لم يعد الطعام مجرد غذاء بسيط يمد الإنسان بواحد من احتياجاته الطبيعية، بل أصبح يمثل اليوم في العالم المعاصر، التاريخ والتقاليد والهوية وذاكرة المكان، متقاطعاً في ذلك مع فن العمارة، حتى إن الطباخين المهرة استعانوا بالأشكال الهندسية والعلاقات فيما بينها، في سبيل الوصول إلى طرق تقديم مبتكرة.
ولطالما شكلت فكرة تقديم الطعام أو ما يسمى presentation، هاجساً لدى مبتكري الطبخات، في أثناء سعيهم إلى تنسيق طاولات اللقاءات الاجتماعية على اختلاف أنواعها، فكان التفنن في محاكاة تكوينات أو بناء أشكال جديدة، باستخدام مكونات طبيعية، تشكل في مجملها بناء بصرياً ملفتاً، يلتقي في كثير من جوانبه مع فن العمارة.
قواعد ومفاهيم واحدة
لكلا الفنين، العمارة والطبخ، قواعده وأسسه، ويلبيان حاجتين مهمتين على سلم الاحتياجات البشرية؛ الأكل والمسكن، فالربط بينهما شديد التقارب، ليس على المستوى الفني فحسب، بل على مستويات نفسية واجتماعية وعاطفية أيضاً، إذ يرتبط الطبخ، كما العمارة، بثقافة المجتمع، فلكل منهما أهميته الاجتماعية كعاكس للبيئة ومتأثر بها، كما أن كلاً منهما يتأثران بالأحداث والصيحات الجديدة والإعلانات والتسويق، ويعكسان البيئة المحيطة ويضفيان طابعاً خاصاً وهوية فريدة لكل مولع بهما.
وانطلاقاً من هذا الربط، كان من الطبيعي أن تتطور فكرة الطبخ من مجرد مضمون لذيذ أو مفيد أو صحي، إلى شكل جذاب، بخاصة في العصر الاستهلاكي الذي يستثمر كل معارفه السيكولوجية والسوسيولوجية في سبيل التسويق والبيع، لكن في مرحلة ما بدأ هذا التطور يأخذ منحى أكثر توازناً ودقة، ليصل به إلى بنى وتشكيلات هندسية متقنة، وكتل مستقلة تدمج على مراحل؛ للوصول إلى عرض يجذب العين والقلب معاً.
مثلت العمارة، على مر التاريخ، المجتمع بجميع تفاصيله، وعكست القيم الاجتماعية والثقافة السائدة، وراعت ذلك في تطورها، فكانت في مرحلة من المراحل صورة واضحة لملامح العصر وأدواته، وحتى في تأثيراتها لم يقتصر دورها على إيجاد بيئة مادية، بل أسهمت في خلق الصورة التي نريد إيصالها عن أنفسنا والعالم ككل، وفي التأثير النفسي أيضاً.
ومثلما هناك علاقة بين الفراغات الهندسية والمعمارية وسلوك الإنسان وحالته النفسية وإنتاجيته، كذلك العلاقة شديدة الصلة بين الطبخ والحالة النفسية، حتى قالت العرب، "قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت".
تفضيلات الطعام لدى الشخص ما، تعبر وتكشف أيضاً عما يحمل من الأسرار والصفات السلوكية والنفسية، تبعاً لربط ما يفضل من أنواع التوابل وطريقة الطهو، مع صفات شخصية تتعلق بدرجة الإقدام والإبداع والمغامرة أو التمسك بالتقاليد وحب العزلة وغيرها.
هندسة الطعام
البعض ذهب إلى أبعد من ذلك في التحليل الدقيق للشخصية، ليحكم من خلالها على الشخص بأنه شهواني أو متسلط أو ضعيف الهمة أو مميز أو عادي. ومثلما تؤدي العمارة الجيدة إلى تواصل إنساني جيد، كذلك يفعل الطعام الجيد أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعرف الهندسة المعمارية على أنها "فن أو ممارسة تصميم الهياكل وبنائها"، فتنطبق عليها معايير جمالية وتخدم وظيفة معينة، اعتماداً على موقعها والغرض المعدة من أجله، إذ تختلف قواعد تصميم الخاصة بناطحة سحاب عصرية في مركز مالي عالمي، عن تلك الخاصة بتصميم مكتبة متواضعة في مدينة صغيرة.
وبالمثل، يمكن تعريف هندسة الطعام بأنها "فن تصميم الأطعمة وتصنيعها"، إذ تصمم أيضاً الأكلات في إطار الوصول إلى جمالية ووظيفة معينة، وتختلف باختلاف الكمية المطلوبة والمكان الذي ستقدم فيه، ويتعين على كل من المعماريين والطباخين مراعاة الجماليات والتكاليف والجداول الزمنية والحالة ضمن سياق معين، والسلامة والوقاية وخصائص المواد المتوفرة.
وبينما يستخدم المهندسون المعماريون الطوب والخشب والمعدن والأسمنت والزجاج لتصميم وبناء الهياكل ذات المتطلبات المحددة، ويتعين عليه معرفة خصائص كل مادة من هذه المواد وأدائها في مختلف البيئات، يستخدم الطباخون أيضاً اللبنات الأساسية، على هيئة مكونات غذائية بسيطة أو مواد مسبقة الصنع، مع الدراية الكاملة في كيفية تجميعها في هياكل محددة، ومعرفة كيفية تفاعلها والقوى التي تجمعهم معاً.
تكوينات معمارية وطباعة ثلاثية الأبعاد
تظهر التكوينات الحديثة، بشكل خاص في قوالب الكيك، نظراً لمفهومها الأساسي الذي يعتمد على التأسيس أولاً، ثم بناء الأشكال على شكل طبقات متساوية الأحجام أو متدرجة بشكل ما، وتغطية الأساس بطبقات سائلة، وأخيراً استخدام بعض الإضافات الداعمة، وهو ما نفذته، لأول مرة الطاهية الأوكرانية دينارا كاسكو، التي درست الهندسة المعمارية أولاً، لكنها اختارت أن تستثمر ما تعلمته في صناعة الحلويات.
دينارا أنتجت سلسلة من تصميمات الكيك، معتمدة على الطباعة ثلاثية الأبعاد لمساعدتها في بناء قوالب من السيليكون، تستخدمه كأساس أو هيكل لتشكيل قوالب الكيك، وهي تستخدم في فن صناعة الحلويات المبادئ الرياضية لمخطط فورونوي، وكذلك المحاكاة الحيوية أو تقليد النماذج الطبيعية.
يبدأ العمل برسم نموذج رقمي على أحد برامج التصميم ثلاثية الأبعاد، مثل ثري دي ماكس 3Ds Max أو أوتوكاد AutoCAD، ثم يطبع القالب الذي يعد النموذج الأولي، ليصب السيليكون عليه، وبعد الانتظار لعدة ساعات، يصبح القالب جاهزاً ليملأ بالمكونات الغذائية المختلفة التي تعتمد عليها وصفة الكيك، وترتب داخل القالب تبعاً لتصميم معد مسبقاً، وبعد التجميد تبدأ المرحلة الأخيرة، وتشمل إكساء القالب وطلائه، في عملية شبيهة بالإكساء الخارجي للمباني.
دينارا صممت كعكة سمتها "الكعكة العنقودية"، اعتمدت فيها على مخطط فورونوي، فقسمت الشكل المربع إلى مجموعة خانات عشوائية تشبه التأثير الحجري أو التشقق الذي ينتجه كسر ما، لتحصل بذلك على مجموعة قطع متباينة الأشكال والأحجام، وعبر تقطيع بعض منها، حصلت على قالب كيك ببروزات وتشكيلات حجرية.
وأخيراً، يعتمد هذا الفن في معظم مراحله على مبدأ التدرج والنسبة والتناسب والتناظر والتابين اللوني والتنويع، وعلى ما يسمى في علم التصميم التسلسل الهرمي Hierarchy، والمحاذاة والوحدة، وغيرها من المفاهيم الأساسية في التصميم.