يواجه الاقتصاد العالمي تحديات عدة في وقت واحد تنذر بتعديل توقعات النمو هذا العام واحتمالات الركود الاقتصادي الذي يشبه ما حدث خلال عام أزمة وباء كورونا 2020، وتضافرت عوامل ثلاثة لتعكس توجه الانتعاش الذي كان متوقعاً للخروج من أزمة وباء كورونا إلى مخاطر ركود تضخمي في ظل ارتفاع معدلات التضخم واضطراب التجارة الدولية نتيجة الحرب الروسية في أوكرانيا وما يصاحبها من عقوبات اقتصادية وحصار اقتصادي غربي لموسكو.
وتزامنت أزمة أوكرانيا في شرق أوروبا مع عودة الإصابات بفيروس كورونا في الصين وبدء السلطات إجراءات مشددة للحد من انتشار الوباء مع ما يتبعه من إغلاق تام لبعض المناطق ما يعطل النشاط الاقتصادي تماماً، أما العامل الثالث فهو أزمة لاجئين من أوكرانيا تواجهها دول أوروبا ربما أكبر من أزمة المهاجرين في عام 2015.
صعوبة التوقع
لذا، أعلن ماتياس كورمان رئيس منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، الأسبوع الماضي، أن المنظمة التي تقدم الاستشارات للدول الصناعية الكبرى "ليست في وضع يمكنها من إصدار توقعاتها للاقتصاد العالمي" كالمعتاد، بينما غيرت كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي الذي يضع السياسة النقدية لدول الاتحاد الأوروبي، لهجتها بشأن توقعات أداء الاقتصاد، فقبل شهر، كانت ترى أن الاقتصاد الأوروبي سينمو بوتيرة جيدة تمكنه من تجاوز موجة ارتفاع معدلات التضخم، لكنها أعلنت، الأسبوع الماضي، أن الحرب في أوكرانيا تطرح تحديات جادة وخطيرة تهدد فرص ذلك النمو.
كما ارتفعت الأسهم الصينية بشدة في تعاملات نهاية الأسبوع بعد تصريحات نائب رئيس الوزراء الصيني، وأكبر شخصية اقتصادية في البلاد، ليو هي، بأن الحكومة "ستدعم الاقتصاد والسوق في الربع الأول" من العام، وستعمل على "سياسات إيجابية بالنسبة للسوق". وجاء التدخل الحكومي الصيني نادر الحدوث تعبيراً عن قلق السلطات الصينية من التحديات التي تفرضها أزمة الوباء الجديدة، إضافة إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان من المفترض، بحسب كل التوقعات من المؤسسات الدولية الكبرى، أن يكون هذا العام 2022 عام الانتعاش الاقتصادي للخروج من أزمة وباء كورونا خلال عامي 2020 و2021. وفي آخر تقديراته للاقتصاد العالمي، نشر صندوق النقد الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تقريره نصف السنوي، متوقعاً نمواً عالمياً في حدود خمسة في المئة.
معدلات التضخم
وذكر التقرير أن معدلات التضخم ربما تمثل مشكلة تجعل النمو لا يزيد سوى قليل على ثلاثة في المئة، لكنه أضاف أن النمو السريع في الناتج المحلي الإجمالي العالمي "يمكن أن يقلل من تلك المخاطر مع تراجع اختلال معادلة العرض والطلب في الاقتصاد خلال عام 2022، واستجابة السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى لذلك".
لكن، كل تلك التقديرات المتفائلة تبخرت تقريباً أمام تحديات الحرب والإغلاق واللاجئين، كما يخلص تقرير مطول لصحيفة "فاينانشيال تايمز" في عددها الأسبوعي، وفي مقابلة مع الصحيفة يقول ناتان شيتس، كبير الاقتصاديين في بنك "سيتي" والمسؤول السابق في وزارة الخزانة الأميركية، إن التوقعات بنمو اقتصادي عالمي في حدود خمسة في المئة في 2022 لم تعد صالحة. ويضيف، "إذا طال أمد التوتر في أوكرانيا أو تصاعدت الأوضاع أكثر، فإن نسب النمو المتوقعة لهذا العام ستنخفض بشدة".
سيناريوهات متشائمة
وأدت الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا المصاحبة لها إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء حول العالم، بالتالي زيادة هائلة في معدلات التضخم ربما لا تكفي سياسات التشديد النقدي للبنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة لكبح جماحها. وأضافت العقوبات إلى اختناقات سلاسل التوريد، التي لم تتعافَ بعد من أزمة وباء كورونا، ثم جاءت موجة انتشار فيروس كورونا الجديدة في الصين ورد فعل السلطات الصينية بإغلاقات واسعة في البلاد لتضيف إلى مشاكل سلاسل التوريد وتعطل التجارة العالمية.
على سبيل المثال، أوكرانيا أكبر منتج لغاز النيون، وتوفر نحو 70 في المئة من تجارته العالمية، ويستخدم الغاز أساساً في أشعة الليزر التي تستخدم لصناعة أشباه الموصلات، أما روسيا مثلاً، فهي أكبر منتج في العالم للبلاديوم، الذي يستخدم في تصنيع المحولات البيئية في السيارات.
وبحسب ما نقلت "فاينانشيال تايمز" عن هربرت ديس، الرئيس التنفيذي لشركة صناعة السيارات الألمانية "فولكس فاغن"، فإن الحرب في أوكرانيا، بخاصة إذا طال أمدها، يمكن أن تكون "أسوأ بكثير وأكثر ضرراً" للاقتصاد الأوروبي من أزمة وباء كورونا، وبرر ذلك بتعطل سلاسل التوريد وزيادة معدلات التضخم وتراجع المعروض من الطاقة.
وعلى الرغم من أن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي لم تنشر تقريرها بتوقعات أداء الاقتصاد العالمي، فلأنها رسمت بعض السيناريوهات المحتملة حسب مدى توسع الصراع في شرق أوروبا وطول أمد الحرب في أوكرانيا واستمرار ارتفاع أسعار السلع والمنتجات هذا العام، وفي تلك السيناريوهات، يتوقع أن يكون تأثير الأزمة على اقتصاد منطقة اليورو ضعف تأثيره على الولايات المتحدة. ويقول كبير الاقتصاديين في المنظمة لونس بون، "هناك اختلاف حقيقي بين أسعار الغاز الأميركي والروسي، وستكون الصدمة أكبر في أوروبا لأنها تعتمد بشدة على الغاز الروسي".
وتوقع سيناريو المنظمة تراجع الاقتصاد في دول منطقة اليورو بنسبة 1.4 في المئة، إلا أن كثيراً من الاقتصاديين يرون ذلك السيناريو متفائلاً، ولا يقدرون تماماً تأثير الحرب في أوكرانيا بالكامل، ويتوقع البعض أن تشهد بعض الاقتصادات الأوروبية ركوداً، أي انكماش الاقتصاد (نمو بالسالب) لربعين متتاليين هذا العام، حتى بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي "بريكست" بالفعل، يُتوقع أن تعاني بشدة تأثير الحرب في أوكرانيا على أوروبا، وكما ذكر وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك هذا الأسبوع، فإن بريطانيا تواجه خسارة أكثر من 92 مليار دولار (70 مليار جنيه استرليني) من تبعات الحرب الأوكرانية.