتباره من الحلفاء. لكن أبي قلد شنب هتلر، ليس محبة فيه، بل كرهاً للشوارب الكثة، وبعد نهاية الحرب مباشرة، واتخاذ ستالين موقفاً معرقلاً لاستقلال ليبيا، قال أبي: أحببت أني لم أقلد شوارب ستالين.
لكن روسيا اندلفت إلى بيتنا، عندما كنت صبياً، ومن خلال خطب الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وفي مطلع الستينيات، مع بناء الاتحاد السوفياتي السد العالي في مصر، أخذ أبي الأمي يشتري المجلات المصرية، ويجعلني أقرأ له ما بالمستطاع منها، عن السد وعبد الناصر ونيكيتا خروتشوف، الزعيم السوفياتي، الذي عرفت في ما بعد أنه أوكراني الأصل. وهو أول زعيم أعرفه، ثم أخذني الإعجاب بالاتحاد السوفياتي، من خلال إشادة أبي بخرتشوف. ولهذا، فإن أول رواية مترجمة أطالعها كانت "الأم" للكاتب الروسي مكسيم غوركي.
لكن، في أول الشباب، ومع هوس العقيد معمر القذافي بالسلاح، لن أعرف من روسيا في ليبيا غير سلاحها، وفي مدينتي بنغازي الخبراء العسكريون، من سكنوا حياً عُرف "بشعبية الروس". وفي تلك المراهقة، كان من ركاب الأتوبيس، فتيات شقراوات بعيون زرق، هن بنات الخبراء العسكريين الروس، ولشدة جمالهن بالنسبة إلينا، كنا نركب الأتوبيس لهدف مشاهدتهن ليس إلا.
أتذكر هذا والأخبار تتناقل: أن هناك عملاً على نقل مقاتلين ليبيين إلى أوكرانيا، من أجل المشاركة في حرب روسيا، ما يأتي كما رد جميل، لمشاركة جنود روس، خلال السنوات الماضية، في الحرب الليبية الأهلية، تحت جناح "فاغنر". ومن ناحية أخرى، فإن وزارة الخارجية الروسية، كانت أول وزارة تابعة لدولة كبرى، أعلنت ترحيبها بتعيين فتحي باشاغا وحكومته الجديدة. وذلك جاء رداً على موقف حكومة عبد الحميد الدبيبة، إذ غرَّدت وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، في 24 فبراير (شباط) 2022: "إننا ندين وبشدة، ما حدث في جمهورية أوكرانيا، من هجوم عسكري شنته روسيا، يعد انتهاكاً للقانون الدولي، ونجدد الدعوة إلى التهدئة والتراجع". والغريب أن باشاغا اتخذ موقفاً مماثلاً لحكومة خصمه الدبيبة، من الحرب الروسية في أوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لهذه العلاقة الليبية- الروسية الشائكة تاريخ، فالروس يوم كانوا قادة الاتحاد السوفياتي، وغبّ الحرب العالمية الثانية، كما أشرت، ساهموا في عرقلة استقلال ليبيا، بمطالبتهم بحصة فيها، مثل أن تكون لهم قاعدة وميناء حربي، عندما كانوا يريدون وضع رجل في المياه الدافئة. حتى أقيمت العلاقات الثنائية، بين موسكو وطرابلس، في 4 سبتمبر (أيلول) عام 1955. لكن هذا لم يمنع أن الملكية الليبية كانت تحسب من الطرف السوفياتي، باعتبارها دولة حليفة لخصمه الأنجلوأميركي.
لكن العلاقات الثنائية تطورت بنشاط، بعد الانقلاب العسكري في أيلول (سبتمبر) 1969، وقد اتخذ في البدء العقيد القذافي موقفاً مضاداً للاتحاد السوفياتي، باعتباره دولة ملحدة، مستعمرة لقوميات أخرى تطالب باستقلالها. كان يومها يبشر بنظرية عالمية ثالثة، قوامها الدين والقومية. لكن سرعان ما انقلب على رأيه هذا، فزار موسكو مرات عدة، في 1976 و1981 و1985. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1991، اعترفت ليبيا رسمياً بروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
في 16 أبريل (نيسان) 2008، وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طرابلس، وهي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس روسي، وقد وافق بوتين خلال زيارته على إلغاء ديون ليبيا أثناء توقيعه صفقة طبقاً لمعطيات وزارة الدفاع الروسية، لتزويد ليبيا بأسلحة تشمل تصدير المجامع الصاروخية المضادة للجو القصيرة المدى "تور م 2 ي" و12 مقاتلة جديدة من طراز سو 35، وكذلك بيع وإصلاح قطع الغيار وذخيرة للأسلحة. وكانت ليبيا في أواخر 2007، احتجزت ألكسندر تسيجانكوف، ممثل شركة النفط الروسية "لوكويل"، بتهمة الاشتباه بممارسته التجسس الصناعي!
إذاً، حرب روسيا على أوكرانيا لم تضف جديداً للعلاقة الليبية- الروسية الشائكة، لكنّ بينت أن ليبيا وروسيا لم تنسجما، إلا في جانب واحد أحد هو السلاح، وعند الهوس بالسلاح، وطبعاً ما له علاقة بذلك مثل مسألة المرتزقة، ما يساهم في أزمة ليبيا وتفاقم أوضاعها السياسية.