نادراً ما تحدث مثل هذه التجربة في الريبرتوار المسرحي السوري، ولعلها من بين التجارب الأكثر تأثيراً التي خاضها المخرج معتز ملاطية لي في النسخة الحادية والعشرين من مختبر دمشق للرقص المعاصر، الذي يشرف عليه الكريوغراف السوري في المعهد العالي للفنون المسرحية - دمشق منذ عام 1997. فبعد تقديم العرض الأول لهذا المختبر عام 2001، تتالت التجارب واستمر البحث عن مسرح سوري راقص قادر على مواكبة حركة الرقص في العالم. اليوم اعتمد ملاطية لي على أربع عشرة لوحة من الفن التشكيلي العالمي لصياغة عرضه الراقص على مسرح سعد الله ونوس، محيلاً أعمالاً لكل من بيكاسو، وسلفادور دالي، وفنسنت فان غوخ، وإدوارد مونغ، ورينيه ماغريت، وكارافاجيو، وبيتر بروغل، وكارل بارلوف، وبيل ستونهم، وفريدا كاهلو، وجان ليوم جيروم إلى رقصات.
العرض الذي مزج بين مدارس الرقص التعبيري والحديث والمعاصر اعتمد على التصميم الجماعي للراقصين، وبدأ هذا الكرنفال بلوحة "قبور مفتوحة" لمصممها أنيس رشيد، الذي استوحاها من لوحة "أسطورة الحب والجنون" للرسام الروسي كارل بارلوف (1799-1852). اعتمدت هذه اللوحة الغرائبية على أسلوب الرقص التعبيري، الطالع من المدرسة التي أسستها الراقصة الأميركية إيزادورا دنكان (1877-1927) كأول من خرج عن الرقص الكلاسيكي الروسي، فدعت إلى تحرير الجسد من القوالب الجاهزة، ومن القصة البسيطة في الرقص، أو ما يُسمى "الحكاية اللطيفة" على نحو "كسّارة البندق"، و"الجميلة النائمة". إذ كان شعار الرقص التعبيري العودة إلى الطبيعة، واستلهام الموضوعات من الميثيولوجيا وفني النحت والتصوير.
رقص تعبيري
جاء المقترح السوري متماشياً مع هذه المرحلة الثورية التي شكلها الرقص التعبيري ضد مدارس رقص الباليه، أو الرقص الكلاسيكي الروسي. وأبرز ملامح هذه الثورية على رقص الباليه الروسي تجلى في إلغاء العرض السوري لمظاهر عديدة كانت دنكان قد ألغتها من الرقص هي أيضاً. خلع الراقصون السوريون حذاء الباليه وفردوا شعورهم، متحررين من الصورة النمطية للراقص الكلاسيكي، الذي تجلى في صورة المرأة ذات الشعر الملفوف خلف الرأس. كما استغنى "المختبر 21" عن الكولون الزهري لراقص "بحيرة البجع"، وعن كل مفردات اللباس التقليدي لراقص الباليه الروسي، وأهمها التنانير البيضاء التي كانت من روح ذلك الرقص القيصري، واستخدموا أزياء خفيفة ومعاصرة مزجت بين الألوان الترابية والرمادية والبيضاء، وسهلت حركة الراقصين والراقصات على الخشبة.
رقصة "أنا" لمصممتها غزل حمادة جاءت بدورها استلهاماً للوحة بابلو بيكاسو (1881-1973) "فتاة أمام المرآة" التي رسمها الفنان الإسباني عام 1930 لعشيقته الفرنسية ماري تيريز والتر، وفيها يتوضح الفارق بين فتاة جميلة وأخرى تظهر في المرآة كسيدة تقدَّم بها العمر. مفارقة لونية عكستها حمادة كمصممة وراقصة حررت الجسد من قيوده الخارجية، وغيرت الأفكار البسيطة التي كانت تعتمد عليها عروض الكلاسيك الروسي. فذهبت إلى أفكار أكثر عمقاً، معتمدة على موضوعات إنسانية، وحالات نفسية نهلت من اليومي. وخرجت بذلك عن سياق القصة ذات النهايات السعيدة، تماشياً مع الرقص التعبيري الذي استغنى عن المبالغة في طريقة إظهار المشاعر التي تتخطى العفوية، ولا سيما في تعابير الوجه والجسد معاً. فالألم في رقصة "أنا" مثلاً تم تجسيده بطريقة دراماتيكية، وتجلى بشكلٍ تراجيدي على نحو لم يخرج عن التلقائية، فلم تعد هناك أي تقنية جسدية مؤطرة في هذا الرقص. كما كان هناك إلغاء لأي إبهار جسدي كرد فعل على المظهر الكلاسيكي في الرقص القديم الذي كان يقارب عروض السيرك الاستعراضي. وهذا ما فعلته غزل حمادة حين قلصت حركة الراقص، ليصبح عبارة عن حركات يومية محضة بعيدة من الآلية والمنهجية الروسية القديمة.
لوحة تشكيلية راقصة
لوحة "عميان يقودون عمياناً" للرسام الهولندي بيتر بروغل الأكبر (1525-1559) صمم عنها سليم رضوان رقصته تحت عنوان "من يقود من؟" وفيها تجلت تلك المناخات النفسية للرقص، وقدرة الراقصين على تجسيد حالة مركبة لستة من الرجال العميان الذين يقع قائدهم في حفرة، بينما يوشك البقية على الوقوع مثله. جاء هذا في اقتباس لأجمل اللوحات في عصر النهضة الفنية الهولندية، التي استقاها بروغل من المَثل الوارد في إنجيل متى في الإصحاحين (14) و(15) "عميان قادة عميان".
اتبعت هذه الرقصة أسلوب الرقص الحديث الذي جاء على يد الراقصة الأميركية مارتا غراهام (1894-1991) بداية القرن العشرين، فأعطى الراقصين السوريين خياراً حركياً منهجياً بديلاً من الإحالات الصارمة في المدرسة الكلاسيكية الروسية، وذلك عبر تقسيم للجُمل الحركية، ووصف دقيق لها، إذ إن أهم ما كان يميز موضوعات الرقص الحديث هذا التنوع الواضح في تناول تيمات سياسية، واجتماعية، وخيالية. لكن الآلية التي قدم بها الراقصون السوريون لوحة بروغل ظلت سمة درامية مميزة للعرض، فكان هناك دراسة لكل حركة، وموضوع الارتجال لم يكن وارداً في هذه الرقصة، لأن كل عرض ينتمي إلى مدرسة الرقص الحديث يقترح ما يجب أن يقوم به الراقصون على الخشبة، وهو رقص مدروس ومُنوَّط.
وتجلى في "المختبر 21" عامل الإبهار، والحفاظ على المسافة الجسدية بين الراقصين الذين يؤدون الثنائيات، أو الثلاثيات الراقصة كما في رقصة "مأسور"، التي صممتها مايا عيسى عن لوحة "العشاق" لرسامها البلجيكي رينيه ماغريت (1898-1967). فكان هناك اشتغال على عضلات الراقص، وذلك عبر تيمة الشاب الذي يحمل الفتاة، فيما تغطي وجه كل منهما قطعة قماش بيضاء تحجب الرؤية عنهما. أتى ذلك عبر التلامس الجسدي المعتمد على القوة العضلية عند الراقص الشاب، فلم تعتمد هذه الرقصة على مراكز ثِقل الجسد، أو دراسة تشريحية له. وهذا ما حصل في رقصة "محاولة" لمصممتها مارييلا خوام، التي اقتبستها عن لوحة "الأيدي تقاوم" للرسام بيل ستونهم. وفي هذه الرقصة برزت أجواء الرعب السريالية المأخوذة عن لوحة ستونهم، التي صورت عالم طفولة الرسام الأميركي، فيظهر قربه دمية مشوهة لطفلة تُشهر ما يشبه مسدساً نحوه، أما في الخلفية المظلمة فتتوضح أيدٍ تريد دفع الطفل إلى الجانب المعتم من اللوحة.
الرسام كارافاجو
وتحاشى الراقصون السوريون الأخطاء التشريحية الفادحة في رقص الكلاسيك الروسي، وأهمها كيفية تطبيق الوضعيات الخمس المعروفة لأقدام الراقص، وذلك في رقصة "رحِم" لمصممتها ماريا معماري، التي استوحتها من أجواء لوحة "رقصة الحياة" للرسام النرويجي إدوارد مونخ (1863-1944)، وفيها تجلت المزاوجة بين الأجواء الرمزية للوحة تصور نساءً ورجالاً يرقصون في ضوء القمر، وأسس الرقص المعاصر الذي يعتمد على الرقص الكلاسيكي المُحسَّن تشريحياً، وعلى سلامة البناء العضلي للراقص، وذلك من خلال فهمه لجسده.
ولكون الرقص المعاصر يعتمد كثيراً على الارتجالات والعلاقات الحركية، بين راقصيَن وأكثر، عمل مخرج العرض السوري على الابتعاد في لوحة "دم أزرق" لمصممها صالح جودية عن القوة العضلية، واعتمد على الفهم العميق للوحة الواقعية للفنان الأوكراني إيليا ريبين (1844-1930) وعلى آلية حركة الجسد، ونقاط الثقل بين الجسدين الراقصين. وأهمها كيف يستطيع الراقص توزيع وزنه على وزن الراقص الشريك، وهذا ما تطلب الكثير من التجريب، والتعمق لفهم مواطن الثِّقل، وبالتالي نقلها إلى هذا الشريك، وذلك بغض النظر عن جنس الشريك أو طوله ووزنه.
كل هذا احتاج إلى حساسية عالية عند راقصي - راقصات العرض السوري لالتقاط إشارات الشريك، ومدى تأثير الحركة سلبياً وإيجابياً، وذلك لم يتطلب بالضرورة معرفة طويلة بالشريك. بل جاء هنا على هيئة ارتجال جماعي، جنباً إلى جنب مع الخبرة التي يتطلبها هذا النوع الخطير والحساس من الرقص. فأي حركة خاطئة في "المختبر 21" كانت ستؤدي إلى خسارة الشريك، وربما إلى إصابات جسدية قاتلة كما في رقصة "وجوه" لمصممتها نتالي رزق، والمأخوذة عن لوحة "الحقيقة العارية" للرسام والنحات الفرنسي جان ليون جيروم (1824-1904)، والتي تبدت فيها تقنية التحرير، وهي التقنية الأكثر استخداماً لدى فناني الرقص المعاصر. فأهم صفة في هذه التجربة أنها احتوت على انسيابية أو تلقائية بالغة في الحركة، وتمرين طويل حتى وصلت إلى تلك البساطة التي قدمها قرابة أربعين راقصاً وراقصة، معتمدين على حركة الجسد بشكل غير اصطناعي، لكنها كانت على درجة عالية من التعقيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واتكأ العرض السوري على الحركات التي يؤديها الراقص من دون أن يظهر عليه ذلك الجهد الذي يبذله أثناء تمريناته الطويلة والشاقة للوصول إلى مرحلة الأداء العفوي. وهذا ما كان نابعاً من الإحساس البسيط الذي قدمته رقصة "سيدة الأقمار السبعة" لمصممتها لجين ملاك، ورقصة "علقم" لمصممتها سالي داؤد، والمستوحاة من لوحة "الفريدتان" للرسامة المكسيكية فريدا كاهلو (1907-1954)، أو في رقصة "حول الوقت" لمصممها علي الترك، والمستلهمة من لوحة "الزمن" للرسام الإسباني سلفادور دالي (1904-1989)، أو في رقصة "الدائرة السوداء" لمصممتها نانسي إسحق، والمستقاة من لوحة "آكلو البطاطا" لفنسنت فان غوخ (1853-1890)... وفيها جميعاً تجلت جماليات الجسد في الحركة اللولبية، ورهافة الحركة على المسرح، واللطف والقرب من المتلقي، من دون الحاجة إلى استعراض جسدي مادي أنثوي من جهة، ولا عضلي ذكوري من جهة أخرى.
في حين اقتربت رقصة "من الأقوى" لمصممتها جودي العلي من أسلوب الرقص الفيزيائي، وهو رقص قاسٍ جداً في التعامل مع الجسد، وطريقة طرح الأفكار. وهذه القسوة التي استوحتها العلي من لوحة "شلل النوم" للرسام الإيراني رمزي فرهاد، وصلت إلى درجة الوحشية الصاعقة، وبشكل سلبي أحياناً ومقصود، اعتمد مبدأ الصدمة، والسادية في التعامل مع الجسد. وذلك في الخلط بين عناصر الرقص المعاصر، وعناصر العرض المسرحي التمثيلي. كانت الفكرة هنا هي الأساس، ولها سياق درامي واضح، حمل الكثير من الإشارات السياسية المباشرة، وقدم حالات يستطيع المتلقي من خلالها أن يربطها بمشاعر شخصية وذاتية تضافرت فيها الموسيقى (فارس الزراد، طارق مجر، علي سليمان)، في لعبة زادتها الإضاءة (عبد الله كيوان) موشورية، ورسماً لفضاءات متنوعة، ومتجاورة في الوقت ذاته.