منذ أكثر من 5000 عام يُمارس المصريون التحطيب بشكله المتعارف عليه كنوع من أنواع المبارزة بالعصا. فمشاهد التحطيب مسجلة على جدران المعابد في مصر القديمة، وأبرزها الكرنك، والبر الغربي بالأقصر، ومقابر بني حسن بالمنيا، ليظهر المتبارزون في منافسات لم تنقطع، وإنما تطورت مع توالي العصور، وحافظت في الوقت نفسه على روح التراث المصري القديم.
وارتبط التحطيب في أذهان الناس لاحقاً بالمعارك التي تدور بين فتوات نجيب محفوظ في رواياته التي تصور الحارة الشعبية والمعارك التي تدور فيها، كما أصبحت لعبة التحطيب الصعيدي الآن من تراث الجنوب في مصر.
تم إدراج التحطيب على قائمة اليونسكو للتراث العالمي غير المادي في عام 2016، وتحولت اللعبة مع مر الزمان من الطابع القتالي الذي كان يستخدم في المعارك ويدرب عليه الجنود لواحد من أهم مظاهر الاحتفال في الصعيد، حيث يقوم بها اللاعبون على خلفية موسيقية من الطبول والمزمار الصعيدي كطقس احتفالي في الأعراس والموالد والمناسبات الكبرى، حيث إن حلقات التحطيب تشهدها جموع غفيرة من الناس باعتبارها أحد المظاهر الاحتفالية التي تتميز بها المنطقة كجزء أصيل من تراثها الثقافي.
كما تقيم وزارة الثقافة المصرية مهرجاناً سنوياً للتحطيب في محافظة الأقصر، انطلاقاً من أهميته، واعتباره إرثاً ثقافياً للصعيد ينبغي التعريف به وعرضه للمصريين والأجانب على السواء.
وفي السنوات الأخيرة وإحياءً لتراث مصري قديم تم تبني مبادرة لإعادة إحياء اللعبة التاريخية وتقديمها بشكل معاصر، ليس فقط كشكل من أشكال الحفاظ على التراث، وإنما بالسعي لاعتمادها كلعبة أولمبية تقام لها المنافسات في الأولمبياد مثل الألعاب القتالية المعروفة. المبادرة تبنّاها مصري كان له دور كبير في إعداد الملف الذي تم تقديمه لليونسكو، ونجح بالفعل في إدراج التحطيب الصعيدي على قائمة التراث العالمي غير المادي.
عادل بولاد، المصري المقيم في فرنسا والحاصل على الدكتوراه في الفيزياء، حيث عمل في مجال العلوم والتكنولوجيا لعقود، جذبته مصادفة لعبة التحطيب الصعيدي التي تعرف عليها أثناء زيارته لمحافظة المنيا (جنوب مصر) ليأخذ على عاتقه مهمة إحياء هذا التراث والوصول به للعالمية من خلال تقديمه كرياضة قتالية مصرية تعود لآلاف السنين. فيقول لـ"اندبندنت عربية" عن بداية مشواره مع التحطيب، "مارست الفنون القتالية لسنوات طويلة، ومصادفةً أثناء زيارتي لمحافظة المنيا، وتحديداً منطقة مقابر بني حسن، تعرفت على فن التحطيب في الصعيد، ووجدته لا يقل عن أي من الفنون القتالية الشهيرة التي ترجع لدول كثيرة، وأشهرها جنوب شرقي آسيا، فهي لعبة لها قواعد وأساسات متبعة تشبه باقي الرياضات التي تنتمي للفنون القتالية عموماً، ومن وقتها قررت تبني هذا المشروع منذ عام 2010، وقطعت فيه مرحلة كبيرة بالفعل".
ويضيف، "زرت محافظات الصعيد جميعها للتعرف على الاختلافات بين أسلوب التحطيب وطريقته في كل محافظة لأن هناك بعض الفروق كانت تجعل المنافسة تتم بين أبناء المحافظة الواحدة الذين يتبعون نفس الأسلوب، فقمت بجمع كل أساليب التحطيب المنتشرة عبر المدن والقرى المختلفة في الصعيد إلى أن تمكنت من ضمها جميعاً في تشكيلات محددة يمكن تعلمها، ويعتمد التحطيب عموماً على 3 عناصر هي ليونة الجسم، وسرعة التفكير، واحترام الآخر. فهي لعبة أساسها القوة البدنية والتحكم، إضافة إلى التدريب على طريقة مسك العصا وتلقي الضربات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيفية إدراج اللعبة في الأولمبياد
كيف يمكن أن يتم اعتماد لعبة أو رياضة معينة في الأولمبياد، بخاصة أن هناك رياضات شهيرة تمارس في العالم كله، ولا يوجد لها منافسات أولمبية، مثل الكاراتيه والإسكواش على سبيل المثال، فما الخطوات التي يتعين تنفيذها في هذا الصدد؟ يقول بولاد، "لاعتماد أي رياضة في الأولمبياد لا بد أن تتوفر لها عدة شروط، من بينها ألا يكون لها لعبة شبيهة معتمدة بالفعل كرياضة أولمبية، وفي حالة التحطيب فلا يوجد لعبة فنون قتالية تعتمد على العصا، فهي الوحيدة من نوعها في هذا الشأن، وهناك ألعاب معروفة على المستوى العالمي، لكنها غير معتمدة في الأولمبياد مثل الكاراتيه على سبيل المثال، فهو لعبة قتالية شهيرة، لكن لا يوجد لها منافسات في الأولمبياد، لأنه سبق اعتماد رياضات تشبهها مثل الجودو".
ويضيف، "الشرط الثاني لاعتماد رياضة معينة في الأولمبياد هو أن تكون معروفة في 40 دولة موزعة على 3 قارات، وهذا هو ما نعمل عليه الآن بالفعل من خلال مراكز إقليمية في ثلاث قارات مختلفة. فقد جرى إنشاء العديد من مراكز التدريب خارج مصر بشكل خاص في فرنسا، والمملكة المتحدة، وجمهورية التشيك، وإيطاليا، وسويسرا، وكندا، وأميركا الشمالية والمكسيك، ويتم أيضاً التحضير لدورات لإعداد المدربين بالأرجنتين في شهر أبريل (نيسان) المقبل لنشر الرياضة في أميركا اللاتينية".
إطار معاصر للتحطيب
لتأخذ اللعبة شكلاً عالمياً يمكن للناس ممارستها في كل مكان تحتاج لتقديمها في صورة معاصرة وقالب جديد لا يغفل عن الجانب التراثي. يقول بولاد، "تم اعتماد زي عصري للتحطيب المعاصر مكون من رداء أسود وحزام أحمر مستوحى من زي المحاربين القدماء، لكن تُستخدم فيه العصا التقليدية المتعارف عليها في الصعيد، وكان لا بد من هذه الخطوة حتى تكون ممارسة اللعبة أسهل على الناس في كل مكان، إلا أنه لا بد أن يتم الاحتفاء بالتحطيب في شكله وصورته الأصلية بالجلباب الصعيدي في المناسبات المختلفة، لأن هذا هو تراثنا الأساسي".
ويضيف، "جدير بالذكر أنه في الفترة ما بين عامي 2016 و2017 جرى عمل دورات لإعداد المدربين بمصر، وشارك فيها لأول مرة 3 نساء، حيث إن ممارسة التحطيب كانت مقتصرة في الماضي على الرجال فقط، فنفتخر بكسر هذا الحاجز، ونعتبره من أبرز إنجازات هذه الدورة، فجميع الرياضات القتالية المعروفة تشارك فيها النساء، وتحقق فيها تفوقاً ونتائج ملموسة، والتحطيب هو شكل جديد من أشكالها".
الترويج عالمياً للتحطيب
لتحقيق انتشار ملموس للعبة في الخارج لا بد من اتخاذ إجراءات للترويج لها عالمياً والتعريف بها كرياضة، وليس فقط كشكل من أشكال التراث المصري. فيقول بولاد، "جرى إتاحة دليل عملي بأربع لغات، وهي العربية، والإنجليزية، والإسبانية، والفرنسية، يمكن شراؤه من أي مكان بالعالم كشكل من أشكال الترويج للتحطيب، وقام بكتابة مقدمة هذا الكتاب أشرف صبحي وزير الرياضة المصري، وهشام حطب رئيس اللجنة الأولمبية، والنائبة البرلمانية والرياضية هادية السعيد، بينما قامت بكتابة الخاتمة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة المصرية، فهذا الجهد يحتاج إلى التكاتف الكبير بين الجهات الرسمية والفردية على السواء".
ويضيف، "بخصوص البطولات فقد جرى تنظيم أول بطولة للتحطيب المعاصر في القاهرة وباريس في عام 2017، وتم تنظيم بطولة أخرى في عام 2019 بباريس، حيث تم عمل تجربة إيجابية غير مسبوقة في العالم الرياضي، حيث كان للجمهور دور في تقييم المبارزات من خلال تطبيق على هواتفهم المحمولة ليختاروا أفضل مبارزة عن طريق معايير الالتزام: الروح الرياضية، والاحترام، والخداع، والانسجام، والسرعة، والمهارة، بالتالي يعكس التصنيف النهائي ترتيب جودة المبارزات، وليس المبارز، وبناء عليه تُمنح هذه الميداليات للاعبين (الفائز وخصمه) في المبارزة الفائزة، وهذا النظام يؤدي إلى ممارسة عالية الجودة في جو رياضي مفعم بالحيوية والاحترام كما هو الحال في الممارسة الريفية التقليدية".