لا يهم إن كنت جاداً أو أميناً، أو أنك تمتلك مشروعاً حقيقياً مدروساً بعناية، كي تحصل على تمويل بمئات الآلاف وربما ملايين ومليارات الدولارات من كبار المستثمرين وأصحاب الثروات الكبرى في سوق المال والاقتصاد، يكفي فقط أن تمتلك الثقة وأنت تتحدث، وأن يكون مظهرك خاطفاً وحذاءك فاخراً ومعطفك من أشهر دور الأزياء، في هذه الحال، حتى لو كنت تبيع الهواء، وتعبئ الوهم في زجاجات، فأنت مرحب بك في عالم الأعمال، كما في عالم الحب والرومانسية، وستحصل على ما تريد، لكن عليك أن تنتبه، فقد تأتي اللحظة التي تتحول فيها إلى قصة تعرضها الشاشات عن أحدث أساليب الاحتيال.
مليارديرة وادي السليكون
يحدث أحياناً أن يتبدل حالك من شخص لا يشاهد التليفزيون بالمرة بسبب انهماكه في خططه، إلى آخر وقد صرت محور القنوات والمحطات والمنصات، الأمر الذي ينطبق حرفياً على مليارديرة وادي السليكون "العصامية" الأميركية، إليزابيث هولمز، المتهمة بالاحتيال على المستثمرين، بعد نجاحها في الترويج لتقنيتها الوهمية في شركة الرعاية الصحية "ثيرانوس"، التي أسستها قبل أن تكمل العشرين من عمرها.
إليزابيث بشرت بثورة طبية في تشخيص أصعب الأمراض بمجرد عينة دم صغيرة، وبتكلفة قليلة للغاية، فالشابة التي أكملت عامها الـ38 مؤخرا، بدأت قصة احتيالها تتكشف قبل سبع سنوات تقريباً، ولا تزال تواجه شبح السجن لمدة عشرين عاماً على الأقل، وبعد أن كانت نجمة على صفحات المطبوعات الاقتصادية الكبرى التي تحتفي بريادتها، تحولت إلى نموذج للنصب بتهم متعددة بينها الاحتيال الإلكتروني، وبالتالي فهي تمتلك سيرة درامية من الطراز الأول.
HBO سارعت بتقديم فيلم وثائقي عن سيرة الشابة التي شقت طريقها نحو سوق العمل وهي في السنة الثانية بالجامعة، حيث كانت تدرس الهندسة الكيمائية، وحمل الوثائقي، الذي عرض في مارس (آذار) 2019، عنوان "The Inventor: Out for Blood in Silicon Valley"، ونال إشادات نقدية، وتطرق لعدد كبير من فصول قصة حياة إليزابيث، لكن بعد خروجه للنور حدثت تطورات كثيرة فيما يتعلق بسير محاكمتها، وقد يكون هذا الجديد ما ستقدمه جينفير لوارنس والمخرج آدم مكاي، فبعد تعاونهما معاً في فيلم "لا تنظروا للسماء"، اختار مكاي النجمة جينفير لورانس لأداء شخصية هولمز في الفيلم الذي يجري العمل عليه، ويحمل عنوان "Bad Blood".
خليفة ستيف جوبز المزيفة
يروي الفيلم المنتظر قصة صعود وهبوط الفتاة التي نجحت في إقناع كبار رجال الاقتصاد والسياسة بالتكنولوجيا الصحية "الرائدة"، ثبت فشلها فيما بعد، لتصل بقيمة الشركة السوقية إلى 9 ملايين دولار أميركي، قبل أن تنهار سريعاً، وحصدت الفتاة دعم هنري كيسنجر وروبرت ماردوخ وبيل كلينتون وجو بايدن، وكثير من الوزراء ورجال الاستثمار، إذ كانت تلقب بـ"خليفة ستيف جوبز"، مؤسس شركة أبل، وربما يكون هذا اللقب من دواعي حصدها ثقة الكبار الذين كانوا يأملون المشاركة في تكنولوجيا رائدة ناجحة تسير على طريق الراحل ستيف جوبز، وكل ما يخشونه أن تحقق الشركة الناشئة الصعود الساحق في عالم البيزنس، بينما هم خارج دائرتها، فحاولوا حجز نصيبهم مبكراً.
اللافت أن هولمز، وبشهادة من عملوا معها، كانت تستوحي أسلوب أزياء جوبر، وبخاصة فيما يتعلق ببساطة الملبس، فعادة ما كانت ترتدي سترات غامقة اللون برقبة عالية، وتتخذ نفس وضعياته أثناء التصوير، بل إنها كانت تتحدث بصوت عميق وقوي لتبدو نبرتها ذكورية وتنال ثقة من حولها، الأمر الذي تعمل عليه جينفير لورانس حالياً، إذ تتدرب كثيراً لمحاولة الوصول لنفس طبقتها الصوتية، وكذلك يجري العمل أيضاً على مسلسل تليفزيوني حول سيرة المحتالة الصغيرة التي خدعت أقطاب السياسة والإعلام.
آنا ديلفي.. الثراء على إنستغرام فقط
ومن خليفة ستيف جوبز، إلى الوريثة المزيفة "آنا سوروكين"، التي تتقاطع قصتها كثيراً مع قصة إليزالبيث هولمز، حيث كان رأس مال آنا، التي عرضت حكايتها في مسلسل نتفليكس الشهير "Inventing Anna"، الأساسي كذلك في قدرتها على الإقناع، والثقة الزائدة في شخصيتها، والهالة التي رسمتها حول نفسها بأنها وريثة ألمانية ترتدي ملابس باهظة، وتعيش في أفخم الفنادق، ولديها طموح لا يتوقف، وتريد أن تشيد مؤسسة فنية ليس لها مثيل تكون لصفوة الصفوة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفتاة العشرينية، التي تبدو كعارضات الأزياء، خدعت كل من حولها قبل أن توقع بها صديقتها بعد أن فشلت آنا في رد المبلغ التي اقترضته منها، وأطلقت الفتاة على نفسها اسم آنا ديلفي، وجسدت دورها في العمل جوليا جارنر، التي نجحت في تلبس الشخصية الغاضبة المتنكرة لماضيها، المهتمة بالتأنق حتى وهي في قاعة المحكمة، والتي تمتلك شخصية قوية للغاية تجعلها تتحكم في أغلب من حولها، وتخترع ماضيها وحاضرها بنفسها من خلال رسم صوتها المثالية على إنستغرام. وقد لعب النصب الإلكتروني درواً كبيراً في صناعة آنا "اللصة الذكية" نجمة العلامات التجارية الفاخرة، التي نجحت أيضاً في أن تخدع حبيبها، وساعدته في أن يحصل على تمويل بمئات آلاف الدولارات لتطبيق جديد يعمل عليه، ليتهرب لاحقاً ممن أقرضوه بعد أن تعثر مشروعه "شبه الوهمي" كذلك.
انتهت قصة المسلسل بحصول آنا على حكم مخفف، فيما أصدرت السلطات الأميركية قبل أيام قراراً بترحيلها إلى ألمانيا، بعد أن خرجت من السجن، ورفضت جيمع التماساتها بالبقاء على أراضي الولايات المتحدة الأميركية.
هل يحب الجمهور اللصوص الأذكياء؟
في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، قدم إسماعيل ياسين مع المخرج فطين عبد الوهاب والمؤلف جليل البنداري قصة الرجل الساذج "مبروك مبروك أبو مبروك"، الذي يوهمه نصاب أنيق محترف بأنه سيبيع له العتبة الخضراء، وهي منطقة شهيرة بوسط القاهرة، في فيلم حمل اسم الحي "العتبة الخضراء"، وبالطبع ينخدع الشاب ويعطي للرجل الثري ودنجوان النساء كل ما يملك، واللافت أن القصة مأخوذة من وقائع جرت بالفعل في مصر وقتها.
قصص بيع الهواء لا تتوقف، وهي تروج حالياً على منصات العرض الإلكتروني، وتصعد إلى قوائم الأعلى مشاهدة في أغلب أنحاء العالم سريعاً، فهي مفضلة لجهات الإنتاج وللمشاهد على السواء. ومسلسل مثل "لاكاسا دي بابل" حقق نجاحاً مدوياً، وتعاطف جمهوره مع أفراد العصابة، وتابع بشغف أحداثه المسلية، لكنه في النهاية كان خيالياً.
أما الأعمال المستندة إلى وقائع محددة فهي أيضاً مرغوبة، ربما لأنها أصبحت قريبة من الجمهور، وكثيرون وقعوا في فخها، فالجرائم التي تتخذ من التكنولوجيا وسيلة أساسية لها صارت أكثر سهولة ويسراً، وتجد دوماً من يصدقها، والوقائع أثبتت أن التجارة في المظاهر، واللعب على حلم الثراء، ووعود الحب، تلائم كثيراً الوسائط الجديدة، حيث أصبح إنستجرام وتيك توك وتويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي بطاقات هوية يصدق المتابعون زيفها، ولا يشكون في أن حقيقة الشخص ليست هي أبداً ما تظهره الصور والفيديوهات القصيرة، لذا كان محتال تيندر، بطل وثائقي "The Tinder Swindler"، يجد ضحاياه بسهولة، ويتحرك بطائرات خاصة، يتناول إفطاره على البحر، ثم ببساطة يذهب إلى دولة أخرى سريعاً من أجل مقابلة صديق يقضي معه سهرة رائعة، ينفق ببذخ، مدعياً أنه نجل أحد أشهر تجار الماس في العالم، وفوق كل هذا يبحث عن حبيبة. أليست خلطة مثالية؟
"المحتال" الذي نجا بأفعاله
بالطبع مثالية، لدرجة أنها لا تصدق، ومع ذلك نجح الشاب الإسرائيلي سايمون لفيف، الذي نفذ خططه في الخداع وهو في العشرينيات من عمره، في أن يستقطب من خلالها فتيات ناجحات ومتحققات مهنياً، واحدة بعد الآخرى، يأخذ من أموال هذه لينفق على تلك وهكذا، وكل واحدة منهن تخشى أن تخسر فرصة عمرها في الارتباط بشاب أنيق وثري يدللها بأفخم الهدايا، حتى اكتشفن أنه يستنزفهن، ويجعلهن يقترضن من البنوك عشرات الآلاف، ويضعهن في مأزق عاطفي ومادي، من أجل أن يعيش حياة رغدة ينسى بها نشأته المتواضعة في حي من اليهود المتشددين.
الوثائقي أحدث ضجة كبيرة قبل أسابيع، وتوالت التحذيرات من الوقوع في مثل تلك الألاعيب، ورغم ذلك فإن "المحتال" الذي ظهر بالصوت والصورة في العمل يعيش حياة طبيعية، بعد أن أفرجت عنه السلطات، بل وهدد من أسماهم المسيئين له، وكل ما حدث أنه تم ترحيله، فيما الفتيات يحاولن أخذ حقهن الأدبي منه عن طريق كشف حقيقته للجمهور.
الخوف من تضييع فرصة الاستثمار، أو الثراء والارتباط بشريك يبدو مثالياً، أو التواجد في شركة رائجة، تجعل الواقعين في براثن النصب يفضلون المغامرة، تجنباً لاحتمالية الندم إذا ما رفضوا تلك العروض البراقة، رغم كل هذه الخبرات، وحتى مع انتشار الحكايات من هنا وهناك وفضح أساليب النصب والخداع، ففي كل مرة تجد تلك الحواديت وسيلتها للشاشات، حيث تبدو رغم مرارتها جاذبة للمستخدمين، لعلها تكون أيضاً طريقاً للتعلم والحذر، بعد أن وجد الضحايا أنفسهم غارقين في الديون من أجل أن يحقق آخرون الرفاهية.