عادت، خلال الأيام الماضية، الحركة إلى الملف السياسي اليمني، بعد فترة سبات طويلة استمرت منذ فشل الجهود الأميركية والعمانية لتحقيق اختراق من أجل السلام، بعد مشاورات أممية ماراثونية تواصلت طوال عام ونصف، حول وثيقة "الإعلان المشترك" التي عمل عليها المبعوث السابق، والمدير الحالي لمكتب الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفثس، وكادت أن تحيي آمال السلام، لولا رفض الحوثي لها في اللحظة الأخيرة.
ويوم الأربعاء 16 مارس (آذار)، أعلن الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج نايف الحجرف عن استضافة مشاورات يمنية في مقر المجلس في الرياض خلال الفترة من 29 مارس لغاية 7 أبريل (نيسان). وقد سبق الإعلان تسريبات أشارت إلى أن الأمانة العامة تلمست طريقها قبل أن تبعث بالدعوات لجميع المكونات اليمنية، بمن فيهم الحوثيون. وقد وضع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي ستة محاور لما أسماه آلية مفتوحة للحوار، بغرض الوصول إلى وقف لإطلاق النار والانتقال إلى تحديات بناء السلام، وأن الجهد الخليجي يرفد جهود الأمم المتحدة.
وفي العاصمة الأردنية عمّان، يستضيف مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبيرغ، جولة من الاجتماعات والمشاورات مع قوى يمنية مختلفة من الطيف السياسي التقليدي قبل الحرب أو تلك التي ظهرت بعد نشوبها، للبحث عن مقاربة للسلام في اليمن وفق رؤيته التي أطلقها في إفادته أمام مجلس الأمن في 16 فبراير (شباط) الماضي، حينما أشار إلى الخطوط العريضة للكيفية التي سيباشر بها معالجة الأزمة اليمنية، والتي بحسب ما قاله في إفاداته أمام مجلس الأمن، تنطلق من مراجعته العميقة لتجارب المبعوثين السابقين.
ومع دخول النزاع في اليمن عامه الثامن، يعود مجلس التعاون الخليجي لتجديد مساعيه بعدما توقفت منذ مؤتمر الرياض في 2015 مع بدء النزاع في اليمن. وهو المؤتمر الجامع الذي جرى تحت عنوان "إنقاذ اليمن وبناء الدولة الاتحادية". ومن جانب آخر، فإن جهود السويدي غروندبيرغ، تأتي بعد ستة أشهر من تعيينه مبعوثاً رابعاً للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، وبعد تكرار رفض استقباله من قيادة الحوثيين في صنعاء، إلا أنه أفصح عن خلاصة الأفكار التي توصل إليها بعد مشاورات أجراها في عواصم خليجية وعربية مختلفة وجولات كثيرة أبرزها زيارته طهران راعية المليشيات الحوثية.
وتقوم رؤية غروندبيرغ على الاشتغال لصوغ إطار عمل للتحرك نحو تسوية سياسية شاملة متعددة المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية. وهو بهذه الخطوط العريضة لرؤيته لم يخرج عن المألوف في محاولات سابقة للأمم المتحدة لتجزئة المسارات. على الرغم من أن مفتاح الأزمة اليمنية كان، منذ اليوم الأول، ينطلق من شقين، الأمني، وهو الشق الرئيس الذي قام عليه الانقلاب على مؤسسات الدولة، يليه الشق السياسي. وما زاد عن هذا اختلفت مسمياته وتفاوتت ما بين خطوات بناء الثقة، مثل تسهيلات الوصول الإنساني، وفتح مطار صنعاء، وتسهيل الواردات عبر ميناء الحديدة من جهة، أو خطوات اقتصادية وإنسانية من جهة أخرى.
ولم يكن غروندبيرغ بحاجة إلى إعادة اكتشاف مفاتيح الحل الواردة في القرار 2216، على الرغم من أن الحديث عن القرار صار خارج الموضة في أروقة مجلس الأمن هذه الأيام، إلا أنه على الرغم من تحولات المزاج السياسي يبقى القرار 2216 لعام 2015 هو أقوى أداة في ضوء القانون الدولي يمتلكها مجلس الأمن لمقاربة حل الأزمة اليمنية، وينبغي ألا يُقرأ بشكل سلبي أو نفعي من قبل هذا الطرف أو ذاك في الأزمة اليمنية.
وما يختلف فعلاً في مقاربة المبعوث غروندبيرغ، أنه يتطلع إلى توسيع شبكة الأطراف المعنية باتخاذ القرار متجاوزاً الطرفين الرئيسين. وأقصد بهما الحكومة والحوثيين. بل يتحدث عن عملية تشاورية شاملة الأطراف المتحاربة، والمجتمع المدني وقطاعات الشباب والمرأة، والمتخصصين اليمنيين في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها من مكونات المجتمع اليمني الفاعلة في الداخل والشتات.
الحكومة اليمنية وقوى مشروع استعادة الدولة، كانت قد أكدت مراراً عدم جدوى هكذا مقاربة. ولا يعني ذلك بالضرورة رفضها مشاركة المكونات المدنية والناشطين غير الحكوميين، والأطراف أصحاب المصلحة الحقيقية في الداخل والخارج في وقف الحرب والوصول إلى السلام. وكانت الحكومة، وما زالت بحسب علمي، في تشاور مع جميع المكونات حول القضايا المصيرية التي تهم جميع اليمنيين، من منطلق أن الحرب تصنعها العقليات المريضة المتنفذة في لحظة فشلها. وهذا ينطبق تماماً على الانقلاب الحوثي. فيما بناء السلام تصنعه بالضرورة المكونات كلها ضمن مفهوم أصحاب المصلحة.
ما يمكن تحقيقه في البيت الخليجي
مع إقراري اليوم بوجود إشكالية وجودية في تركيبة القوى المنضوية في مشروع استعادة الدولة وتشظيها، وانتشار الفساد في صفوفها، وخروج صراعاتها إلى العلن، واعتمادها المطلق على التحالف، وإلقاء أسباب فشلها عليه. من هنا، فإن مقاربة مجلس التعاون هي الأهم في هذه اللحظة التاريخية بعد سبع سنوات من الحرب، ليس لأنني متفائل بقبول مشاركة الحوثي في جهود مجلس التعاون الذي كانت له بصمات كبيرة في العقدين الماضيين في اليمن، ولكن لإعادة صوغ مشروع استعادة الدولة.
فمن واقع تجربة السنوات الماضية، وتجربتي الشخصية، أكاد أجزم بأن الحوثي لن يذهب إلى الرياض للتشاور حول سلام اليمن ومستقبل العيش المشترك مع القوى السياسية اليمنية الأخرى، التي لا يعترف بها أصلاً. وهو يسعى للتفاوض مع السعودية مباشرة لوهم تملكه بأنه يمثل اليمن وسيادتها. حتى وإن قبلنا جدلاً بأنه ذاهب إلى الرياض، فإن ذلك ينبغي أن يكون ضمن توافقات دولية تنخرط فيها إيران لمصلحتها، وبعد أن تستنفد الورقة الحوثية دورها، وتكون قد باتت بلا نفع للمشروع الإيراني في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المعلن تكتيكياً في الخطاب الحوثي أنه ترك الباب موارباً للمشاركة، شريطة أن تكون في بلد خليجي محايد، وأن تنطلق المشاورات أولاً لرفع الحصار وفتح مطار صنعاء ورفع القيود عن ميناء الحديدة. رد الأمين العام لمجلس التعاون توقع الأمر بتأكيده أن المشاورات ستعقد في مقر المجلس في الرياض بمن يحضر.
إلا أنني أكرر أهمية تحرك الأمين العام لمجلس التعاون في هذه اللحظة التاريخية مع دخول النزاع عامه الثامن، أولاً، لمراجعة ما جرى خلال سبع سنوات من الحرب، وثانياً، لإعادة تصويب وضع الشرعية، وثالثاً، وهو الأهم، لتوحيد الجهد الخليجي في الأزمة اليمنية بعد عودة الروح إلى العمل الخليجي المشترك عقب عثرات السنوات الماضية. فالصوت الخليجي الموحد سيُحدث فرقاً من دون شك. وسيكون للمشاركة العمانية والقطرية والكويتية، وهي المكونات الخليجية غير المشاركة في جهود التحالف، دوراً محورياً مطلوباً في البحث عن أفضل الصيغ لإغلاق الملف اليمني.
كما أن القوى التي شاركت في مؤتمر الرياض الأول، ليست بالضرورة هي اليوم القوى المؤثرة والوحيدة على الأرض، فقد استحال بعضها إلى ظاهرة افتراضية لا وجود لها إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك قوى ظهرت على الأرض بعضها وجد ترجمة لحضوره في اتفاق الرياض 2019، وبعضها ينتظر استيعابه ضمن جهد توحيد قوى مشروع استعادة الدولة، وهو جهد ينتصب أمام الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي لاستكمال التفويض القانوني والأخلاقي الذي منحه إياه الشعب اليمني حينما أمسك بالمبادرة الخليجية لعام 2011، لإنقاذ اليمن.
الأمم المتحدة... الإمعان في إضاعة الوقت
أما ما يتصل بجهود المبعوث الدولي، فإنه على ما يبدو لم يستوعب عثرات زملائه السابقين. وهنا، يمكنني أن أضع تجربة اتفاقات ستوكهولم كمثال لجهود ضائعة وفرص مهدورة قادتها الأمم المتحدة، فبعد حماسة منقطعة النظير، وممارسة أشكال الضغط كلها على الحكومة والتحالف لوقف المجهود العسكري لدخول الحديدة، واعتبار أن اتفاق الحديدة سيشكل مدخلاً حاسماً للتوصل إلى حل سلمي للأزمة اليمنية، وقبل أن يجف مداد الاتفاقات الموقعة، وقبل انحسار غبار المعركة الدبلوماسية، تكشّف فشل الأمم المتحدة الذريع في الحديدة وبعثتها التي لم يعد ثمة أساس قانوني لبقائها. وظهرت تبريرات مفادها أن الاتفاق كان جزئياً ضمن إجراءات بناء الثقة، ولم يرفد بتوافقات سياسية شاملة لاحقة.
ومع إقرارنا بأن غروندبيرغ يمتلك كامل الحق في تنظيم ندوات وورشات عمل في مكتبه والتشاور مع من يريد، فهذا عمله وضمن التفويض الذي منحه إياه مجلس الأمن، إلا أن طاولة مشاورات السلام عليها ما يكفي من المبادرات التي ما زالت تنتظر انخراطاً حوثياً إيجابياً، مثل المبادرة السعودية المقدمة في مارس 2021، ووثيقة الإعلان المشترك، وعديد من التراكمات، وأبرزها وثائق مشاورات الكويت 2016. ولا أعتقد بأن ما في جعبة المبعوث الدولي سيكون مغايراً، إلا من زاوية إضاعة مزيد من الوقت.
وجاء رد مكونات مشروع استعادة الدولة على جهود غروندبيرغ رصيناً وموحداً، في التأكيد على استحقاقات السلام في اليمن وفق مرجعيات الحل المعترف بها يمنياً وإقليمياً ودولياً، وأن تسبق الترتيبات العسكرية أي ترتيبات سياسية. وركزت الرؤية المشتركة على التحديات الإغاثية والإنسانية والاقتصادية، وهي بتقديري مساحة مهمة بإمكان المبعوث الدولي ومكتبه تقديم إسهام حاسم فيها.
وقد سبق لي أن تناولت مع بداية يناير (كانون الثاني) الماضي، في بحث نشره "المركز الأطلسي" في العاصمة الأميركية، تلك التحديات، وأهمية التعاون الدولي لإصلاح الخلل الكبير في الأداء الحكومي، ومعالجة أوضاع القطاع المصرفي، وازدواجيته، وانهيار العملة، وكبح غلاء الأسعار، وضبط موارد الدولة التي يستحوذ عليها أمراء الحرب. فإن كان بمقدور غروندبيرغ تقديم ما يستطيع في هذا الجانب، فسيكون ذلك جهداً كبيراً يسطر كأبرز إنجازاته حينما يغادر منصبه الحالي.
ويبقى الأمل معقوداً في الرياض عاصمة القرار الخليجي والعربي، بعد ثماني سنوات من النزاع والتجارب والدروس القاسية، في التوصل إلى وقف للحرب اليمنية، والجلوس جميعاً كيمنيين تحت سقف الشقيقة الخليجية، الذي لن يكون هناك من هو أرأف بنا منها، للحديث عن مستقبل السلام لأبنائنا بعيداً من ساحات الوغي والموت. فهل يمسك الحوثي بهذه اليد الممدودة له للخروج من نفق الاغتراب والعودة إلى جادة الصواب؟