لطالما لعب الفن دوراً لا يستهان به في تاريخ الحروب والثورات، على مر العصور وعبر كل البلدان. فليس الفنان ذلك الشخص الحالم الذي ينأى بنفسه عن الصراعات حفاظاً على صفو باله، بل هو بالأحرى الروح المنوط بها رفع مستوى الوعي وتوظيف الفن لخدمة المقاومة. ولعل الدور الذي اضطلع به الفن في الحرب الدائرة في أوكرانيا خير دليل وشاهد وبرهان. فما إن بدأت القوات الروسية في التجمع على حدود أوكرانيا، حتى هب الفنانون المقيمون داخل البلد وخارجها للتأثير في الوضع الذي يزداد تأزماً يوماً تلو يوم، سيما وأنه لم يعد يهدد البلدين المتحاربين فحسب، بل العالم بأسره.
فهم أعمق لأوكرانيا وشعبها
من ضمن الرد على الغزو المروع الذي شنته روسيا على أوكرانيا وتضامناً مع الشعب الأوكراني يقام حالياً في الفترة من 12 مارس (آذار) وحتى 8 مايو (أيار)، معرض في نيويورك، (مؤسسة بيكتو وماغنوم) للصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو واللوحات والرسومات والكتب ومقتطفات الأخبار تستهدف تحقيق فهم أكبر لأوكرانيا وشعبها من خلال أعمال قام بها في الأساس، فنانون ووثائقيون أوكرانيون تحت عنوان "في أوكرانيا". ويسمح المعرض لزواره بالتبرع بالمال مباشرة لدعم أولئك الموجودين في أوكرانيا، ويمكن للزوار أيضاً كتابة رسائل ونشر صور تعبر عن تضامنهم مع الشعب الأوكراني، كما يتم التخطيط لإقامة معارض مماثلة في مدن أخرى حول العالم.
كانت المصورة الأوكرانية إيرا لوبو، منسقة المعرض، تخطط منذ وقت طويل هي وزميلها فريد ريشتين، لإقامة معرض تصوير فوتوغرافي عن أوكرانيا، فقد شعرت بنوع من الاستياء بسبب ضآلة معرفة الغربيين بوطنها. ربما لأن الصور عبارة عن ترنيمات متتالية من جملة "انظروا، نحن هؤلاء". تقول لوبو المصورة المقيمة في نيويورك، "بالنظر إلى أهمية أوكرانيا في السياسة الخارجية، شعرت أن من المفيد للأميركيين معرفة ذلك بشكل أفضل". لكن في 24 فبراير (شباط)، عندما وصلت الدبابات الروسية وبدأت الصواريخ تتساقط على وطنها، كان عليها أن تسرع من وتيرة عملها بحيث تصبح جاهزة خلال أسبوعين، لكن المشكلة التي وقفت لها بالمرصاد هي عدم وجود ميزانية كافية!
سرعان ما جاءها الدعم متمثلاً في طباعة جميع الأعمال المقدمة مجاناً من مؤسسة "بيكتو نيويورك"، ومبادرة مؤسسة "ماغنوم" لرعاية المعرض. غير أن مشكلة أخرى تصدرت المشهد تمثلت في صعوبة الحصول على صور رقمية في ظل الوضع المشتعل، يوضح المصور الصحافي مكسيم دونديوك، "في الميدان، عليك أن تركض حرفياً مرتدياً خوذة في منطقة محفوفة بالمخاطر".
جدات على حافة الجنة
قبل أن تهاجر المصورة المخرجة الأوكرانية الأصل يلينا يمشوك إلى الولايات المتحدة، في سن الحادية عشرة، أمضت الصيف في جدروبارك، وهي منطقة ترفيهية على طول نهر دنيبر الذي يلعب دوراً مركزياً في الجغرافيا الثقافية في كييف، وخلال الأشهر الأكثر حرارة تتحول غابات جدروبارك وواجهاتها البحرية إلى ملعب صيفي، "نسخة سوفياتية من جزيرة كوني"، على حد تعبير يمشوك.
في عام 2005، عادت يمشوك إلى جيدروبارك لأول مرة منذ غادرتها فأرجعت إليها "رائحة الأشجار والأسماك المجففة والفودكا المنسكبة" طفولتها، تقول يمشوك عن شعورها بالرحيل من كييف إلى بروكلين وهي في أول المراهقة، "هذه الحرب تسترجع صدمة الرحيل، اللاجئ ذو الحقيبة الواحدة". استمدت يمشوك معظم أعمالها من أوكرانيا، على الرغم من أنها تقيم في نيويورك، فهناك بالفعل تطورت لغتها الفنية. وتشمل لقطاتها الصارخة بالأبيض والأسود أطفالاً يلعبون على الترامبولين "النطاطة"، وعشاقاً يجلسون في الحديقة، كمحاولة للإمساك باللحظات الوديعة التي بددها العدوان. قبل خمس سنوات، نشرت كتاباً بعنوان "جيدروبارك"، وهي الآن بصدد إنهاء كتاب عن تداعيات ضم شبه جزيرة القرم والقتال في دونيتسك. تقول، "تتفتح روح الشعب بطريقة لا تصدق في ظل الحرب". "الكلمة الأخيرة من كل نص يصلني، وكل محادثة أجريها هي "سننتصر" بحسب الجميع".
لا يزال النصر بعيد المنال بالنسبة إلى المصورة إيلينا سوباش، الموجودة بالفعل في غرب أوكرانيا بالقرب من الحدود مع دول الاتحاد الأوروبي. هذه المنطقة الهادئة نسبياً تعرضت أخيراً للقصف، وهو ما جعل سوباش أثناء عملها تساعد النساء والأطفال والمسنين في العبور من أوكرانيا إلى سلوفاكيا، حيث يمثل هذا الحاجز المحطة الأخيرة قبل تشتت العائلات، والشاهد المثالي على قسوة الوداع. تقول سوباش، "لم أر قط كثيراً من الحب، لأنني لم أر من قبل كل هذا القدر من الألم".
التقاط الصور بالشكل الذي يحلو لسوباش يكاد يكون مستحيلاً، لأن فكرة تصوير شخص هش ومدمر بالفعل لم تجرؤ عين الكاميرا على الثبات أمامه، وإن كانت تدرك تماماً أهمية اللقطة. وبدلاً من اقتحام تلك المساحات الحميمية، فضلت سوباش الالتقاط بعدستها، ما يدل عليهم كالأشياء التي خلفوها بين المقاعد، حيث توقفوا للراحة قبل أن يواصلوا الرحيل. تقول، "لا أعرف كيف سيكون شكل الفن بعد الحرب".
يتضمن المعرض أيضاً صوراً من سلسلة سوباتش الشهيرة "جدات على حافة الجنة"، وهي مجموعة من الصور المبهجة بألوانها الجريئة وتوليفاتها المثيرة للاهتمام. بعض منها يسلط الضوء على غطاء الرأس المحبب في أوكرانيا من خلال الجدات اللائي تحملن ويلات الحرب العالمية الثانية، والاستيلاء السوفياتي على السلطة. صور سوباش تخبرنا بالكثير عن مدى الجرأة التي أظهروها للبقاء على قيد الحياة، وإن كانت الألوان المشرقة والمبهجة ليست إلا عتبة مضللة للدخول إلى مشهد مفعم بالحزن والفجيعة. فجدتها لم تعد تقوى على الهروب نظراً لضعفها، ولا تزال عالقة في أوديسا، التي يعتقد أنها الهدف التالي لبوتين.
الفن وسيلة لطيفة لنشر السلام
في عام 2019، حين ظهرت سلسلة المنازل المؤقتة، لم يخطر ببال المصورة داريا سفرتيلوفا أن تلك المنازل ستحظى بهذا الانتشار الواسع في فترة وجيزة. تقدم سفرتيلوفا بعض اللقطات لمساكن الطلاب، الشكل الوحيد للإسكان الاجتماعي في أوكرانيا، وكانت قد تمكنت من تصويرها في زياراتها المتقطعة لوطنها أثناء دراستها في فرنسا، "المباني وظروف المعيشة لا تزال سوفياتية بالفعل، ولكن هناك جيل جديد من الأوكرانيين المؤيدين لأوروبا الذين لا يشعرون بالحنين إلى الماضي مطلقاً. أولئك الذين ولدوا بعد عام 2000 يرون أن البلاد تتجه نحو العولمة".
تكمن أهمية ما نسخته سفيرتيلوفا في صورها "إلى الأبد"، أن معظمه اختفى الآن. عندما تنظر إليها، لا يمكنها رؤيتها بالعين نفسها. تقول، "أتمنى فقط أن يكون كل هؤلاء الأشخاص بأمان. آمل ألا يكون هؤلاء الشباب قد أرسلوا إلى الحرب. آمل ألا تكون الفتيات في مدن تعرضت للقصف". وتضيف، "بعد أن بدأت الحرب، كنت أسير في الشارع وأشرع في البكاء. منذ يومين، سمعت طفلًا يبكي، وأول ما خطر ببالي هو صور لجثث أطفال. أنا في فرنسا، لكن جزءاً مني موجود في أوكرانيا".
أن تكون روسياً صالحاً
هؤلاء المصورون الأوكرانيون وغيرهم ممن يهمهم الأمر، حشدتهم لوبو في معرضها في نيويورك، من بينهم فنان روسي يدعى أليكسي يورينيف، تقول عنه "أعلم أن قلبه يتألم من أجل بلاده والروس المندفعين الذين يدعمون هذا الغزو. إنه نوع مختلف تماماً من الجحيم. فهو يبكي ويحزن معنا، نحن حلفاء. من الصعب أن تكون روسياً صالحاً هذه الأيام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن المعرض مجرد رد فعل على الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكنه بمثابة تعريف بالثقافة الأوكرانية والشعب الأوكراني وإعلان عن روح المقاومة العالية التي لابد أن يتمتع بها الفنان في موقف كهذا. وباختصار كما تقول سوباش، هذه القصة لا تتعلق بالألم وإنما بالفخر بالشعب الأوكراني الذي وحدته الحرب في كيان واحد.