تكافح منطقة ومدينة الجيلي السودانية التاريخية الأثرية هذه الأيام من أجل الصمود والبقاء، في مواجهة خطر وسطوة ظاهرة "هدام النيل"، التي تتسبب في تآكل التربة على ضفاف النهر، فبعد أن التهم النيل 80 في المئة من أراضيها الزراعية ببساتينها وأشجارها من الفواكه والموالح والخضراوات، يتجه الآن صوب المنازل السكنية، مستهدفاً المساكن والأرواح البشرية.
ابتلاع الأراضي
وباتت المدينة التي لا تبعد عن قلب الخرطوم سوى 45 كيلو متراً شمالاً، على مرمى 300 متر فقط من اكتساح "هدام النيل"، بعد أن تقلصت المسافة بينها والنهر من نحو 3 كيلو مترات في 2004، أصبحت خلال السنوات العشر الأخيرة (2011 - 2022) في المرمى المباشر لزحف الهدام المتسارع، وسط تدخلات ومناشدات للمنظمات والسلطات المحلية والإقليمية والدولية المهتمة بالمدن التاريخية بمد يد العون لإنقاذ هذه المدينة التاريخية.
ويعد جرف التربة من أسفل ضفاف النيل ظاهرة بيئية خطيرة يطلق عليها محلياً "الهدام"، وهو اشتقاق من الفعل، هدم يهدم هدماً، يؤدي إلى تآكل الضفاف، وهي عملية أذاب فيها النيل مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وما زال يبتلع المزيد، مقتلعاً مئات البساتين والأشجار المثمرة فيها، وفي منطقة الجيلي جرف الهدام ما يقدر بأكثر من ألف متر، مع فقدان مساحات كبيرة مزروعة بأشجار الليمون والجوافة والمانغو.
ومن جملة المساحة الخاصة بالمزارعين على شواطئ النهر التي تقدر بنحو 300 فدان، التهم الهدام نحو 250 فداناً، ولم يبقَ منها سوى 50 فداناً مهددة أيضاً بالزوال، كانت تنتج الخضراوات والفواكه لسد احتياجات سكان ولاية الخرطوم، أما مساكن المدينة فلم يعد يفصل بينها وبين شاطئ النيل إلا بضعة أمتار بعد أن التهم الكثير من الأراض الزراعية الخصبة.
وفي محاولاتهم التقليدية الذاتية، ابتكر المواطنون أفكاراً متعددة لمواجهة ذلك الخطر الكبير، منها قطع الأشجار وخلط أعوادها بالأسلاك والأسمنت واستخدامها في رصف الشاطئ، أملاً في إيقاف زحف نهر النيل، وهو ينحر تربة الضفاف، لكن يبدو أنها لم تفلح في كبح جماح تمدد الظاهرة التي باتت تطرق أبواب المساكن الآن.
حلول إنقاذية
وفور تلقيها إخطاراً بتجدد الواقعة، هرعت سلطات التخطيط العمراني والطرق والجسور والمصارف في ولاية الخرطوم إلى المنطقة، وقامت محلية مدينة الخرطوم بحري ببعض التدخلات لدرء تقدم الهدام، منوهة إلى أن المنطقة ما زالت ضمن الخطة الطارئة ضمن تقرير فيضانات العام الماضي.
وأبدى المدير التنفيذي لمحلية بحري، سليمان مجذوب، دهشته من حدوث ظاهرة الهدام في مثل هذا التوقيت الغريب وغير المعتاد، في غير موسم الفيضان، مشدداً على أهمية حماية هذه المنطقة التاريخية والمنتجة، معرباً عن أمله في تضافر جهود كل المستويات من أجل هزيمة الظاهرة للمحافظة على هذه المدينة.
وأوضح مجذوب أن الوحدة الإدارية بالريف الشمالي تشهد حركة نشطة لدعم المعالجات الهندسية ودفعت بكل آلياتها التي أسهمت في توقف الهدام بثلاثة مواقع من أصل ستة يجري تعزيزها بنفير من أهالي مدينة الجيلي.
إسعافياً، قامت إدارة التخطيط العمراني بالمحلية بتوفير عدد من الآليات، بينما تبلغ الحاجة ثلاثة أضعاف المتوفر حالياً، وتكفل مواطنو المنطقة بتوفير الوقود والصيانة وتكلفة التشغيل والتسيير البالغة نحو 2.5 مليار جنيه، ما يعادل نحو 4 آلاف دولار يومياً.
وفي السياق، يقول حامد النصيح، نائب رئيس اللجنة العليا لمكافحة الهدام بمنطقة الجيلي، إن خطر الهدام بدأ بصورته العنيفة منذ عام 2011، ولكن هذا العام هو الأعنف مما كان عليه في الماضي المشار إليه، مبيناً أن مئات الأفدنة من الأراضي الزراعية الخصبة تآكلت بفعل الهدام، وذابت في مياه النيل، وفقد عشرات المزارعين بساتينهم مع أشجار الفواكه المثمرة، إضافة إلى مساحات أخرى كبيرة من مزارع الخضراوات والأعلاف.
هل من مزيد؟
يضيف النصيح، أن النيل ما زال مستمراً في ابتلاع المزيد من الأراضي والمزروعات، وبات الآن يهدد المساكن نفسها، فبعد أن كانت المسافة بين النيل ومساكن المدينة قبل بداية الهدام في 2011 نحو ثلاثة كيلو مترات، تقلصت الآن المسافة، وأضحت لا تتعدى 300 متر تقريباً، ما يعني أنه ما لم يتم تدارك الموقف بالسرعة المطلوبة سيطاول الخطر الناس وبيوتهم كحقيقة ماثلة.
يردف نائب رئيس اللجنة، "سابقاً كان الهدم يحدث في فصل الفيضان، أما هذا العام فقد أصبح الهدم بعد نهاية الفيضان أعنف، وذلك بسبب ظهور جزيرة قبالة الجيلي أدت إلى تحول التيار إلى الناحية الشرقية وتسبب ذلك في الهدم العنيف والمتواصل".
وبشأن خطط وجهود المكافحة الجارية، يوضح النصيح، أن العمل الإسعافي بدأ منذ نحو ثلاثة أسابيع بصورة ذاتية من أهالي مدينة الجيلي ومعاونة محلية الخرطوم بحري التي وفرت عدداً من الآليات تحمّل أهالي المنطقة بتكلفة تسييرها مع إيجار شاحنات إضافية.
ووصف نائب رئيس اللجنة العليا، العمل الإسعافي الحالي بأنه عبارة عن عمل 6 كواسر (عراضات أسمنتية داخل مجرى النهر) بين كل كاسر والآخر مسافة نحو 300 متر لتحويل اتجاه التيار بعيداً من الضفة الشرقية، ويتوقع أن ينتهي العمل الإسعافي بحسب الخطة بعد نحو 45 يوماً من بدايته.
من جانبه، أوضح عقيل أحمد ناعم، مقرر اللجنة العليا لمكافحة الهدام، أن جذور الظاهرة تعود إلى الفترة بين 2004 حتى 2011، لكنها لم تكن تشكل حينها خطراً محسوساً بالنسبة للمواطنين، لكن تصاعدت حدة الظاهرة بشكل لافت في السنوات التالية وتزايدت المساحات التي يقتطعها الهدام سنوياً، وباتت شديدة الخطورة في الأشهر الأخيرة، فبعد أن كانت المسافة الفاصلة بين النيل ومساكن المدينة نحو ثلاثة كيلو مترات، لكن نتيجة لتسارع زحف النيل خلال السنوات من (2008 - 2009) باتت المسافة الآن ما بين 300 و400 متر فقط.
تضاعف الخطر
لم يُخفِ ناعم أن الخطر الآن يتضاعف ويتسارع أكثر مما كان عليه في السابق بعد خسارة وفقدان 80 في المئة من الأراضي الزراعية على امتداد طول 2 كيلو متر، وعرض نحو 1700 متر كلها التهمها النيل، مشيراً إلى أن مكمن الخطورة في أن أغلبية الناس هنا من فئة المزارعين الذين فقدوا مصدر رزقهم، بينما يشعر الجميع بالرعب بعد اقتراب خطر هدام النيل من مساكنهم إلى هذه الدرجة المُخيفة.
وأشار مقرر اللجنة إلى أن المعالجات الإسعافية الجارية منذ أسبوعين تركز على كسر حدة التيار وتغيير اتجاهه مجدداً نحو وسط النهر، بعد أن تسبب ظهور بعض الجزر في منتصف النهر في توجيهه صوب الضفة الشرقية، وما زاد الطين بلة هو هشاشة تكوين تربة الضفة الرملية وعدم وجود نباتات عشبية تشكل حماية اللازمة لها، كما تجري أيضاً ضمن تلك المعالجات تغيير تركيبة التربة على الضفة بإضافة تربة صلبة وبعض الصخور إليها لزيادة قدرتها على مقاومة الهدام وكبحه.
وأوضح ناعم أنه في إطار البحث عن معالجات طويلة الأمد أجرت وزارة الري مسوحات وقراءة علمية للوضع لمدة أسبوعين متتاليين، أعدت خلالهما تقريراً وافياً من مئة ورقة لتشخيص المشكلة وتحديد طبيعة سلوك النهر في هذه المنطقة، ونحن الآن بصدد النظر في الاستعانة ببيت خبرة لديه المقدرة والخبرة في التعامل مع تقرير خبراء وزارة الري عبر برنامج متخصص في المُحاكاة الحاسوبية لطبيعة النهر واقتراح الحلول اللازمة التي تتوافق مع طبيعة المشكلة وسلوك النهر، أما الحل الجذري المستديم برصف الضفاف بالصخور والأسمنت فيتم وفق نظام علمي محدد لا تقل تكلفته عن ما يتراوح بين 5 و9 ملايين دولار.
سباق مع الزمن
وأكد ناعم أنه لا توجد حتى الآن أي خطة لتهجير السكان، واعتبر هذا الخيار غير مطروح بشأن 3 آلاف أسرة مهددة بشكل مباشر، لكن هناك لجنة متخصصة من مواطني المنطقة خاطبت وزارة التخطيط العمراني لتخصيص أراضٍ سكنية جديدة شرق المنطقة، حيث هناك عدد كبير من الشباب لا يمتلكون أراضي أو خطة إسكانية رسمية لأن الأراضي بالمنطقة أصبحت محدودة، وليس هناك أي مجال لاستيعاب أعداد جديدة من السكان.
ويشير مقرر اللجنة العليا إلى أن الجهود تسابق الزمن من أجل تنفيذ الخطة الإسعافية قبل حلول فصل الخريف، مطالباً بسرعة توفير الإمكانات اللازمة من آليات وخلافه حتى يتسنى الفراغ من العمل خلال مدة شهر من الآن، إلى حين التوصل إلى المعالجة الجذرية، بخاصة والمنطقة تقع في مرمى السيول والفيضانات ودرجت على الاستعداد لها مبكراً بإقامة الحواجز والسدود الترابية لصدها.
وأكدت وزارة الري والموارد المائية أنها ظلت ترصد الموقف عن كثب، وأن صور الأقمار الصناعية لمنطقة الجيلي أظهرت أن المشكلة تفاقمت منذ عام 2005، وبلغ تآكل الضفاف نحو 1.5 كيلو متر، ما يمثل تهديداً للزراعة، لكن تفاقمت المسألة حالياً بتهديد وجود المدينة كلها.
وأوضح مدير عام شؤون المياه بالوزارة، المهندس عبد الرحمن صغيرون، في تصريحات صحافية محلية، أن وضع الحلول لمشكلة الهدام عادة ما يتم بعد إجراء دراسات لاختيار الحل الأنسب، وحساب التكلفة، مشيراً إلى أن تلك الحلول تشمل عمل حماية للشواطئ ببناء حجري لمقاومة النحر، أو بتغيير اتجاه تيار الماء بإنشاء عراضات داخل النهر.
وتشتهر منطقة الجيلي بالإنتاج الزراعي البستاني من الفواكه والخضراوات التي تعتمد عليها أسواق ولاية الخرطوم في سد احتياجاتها من تلك المنتجات، كما تضم المنطقة قصر الزبير باشا التاريخي القائد العسكري الذي حكم عدة مناطق سودانية في أواخر القرن التاسع عشر الشهير بـ"قصر الباشا".