من لاجئة تشيكية هاربة من النازيين والشيوعيين أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، هاجرت مع عائلتها إلى أميركا حيث وجدت السلطة والشهرة والمال، وأصبحت أول امرأة تشغل منصب وزيرة خارجية في تاريخ الولايات المتحدة، لكن رحلتها الطويلة والمؤثرة والتي انتهت بوفاتها، الأربعاء 23 مارس (آذار) الحالي، جلبت عليها مزيجاً من المدح والنقد، خصوصاً في ما يتعلق بصدامها مع الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي ودورها في قصف العراق ودعمها توسيع حلف الناتو شرقاً الذي يعد أحد أسباب الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، فما طبيعة هذه الأدوار، ولماذا سيظل اسم مادلين أولبرايت مسجلاً في التاريخ بصرف النظر عن نجاحاتها وانتكاساتها؟
بعد 84 عاماً من حياتها العامة المؤثرة، توفيت الأربعاء 23 مارس، مادلين أولبرايت، أول وزيرة خارجية في تاريخ الولايات المتحدة متأثرة بمرض السرطان في العاصمة الأميركية، واشنطن، بحسب ما أفادت ابنتها، لكن أولبرايت التي برزت كمحللة لامعة للشؤون الدولية قبل أن تعمل مدافعة شرسة عن سياسات الرئيس السابق بيل كلينتون باعتبارها وزيرة خارجيته وممثلته في الأمم المتحدة، خاضت حياة متقلبة من الخوف والأمل في الطفولة إلى التحدي والدبلوماسية في الكبر، واشتبكت في معارك سياسية ضارية، تركت بصماتها في السياسة الخارجية الأميركية.
يهودية أم كاثوليكية؟
اسمها الحقيقي ماري جانا كوربيلوفا، وولدت لعائلة يهودية في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا في 15 مايو (أيار) 1937، لكن مع تعرض اليهود للمطاردة والموت في جميع أنحاء أوروبا عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية ودخول دبابات هتلر إلى تشيكوسلوفاكيا، انتقلت عائلتها إلى لندن مؤقتاً خوفاً من النازيين، وتحولت إلى الكاثوليكية وأعادت والدتها تعميدها فيما بعد تحت اسم مادلين الذي نشأ من لقب طفولتها "مادلينكا"، لكن عندما نشرت صحيفة "واشنطن بوست" قصة خلفيتها اليهودية في عام 1997، قالت أولبرايت، إن والديها لم يخبراها أبداً عن يهودية العائلة، لكن النقاد تساءلوا كيف يمكن لأستاذة جامعية وباحثة متميزة متعطشة للتاريخ التشيكي، أن تجهل تراث عائلتها لفترة طويلة.
بعد الحرب، عاد والد أولبرايت، وهو دبلوماسي تشيكي، ليصبح سفيراً لبلاده في يوغوسلافيا، لكنه كان قلقاً من الشيوعية، وحينما وقع انقلاب عام 1948 من قبل أنصار ستالين المتشددين في براغ، أصبح مطارداً من جديد وهربت الأسرة مرة أخرى، ولكن إلى الولايات المتحدة هذه المرة.
طريق الصعود
بعد أن درست العلوم السياسية في كلية ويليسلي، وتزوجت من وريث صحيفة ثري وأنشأت أسرة، أصبحت أولبرايت قائدة صالون مؤثرة في ضاحية جورج تاون بواشنطن نتيجة احتكاكها بالنخبة الخاصة في العاصمة، وحينما حصلت على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة كولومبيا في عام 1976، درست على يد زبيغنيو بريجنسكي، زميلها اللاجئ من أوروبا الشرقية، وكان ذلك باباً لانطلاقها في عالم السياسة، فعندما أصبح بريجنسكي مستشاراً للأمن القومي بعد انتخاب جيمي كارتر رئيساً عام 1976، أحضر أولبرايت إلى البيت الأبيض كمسؤولة عن الاتصال بالكونغرس حيث استمتعت بقربها من السلطة.
وربما يكون أكبر محفز لأولبرايت حدث عام 1982، عندما تركها زوجها من أجل امرأة أخرى، فعلى الرغم من أنها كانت محطمة في البداية، فإن تسوية الطلاق جعلتها مليونيرة، وأكثر استعداداً لخوض معارك المستقبل، فقد عكس صعودها في مؤسسة السياسة الخارجية الأدوار التقليدية للمرأة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وطموحها المتأثر بالحركة النسوية الوليدة، التي شجعت النساء على ممارسة وظائف مهنية.
ومن هنا كتبت العديد من الكتب والمقالات عن الشؤون العامة، وصعدت مراتب الحزب الديمقراطي إلى قمم النجاح كمستشارة للرئيس جيمي كارتر ومستشارة للسياسة الخارجية لثلاثة مرشحين رئاسيين هم: السيناتور السابق والتر مونديل في عام 1984، والحاكم مايكل دوكاكيس في عام 1988 والرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1992. كما كانت أيضاً مستشارة السياسة الخارجية للحملة الانتخابية لجيرالدين فيرارو، أول امرأة تترشح كنائبة للرئيس.
إقصاء بطرس غالي
وفي عهد الرئيس بيل كلينتون، أسهمت زوجته هيلاري في الدفع بصديقتها أولبرايت لتصبح مندوبة إدارته لدى الأمم المتحدة (1993-1997) ثم وزيرة للخارجية (1997-2001)، ما جعلها تتبوأ أعلى منصب تحصل عليه امرأة في تاريخ الحكومة الأميركية في ذلك الوقت، غير أن أولبرايت وكلينتون اشتبكا مراراً مع الأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي بشأن عمليات حفظ السلام في الصومال ورواندا والحرب الأهلية البوسنية.
وكانت أولبرايت وكلينتون أيدا بحرارة الجهود الإنسانية وعمليات حفظ السلام عندما دخلت القوات الأميركية إلى الصومال في عام 1992 لإطعام ومساعدة ضحايا الحرب الأهلية الجائعين، ولكن عندما قتلت قوات تابعة لأمير حرب صومالي، 18 جندياً أميركياً في عام 1993 وشاهد الأميركيون صوراً تلفزيونية لقائد مروحية من طراز "بلاك هوك" ميتاً ويجر الصوماليون جثته في شوارع مقديشو، انسحب كلينتون من مهمات الأمم المتحدة التي تنطوي على أخطار سياسية، وهكذا امتنعت الولايات المتحدة، عن مساعدة قوة صغيرة من قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة الدولية عندما انزلقت رواندا في عمليات إبادة جماعية واغتصاب في عام 1994 والتي قتل خلالها ما يصل إلى مليون شخص، حينها ألقت أولبرايت المسؤولية على بطرس غالي، واصفة إياه بأنه لا يقوم بدوره، لكن غالي قال إن محاولته مقابلة الرئيس كلينتون للحصول على الدعم رُفضت.
وبعد سنوات، اعتذر كلينتون عن تقاعس أميركا في رواندا، وهو ما ذكرته أولبرايت في مذكراتها عام 2003 بأن الرئيس السابق عبر لها في رسالة عن أسفه العميق على فشل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في التحرك عاجلاً لوقف الجرائم في رواندا.
غير أن خلاف أولبرايت مع بطرس غالي لم يقتصر على رواندا، فقد كان غالي محبطاً من نمط تصويت أولبرايت كممثلة لإدارة كلينتون على قرارات مجلس الأمن ورفضها دعم الإجراءات على الأرض خلال الحرب الأهلية التي دارت رحاها في البوسنة والهرسك بين عامي 1992-1995، وهو صراع دموي فجرته الخلافات العرقية والدينية وأدى إلى تشريد مئات الآلاف فضلاً عن مئات المذابح وعمليات الاغتصاب وحملات التطهير العرقي ضد المسلمين وأقليات أخرى.
وفي حين استنكر مجلس الأمن الانتهاكات والفظائع التي ارتكبت، إلا أن قوات حفظ السلام التابعة له، لم تتمكن من إخماد القتال، وباستثناء بعض الضربات الجوية المحدودة، لم تتدخل الولايات المتحدة بشكل جوهري، على الرغم من أن إدارة كلينتون توسطت في نهاية المطاف لإنهاء الصراع.
وفي ظل عدم الارتياح الأميركي تجاه مواقف غالي، استخدمت أولبرايت حق النقض الفيتو في عام 1996، لعرقلة منح بطرس غالي فترة ولاية ثانية على الرغم من أن مجلس الأمن صوت بأغلبية ساحقة لتجديد ولايته، الأمر الذي وصفه الأمين العام السابق بأنه اعتداء على نزاهته، وقال إنه طرد من منصبه لتحقيق مكاسب سياسية لكلينتون في عام الانتخابات.
اختبار في العراق
وحين اختارها كلينتون في ولايته الثانية، لتشغل منصب وزيرة الخارجية في عام 1997، كأول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تشغل هذا المنصب الرفيع الذي يعد الرابع في ترتيب الخلافة الرئاسية بحسب الدستور الأميركي، شرعت أولبرايت في جولة حول العالم شملت تسع دول، لتظهر فهمها للقضايا العالمية وتستعرض مهاراتها اللغوية ومكانتها المركزية بصفتها صانعة السياسة الخارجية للرئيس كلينتون والمتحدثة باسمها.
غير أن أزمة كبيرة نشأت في أواخر عام 1997 وأوائل عام 1998، بعدما منع الرئيس العراقي السابق صدام حسين وصول مفتشي الأمم المتحدة إلى المواقع التي يعتقد أن أسلحة الدمار الشامل العراقية الكيماوية والبيولوجية كانت مخبأة فيها، في انتهاك للقرار الصادر من مجلس الأمن في نهاية حرب الخليج عام 1991. وبعد شهور من التحذيرات والتعزيزات العسكرية الأميركية في المنطقة، هددت أولبرايت والرئيس كلينتون بشن هجمات جوية مدمرة على العراق ما لم يتم إعادة فتح المواقع للتفتيش، حيث قالت أولبرايت في تحذير علني لصدام حسين، إن العراق أمامه خيار بسيط أن يعكس المسار أو يواجه العواقب.
بعد ذلك، طار الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، حاملاً الشروط النهائية التي وضعتها أولبرايت، إلى بغداد وحصل على موافقة الزعيم العراقي على السماح بالوصول غير المقيد إلى المواقع من قبل مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة والمرافقون الدبلوماسيون، ومع ذلك، قصفت الولايات المتحدة وبريطانيا في ديسمبر (كانون الأول) 1998، عشرات الأهداف العسكرية ومنشآت البحث العراقية لتقويض قدرة العراق على تصنيع أسلحة دمار شامل.
حرب مادلين
وبصفتها أعلى دبلوماسية أميركية، سرعان ما أصبحت رئيسة صقور الإدارة بشأن أزمة كوسوفو، حيث أمر الزعيم اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش بشن حملة دموية ضد الإقليم الذي تقطنه غالبية ألبانية، ولأن أولبرايت، عاشت في بلغراد عندما كان والدها سفيراً للتشيك، فقد انتقدت ميلوسيفيتش لسنوات عدة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، ودفعها ذلك في لقاء معه وجهاً لوجه لتحدي معرفتها ببلده. وردت على اتهامه بأنها ليست على دراية كافية ببلده، بالقول إنها عاشت في هذا البلد.
وفيما أطلقت عليه مجلة "تايم" اسم "حرب مادلين"، أدت الضربات الجوية لحلف الناتو في عام 1999 إلى انسحاب القوات اليوغوسلافية وعودة آلاف اللاجئين الألبان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توسيع الناتو
وسط الارتباك الأيديولوجي الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، نظر بعض النقاد إلى أولبرايت على أنها "حارس مرمى" أكثر من كونها مخططة استراتيجية، لكنها قالت، إن هذا الادعاء لم يزعجها، فقد اعتبرت أن أوروبا المستقرة هي أمر أساسي لمصالح الولايات المتحدة، وكانت مقتنعة بأن دول "حلف وارسو" السابقة يجب بعد تفكك الحلف أن تتماشى مع الغرب لتعزيز المكاسب الديمقراطية التي تحققت منذ سقوط جدار برلين. وبعد ست سنوات من الدبلوماسية عبر الأطلسي، ساعدت أولبرايت في إقناع روسيا ومجلس الشيوخ الأميركي المتشكك، بالسماح لبولندا والمجر وجمهورية التشيك بالانضمام إلى الناتو، وهو ما يعتبر ربما أعظم إنجاز دبلوماسي لها.
إنجازات وإخفاقات
وبينما حققت أولبرايت إنجازات عدة مثل تشجيعها التصديق على "بروتوكول كيوتو" بشأن تغير المناخ، فإن دبلوماسيين أميركيين في أفريقيا، قالوا إنها لم تلتفت إلى التحذيرات التي تنبأت بتفجيرات شاحنات مفخخة في عام 1998 أسفرت عن مقتل 224 شخصاً في سفاراتي الولايات المتحدة في نيروبي بكينيا ودار السلام بتنزانيا.
وطوال فترة عملها، عارضت أولبرايت انتشار الأسلحة النووية في "الدول المارقة"، لكن خلال زيارتها لزعيم كوريا الشمالية السابق، كيم جونغ إيل، في عام 2000، لم تكن قادرة على إبرام صفقة للحد من برنامج الصواريخ الباليستية قبل أن يترك كلينتون منصبه.
ويشير كثير من المراقبين إلى أن أولبرايت ركزت كثيراً على أوروبا على حساب آسيا، حيث أخذت وزارة الخزانة الأميركية زمام المبادرة في معالجة الأزمة الاقتصادية في المنطقة في أواخر التسعينيات ومع ظهور الصين كقوة اقتصادية عالمية.
"الأولاد البيض"
وبحسب مقربين منها، لم تثق أولبرايت بشكل كامل في العديد من نوابها الذكور، الذين كانوا يريدون المنصب الأعلى، وكانت مقتنعة بأنهم كانوا يؤذونها سراً من وراء ظهرها، ولهذا أطلقت عليهم اسم "الأولاد البيض"، ومع ذلك، فإن مبادراتها غالباً ما أعاقها البيت الأبيض الذي يتجنب المخاطرة، حيث كان مستشارو كلينتون للأمن القومي يتمتعون بتأثير أكبر من نفوذها.
بعد أن استقالت أولبرايت من منصبها كوزيرة للخارجية في عام 2001، كانت هناك تكهنات بأنها قد تمارس مهنة سياسية في جمهورية التشيك، وأشار فاكلاف هافيل، الكاتب والمنشق السابق الذي كان أول رئيس للجمهورية التشيكية منذ عام 1993 وحتى 2003، إلى أنها قد تخلفه، لكنها قالت إنها شعرت بالإطراء، ولكنها غير مهتمة.
وفي كتابها الأخير الصادر في عام 2018 وجهت انتقادات للرئيس السابق دونالد ترمب وقالت، إنه "يمكن التغلب على مشاكل الديمقراطية، ولكن فقط إذا أدركنا دروس التاريخ ولم نأخذ الديمقراطية كأمر مسلم به".