الجميع يحبّ طعم الحلاوة والمنتجات السكرية في كل دول العالم ومن كل الفئات والأعمار، ليس لأنها مصدر سريع وسهل للطاقة فحسب، بل أيضاً لأنها مرتبطة بالاحتفالات والمناسبات الجميلة لدى الصغار والكبار، وبالتحلية بعد وجبات الطعام، ولأن القليل من السكر يحفز هرمونات الفرح على الرغم من أن كثرته مضرّة. لكن على الرغم من جاذبية الطعم المحلّى عالمياً، يبدو أن سكان الشرق الأوسط مفتونون بشكل خاص بالسكر، فخمس من أكبر 20 دولة تستهلك أكبر قدر من السكر لكل شخص، تقع في الشرق الأوسط، بحسب تحقيق لمجلة "إيكونوميست".
السكر اجتماعياً
السكر والمنتوجات السكرية لطالما كانت متاحة على نطاق واسع في الشرق الأوسط قبل وقت طويل من وصولها إلى المجتمعات الغربية. فكان السكر يُصنع من نبات الشمندر السكري، الذي ما زال يزرع في الحوض الشرقي للمتوسط، وكانت المجتمعات المحلية في معظم الشرق الأوسط تنتج السكر من الفواكه على أشكالها، فتصنع المقطرات الحلوة أو "الدبس" من العنب والرمان والتفاح والتين والتوت وثمار شجر الخرنوب، ومن عسل النحل الذي يُربّى على نطاق واسع في المنطقة.
ويعتقد بعض المؤرخين أن انتشار الأطعمة السكرية مرتبط بتحريم الدين الإسلامي للكحول، التي تؤمن كميات من السكريات لشاربيها في المجتمعات الأخرى، والتي تحلّ محل السكريات المباشرة. لذا حلّت الحلوى في مجتمعات الشرق الأوسط كوجبات للتحلية عند انتهاء تناول الطعام على الموائد الغنية بالدسم. البعض الآخر يرى أن غياب الحانات فتح المجال أمام محلات الحلوى والسكريات والعصائر لتكون أمكنة ترفيه لسكان المدن الشرق أوسطية، لذا تجدها في كل مكان، بأنواع الحلويات الكثيرة والمتنوعة التي تختلف صناعتها من منطقة إلى أخرى ولو أنها تحمل الاسم ذاته، فيُقال الكنافة النابلسية والطرابلسية والعكاوية، وهي نوع من الحلوى بالجبن الأبيض المُحلّى الذي يُذاب وتُمدّ فوقه طبقة من السميد أو الشعيرية، ويُغطّس بطبقة من الشراب السكري المسمى "القطر". ويقال بقلاوة تركية أو شامية أو طرابلسية وصيداوية وأصفهانية وحلبية. الحلويات هي ذاتها تقريباً، وعلى رأسها البقلاوة الشهيرة، ولكن المكونات من الجوز واللوز والفستق والصنوبر والبندق وكميات العجين وأنواع السكر المضاف، تختلف من منطقة إلى أخرى، بحسب ما يتوفر محلياً من المواد الأولية لصناعة هذه الحلوى.
انتشار البقلاوة
البقلاوة باتت من أنواع الحلويات المعروفة عالمياً، بعدما انتشرت محال بيعها الشامية والتركية والإيرانية والمصرية في جميع أنحاء مدن العالم، ودخلت في أنواع المأكولات المعولمة كالحمص والفلافل والشاورما والتبولة. وهذا النوع من الحلوى، الذي بات مشتهى عند جميع من تذوّقه منذ المرة الأولى، صار مرتبطاً بالاحتفالات والأعراس والأفراح والمناسبات الدينية والشعبية والتهنئة بالولادة والنجاح في جميع مدن الشرق الأوسط، وفي كل مدن العالم، حيث تتجمع الجاليات الشرق أوسطية. فلا يمكن لمثل هذه المجتمعات أن تفتح مطاعم الشاورما والفلافل والمشاوي من دون أن تقابلها محال الحلويات وعلى رأسها البقلاوة. فهذه الأطعمة والحلويات تدخل في صلب الممارسات الاجتماعية لهذه الجاليات، ولا يكتمل شعورها بالأمان الاجتماعي أو بالمشترك الجمعي "الموائدي" من دون البقلاوة، ومعها "البسبوسة"، وهي كعكة مصنوعة من السميد ومغطاة بالقطر، السائل المصنوع من السكر والمعطر برائحة الورد أو زهر البرتقال، ولفائف من المعجنات المليئة باللوز أو الجوز أو الفستق الحلبي والملفوفة بالشعيرية. وزنود الست التي تشبه "سيجاراً" صغيراً ممتلئاً ومقرمشاً محشواً بالقشدة ومقلياً ومغموراً في القطر أو العسل، والنمورة والسنيورة والتمرية والمفتقة، وكلها حلويات تدخل فيها أنواع من المكسرات والتمور والقشدة الطبيعية. وتُضاف إليها أنواع من الحلويات المعجونة بالسكر كالفستقية والسمسمية والجزرية والبندقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن كما هي حال الفلافل والحمص والشاورما، فإن البقلاوة دخلت في صراع "الهويات" في منطقة الشرق الأوسط. فالأتراك يعتبرون أنها من مطبخهم السلطاني ويروون قصصاً كثيرة ليدعموا رأيهم هذا. في المقابل، يقول اليونانيون إنها من مطبخهم القديم، وانتقلت إلى تركيا بعد سيطرة العثمانيين، حينها قام الأتراك بتنويعها وتطويرها. بلاد الشام بدورها تعتبر أن بقلاوتها هي الأصل، وهي تحمل أسماء المدن التي خرجت منها كدلالة على ذلك. هذا النوع من الخلافات طبيعي في منطقة كان اختلاط الشعوب فيها شديداً طوال الألف عام الماضية، بسبب الحروب والاحتلالات، أو بسبب السلام والأمن والتبادل التجاري الذي ازدهر على فترات مديدة متقطعة منذ الخلافة العباسية حتى انهيار السلطنة العثمانية.
تغيّر شكل البقلاوة بحسب الروايات الكثيرة عن تاريخها، إلا أن مكوناتها الأصلية تكون من رقائق العجين وهي متوافرة في المتاجر، وعند صناعتها في المنزل يُضاف إليها الفستق الحلبي المجروش وكوب من الزبدة وكوب من الماء وكوب من السكر، ويمكن وضع قرفة مطحونة أو ماء ورد. وتفرد العجينة على وعاء واسع "صينية" بعدما يُدهن بالزبدة، وتفرد فوقها طبقات عدة من العجينة مع تكرار دهن كل طبقة بالزبدة، ثم في وعاء آخر، يُخلط الفستق الحلبي مع السكر والزبدة المذابة وماء الورد بشكل جيد، ويفرد الخليط على كامل وعاء طبقات العجين. وتوضع فوقه طبقات أخرى من العجينة الرقيقة مع الضغط حتى تلتصق المكونات ببعضها، ثم توضع في فرن لطبخها ومن بعدها تُقطّع بأشكال مختلفة.
هوية البقلاوة
عام 2013، فرضت المفوضية الأوروبية ختم اسم المنشأ على البقلاوة المصدّرة من غازي عنتاب، وهي مدينة في جنوب تركيا، وهكذا تم التعرّف إلى البقلاوة على أنها منتج تركي، على الرغم من أن دولاً عربية تنسب أنواعاً من البقلاوة والحلويات إلى صناعتها المحلية وتراثها الشعبي والتقليدي. وربما تكون البقلاوة انتقلت من تركيا إلى سائر الإمبراطورية، وهناك راحت تتنوّع صناعتها وتشكيلاتها وأنواعها من منطقة إلى أخرى. ويتحدى صانعو الحلويات في جميع أنحاء اليونان والشرق الأوسط وما وراءهما مزاعم الأتراك بشأن البقلاوة، ولكن سواء كانت نسخهم تسبق وصول العثمانيين أو كانت نتيجة لتوسعهم، فإن البقلاوة موجودة في كل مكان من المغرب إلى إيران، ومن الممكن أن تختلف الأشكال والأنواع والمكونات وتتنوع المكسرات وتتغير البهارات والتوابل ولكن شراب السكر (القطر) يبقى هو نفسه، شديد الحلاوة ولكن خفيف الهضم على عكس الحلويات السكرية المصنّعة والمغلّفة، التي تباع بأشكال كثيرة وهائلة لشد انتباه الأطفال وأهلهم والتي تتسبب بأمراض كثيرة ومنها الدهون في الدم والبدانة وتسوّس الأسنان وارتفاع حاد في كمية السكر في الدم.
ويقال إن الآشوريين صنعوا أنواعاً من المعجنات ذات الطبقات والمحشوة بالجوز في وقت مبكر من القرن الثامن قبل الميلاد، لكن العثمانيين هم الذين صنعوا مجد البقلاوة التي دخلت في احتفالات الدولة العثمانية، فظهر موكب البقلاوة في أواخر القرن 17 ميلادي، في 15 من شهر رمضان، وبعد زيارة السلطان "الصحن الشريف" بصفته الخليفة، وكانت توزّع صواني البقلاوة على وحدات الانكشارية وسائر الوحدات العسكرية في اسطنبول على أن تكون لكل عشرة أشخاص صينية من البقلاوة. وكان استلام الجنود للبقلاوة ونقلها إلى الثكنات العسكرية يتم في حفل كبير، وكانت صواني البقلاوة الجاهزة تصرّ في فوطة وهي نوع من البشاكير، وتُصفّ أمام مطبخ قصر السلطان. ويصطفّ الجنود الذين سيستلمون الصواني مقابلها، إذ يبدأ سيلاحدار آغا أولاً فيأخذ الصينيتين الأوليين باسم السلطان لأن السلطان يعتبر الانكشاري الأول، ويأخذ الجنود الصواني الباقية، لكل صينية جنديان يمرران خشبة مدهونة بلون أخضر من عروات الفوطة، ويحملان الصينية على أكتافهما. يسير رؤساء كل فوج في الأمام، وحاملو الصواني يمشون خلفهم، ويخرجون من الأبواب المفتوحة نحو الثكنات على شكل موكب. وهذا العرض يُسمّى "موكب البقلاوة". ويخرج سكان اسطنبول إلى الأسواق لمشاهدته ويظهرون حبهم للسلطان والجنود.
"لاوة"
أما عن التسمية، فإن بعض كتب التاريخ ينسب أصل التسمية إلى زوجة أحد السلاطين العثمانيين، وكانت بارعة في الطبخ وابتكرت لزوجها هذا الصنف الجديد من الحلويات، باستخدام رقائق العجين وحشوها بأنواع مختلفة من المكسرات والقشدة والجبن وغيرها. وعندما ذاق طعم هذه الحلوى اندهش بها فقرر تسميتها على اسم هذه الزوجة كتحية تهنئة لها. لكن الرواية الأشبه إلى قصص الأطفال تقول إن طباخة بارعة كان اسمها "لاوة" وأُعجب بصناعتها السلطان عبد الحميد، فصاح باسمها "باق لاوة" أي "انظروا ماذا صنعت لاوة"، ودرجت التسمية على بقلاوة.
وبغض النظر عن تاريخها وأصل تسميتها، أصبحت البقلاوة سيّدة الحلويات في تركيا، تحديداً المصنوعة في مدينة غازي عنتاب الجنوبية، والغنيّة بالفستق الحلبي، ومنها انتقلت إلى حلب قبل ما يزيد على 100 عام بحسب الروايات، عبر رجل تركي فتح دكاناً في حلب وبدأ ببيع البقلاوة في شهر رمضان، لتُباع لاحقاً في مختلف أوقات السنة. بعض الروايات يقول إن خط سير البقلاوة كان عكسياً أي أن البقلاوة قدِمت من حلب باتجاه غازي عنتاب ثم إلى تركيا كلها.