هل أضحى الفساد في العراق ظاهرة يتحدث عنها الناس وكأنها حقيقة ماثلة أمام أعينهم؟ أم أن الموضوع مبالَغ فيه، ويقع في إطار الإسقاط السياسي في هذه المرحلة التي تلت التغيير الذي شهده العراق بعد احتلاله في عام 2003؟
أم أن المبالغات وتضخيم الظواهر التي اعتاد الناس في العراق سلوكها، وهي ظاهرة ليست طارئة، تقف وراء هذا التهويل الذي يشهده المجتمع العراقي، وأحاديثه اليومية التي تخرج عبر منصات الميديا في أكثر من 70 قناة فضائية، وهي منصات تابعة لجهات تُتهم بالفساد، توجهاً وتمويلاً، كذلك في منصات التواصل الاجتماعي، التي باتت تتحكم اليوم في حياة الشعب وأضحت ديدنه للقول والفعل في وصف ما يحدث في البلاد؟
مراحل الفساد بين الأفراد والقوى المجتمعية
في البدء، يصف المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة العراقية، الدكتور مظهر محمد صالح، الفساد في العراق بأنه يندرج في مظهرَين رئيسَين، الأول يسميه "الفساد الأصغر"، ويقول إنه "يحدث على نطاق ضيق ضمن أطر اجتماعية قائمة، ونواميس حاكمة تبدأ عند موظف الخدمة العامة في استخدام العلاقات الشخصية للحصول على منافع وأفضليات وينتهي بقبول الهدايا وتقاضي الرشوة سراً"، وبين "الفساد الأكبر" الذي يصفه بأنه "يحصل في أعلى الهرم الوظيفي الحكومي، وهو النوع الذي يستشري في النظم الشمولية أو في الأنظمة التي لا تمتلك سياسات كافية في مراقبة الفساد الأكبر والتصدي له، التي يجسدها في الغالب عدم وضوح الرؤية حول فصل السلطات".
ويتعمق المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة العراقية أكثر في تشخيص الظاهرة التي تتعدى المظهرَين أعلاه، فيقول إن "بين هذا وذاك أجد في ظاهرة الفساد مسمى الفساد النظمي، هو الأقرب في تفسير مظاهر الفساد المتفشية أو الوبائية في العراق الناجمة بالأساس عن ضعف التنظيم الإداري وتعثر العمليات الإدارية ضمن الهرم الوظيفي الحكومي الواحد، إذ يولّد ذلك الضعف أو الوهن في التركيب الإداري، حالةً من التناقض أو الترابط العكسي في العلاقات الوظيفية، فكلما يزداد التدهور الإداري في النوع تزداد ممارسة الموظفين الحكوميين للفساد، كالرشوة والابتزاز واختلاس الأموال العامة وغيرها".
الإدارة الواهنة
في العراق، أدمن الأغلب الأعم من موظفي الدولة كل تلك الظواهر التي أوردها مستشار الحكومة، لسبب رئيس هو أبعد من الوهن الإداري نتيجة شيوع ظاهرة الإفلات من العقوبة الرادعة التي توجب قيام الموظف بالواجبات الحكومية، جراء الشعور بالحماية لدى قوى وظيفية تتصرف على أهوائها وصلت إلى حد قيام ضابط كبير يترأس وحدة عسكرية ببيع معداته العسكرية المؤتمن عليها، في السوق السوداء بهدف كسب المال. ويُعدّ ذلك من المحرمات التي يعاقب عليها القانون العراقي بالإعدام تحت قانون خيانة الأمانة العامة. وقد صُدم المجتمع جراء هذا الخبر، لكنه مرّ مرور السحاب "لا ريث ولا عجل"، كما يقول الشاعر.
جذور الفساد في العراق
لكن الحقيقة التي يدركها المتخصصون في العراق والمتابعون لخطوط مساراته السياسية والاقتصادية، هي أن الفساد لم يكن وليد الحالة التي تلت عام 2003 فحسب، وما تبعها من غطاء وفّره الاحتلال الذي فك أطر الدولة وإدارتها وحل مؤسسات الدولة الرئيسة وإبدالها بدوائر وبموظفين ناقصي الخبرة والتجربة فحسب، بل تعود ظاهرة الفساد إلى حقبة الحصار الاقتصادي، التي بدأت بُعيد غزو الكويت في الثاني من سبتمبر (أيلول) 1990، واستصدار أكثر من 80 قرار دولي، من مجلس الأمن والأمم المتحدة، لمعاقبة العراق خلال الحصار والحرب التي شُنت على النظام السابق، وخساراته المتلاحقة بالعقوبات من جهة والتدمير الذي لحق به جراء مغامرة الكويت من جهة أخرى.
وخلفت تلك الخسائر انحداراً في البنية التحتية وأضرت ضرراً بالغاً في البنية المجتمعية العراقية، فسادت الرشوة وتزايدت أعداد العاطلين من العمل وتقلصت فرص المعيشة، وأُعلنت سياسة التقشف الاقتصادي، ما وضع العراق كله تحت وطأة أحوال جديدة، أشاعت خلال 13 سنة عجاف، ظواهر لم يعرفها العراقيون من قبل، أهمها شيوع الرشوة وتناقص فرص الرفاه وانحدار مستوى العيش بشدة.
عالم منفلت
ومهدت هذه الأحوال لشيوع مظاهر الفساد والرشوة في عموم تصرفات الموظفين الحكوميين في حقبة الاحتلال، وفق توصيف أحد الخبراء، فانتشرت عملية الحصول على المكاسب الشخصية، من خلال أداء الوظيفة العامة، وتفشى الفساد على الرغم من أن المجتمع كان يصفه بـ "السلوك غير المشرّف للموظف الحكومي"، لكنه وقع بيد أصحاب السلطة، المدعومين بالسلاح المنفلت والميليشيات التي تمكنت من تأسيس ما يسمى بـ "اللادولة" المتحكمة بأداء الدولة، فاقترن ما هو سياسي بالفساد وبالقيام بكل ما يخالف قواعد السلوك الوظيفي.
وأوضح الدكتور منقذ داغر، رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث، أن "الفساد ظاهرة بدأت في العراق خلال الحصار الاقتصادي، بعد العام تسعين من القرن الماضي، وكانت أسبابه اقتصادية - سياسية، لكن السبب الاقتصادي هو الأساس، وبعد الاحتلال، تحولت هذه الظاهرة من جزر متناثرة إلى حالة متجذرة والسبب الرئيس هو نظام المحاصصة السياسية الذي بُني على وجود الأحزاب، التي لم تنشأ بشكل طبيعي، بل جاءت من الخارج أو أنشئت حديثاً وتريد أن تدير السلطة وهذا يتطلب أموالاً طائلة، فتمولّت من خلال العمل السياسي، في وقت ضعفت مؤسسات الدولة القائمة، وساعد ذلك على انتشار ظاهرة الفساد. كذلك فإن الاقتصاد الريعي والاعتماد تماماً على النفط وتحطيم كل البنى التحتية في الاقتصاد العراقي، أدى أيضاً إلى زيادة انتشار تلك الظاهرة، بالتالي فإن الأسباب مركّبة، سياسية- اقتصادية، ثم تحولت إلى ظاهرة اجتماعية، وباتت المقبولية لها أكبر وهذا أخطر ما في الموضوع". وذهب رئيس "المجموعة المستقلة للأبحاث" إلى القول "إن أسوء مداخل المعالجات هو المدخل القانوني، على الرغم من أنه مطلوب في المرحلة الأولى من مجموعة المعالجات المطروحة. لكن الموضوع يتطلب تضافر جهود مشتركة للقضاء على الفساد، ويبقى المدخل الأساس هو الاقتصاد، حين يتم التحول إلى الخصخصة، على أن ترفع الدولة يد سيطرتها على الاقتصاد، الأمر الذي سيساعد كثيراً في الحل، ترافقه عملية إصلاح سياسي شامل".
حقبة اللادولة
من جهة أخرى، وصف مازن صاحب الشمري، نائب رئيس مركز حلول للدراسات المستقبلية، الفساد السائد في العراق، فقال "إن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2021-2025، حددت أسباب الفساد بالسياسي والمجتمعي ثم الفساد الإداري والمالي. واقع تصنيف العراق كدولة مدنية زراعية ربما انخفض بعد عام 2003 إلى حالة اللادولة، وطفا على سطح إدارة السلطة، شرائح مجتمعية طفيلية من نتاج أحزاب المعارضة العراقية السابقة التي سارعت إلى إعادة توزيع الوظائف العامة على مؤيديها، في تعيينات تصاحب كل دورة انتخابية وضخّمت أعداد موظفي الجهاز الحكومي، من حوالى مليون قبل عام 2003، إلى حوالى 6 ستة ملايين موظف، منهم أكثر من مليونين في الجهازَين العسكري والأمني".
ورأى الشمري أن "معضلة الفساد تحولت من مجرد ظاهرة منبوذة إلى واقع للتباهي وعدم الخجل، بأن فلان قادر على تجاوز القانون بسلطة حزبه أو واقع السيطرة على الأرض من خلال السلاح المنفلت، العشائري أو العائد للأحزاب، مما أدى إلى فشل الأجهزة الرقابية في اتخاذ إجراءات واضحة ومباشرة للوقاية من الفساد، مثل تعديل قانون النزاهة للكشف عن الذمة المالية، والإجابة عن سؤال من أين لك هذا؟ الذي ما زال خارج سياق التطبيق، ولا مَن يسأل الطبقة السياسية عما امتلكت قبل وبعد 2003".
سوء الإدارة
في السياق، ينفي وزير الكهرباء العراقي السابق، كريم وحيد، لـ "اندبندنت عربية" أن يكون الفساد في العراق "منهجي" كما يصفه مراقبون كثر، فقال "إنه ليس فساداً منهجياً، بل سوء إدارات، وفشلاً سياسياً سمح بتغول الطائفية والقومية على حساب الوطنية الجامعة. وهذا النظام السياسي السائد، سمح بإنتاج دويلات هدفها تعظيم مواردها الاقتصادية والسياسية على حساب الدولة الأم وهي العراق". وعن الحديث المتواتر حول فساد قطاع الكهرباء الذي استهلك أكثر من مئة مليار دولار حتى الآن، قال وحيد إن "القطاع الاستثماري في الكهرباء سياسي وفاسد وليس اقتصادياً، وسيسهم في انهيار الاقتصاد العراقي كونه أصبح مورداً لدويلات المدن الطائفية والقومية، على حساب النظام الوطني القطاعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأورد وزير الكهرباء السابق حلولاً لظاهرة الفساد التي ارتأى أن تبدأ من تغيير الدستور، كونه المظلة التي تحمي تشكيل "دويلات المدن" فلا بد برأيه "أن يتغيّر النظام السياسي، من نظام ديمقراطي إلى نظام مركزي وطني كخطوة أولى لبناء النظام المؤسسي حتى يكون المجتمع مؤهَلاً للبناء الديمقراطي المنشود".
الفساد ظاهرة عالمية
من ناحية ثانية، ذهب الباحث في الشأن الاقتصادي العراقي، مازن العبودي إلى اعتبار أن "الفساد ظاهرة عالمية غير مقتصرة على العراق بنسب متفاوته وأشكال شتى، لكن الفساد في العراق، الذي بدأت مؤشراته منذ تسعينيات القرن الماضي، مرتبط بعوامل عدة، منها الحصار الاقتصادي وانهيار الاقتصاد العراقي وتأثير ذلك على مستوى معيشة الفرد، ما أدى إلى هزال النظام في كل مفاصله، بالتالي ظهرت عمليات الفساد وقتها، وصولاً إلى عام 2003 مع انهيار الدولة، وكل دوائرها وتنظيماتها الإدارية، وصار تقسيم السلطة بشكلها المعروف المحاصصي والطائفي والمكوناتي، بالتالي صار المعيار ابتداءً من عام 2003 ليس الوطن ولا العمل للدولة، بل بات المعيار هو العمل للطائفة، وتعدى ذلك حتى في تقسيم الموازنة وغيرها من التفاصيل المالية، وتلاه الانتماء للحزب ثم العائلة. وبغياب المحاسبة وتدخل السلاح المنفلت وفرْض سيطرته وضعف القانون، أصبح العمل في الدولة العراقية كأنه عمل لمكسب خاص للأحزاب والأفراد ومَن يسمون بالرموز السياسية، وكأن دوائر الدولة صارت ملكاً خاصاً لهؤلاء، بالتالي كل ما يأتي كموارد لهذه الدوائر من خلال الموازنة أو من خارجها، هو ملك خاص لهذه الأحزاب والطوائف".
نهاية عمر الدولة؟
وخلص الباحث الاقتصادي العبودي إلى القول "إن العراق بعدما أمضى مئة عام من عمر الدولة وصل إلى حافة المرحلة النهائية من عمر الدولة، على الرغم من أن عمرها بالقياس إلى الدول الأخرى ليس كبيراً، وذلك بسبب عاملَين أساسيَين أولهما تقسيم السلطة بين الطوائف، بالتالي أوجد ذلك أمراء حرب يقتسمون الغنائم والسلطة والقوة في البلد، والعامل الثاني هو انتشار الفساد الذي أصبح ثقافة حقيقية نتيجة أن المواطن والموظف البسيط يرى أن المسؤول الأكبر فاسد، فصارت ثقافة عامة. ويتطلب وقف ذلك، إعادة رسم سياسة حقيقية لمكافحة الفساد، تشمل فرض قوة القانون وجهات رقابية لها القدرة القانونية والسلطة لتحاسب بشكل فاعل وعادل وليس بشكل انتقائي".
حكم رئاسي لا برلماني
كذلك، يعتبر الكاتب حسن حنظل النصار أن "ظاهرة الفساد سببها نفوذ الأحزاب وتقاسم السلطة في ما بينها، حتى أن الوزارة عبارة عن دكان للحزب، يتم من خلاله تمويل الحزب. لذلك نجد أن الوزير الفاسد مسنود دائماً من حزبه، فلابد من حكم رئاسي يقضي على سلطة وسطوة الأحزاب".
يبقى القول إن الآراء في تشخيص ظاهرة الفساد في العراق كثيرة وسنتابعها في حلقات مقبلة.