عبر التاريخ، تحمّل الجنيه المصري أزمات عدة، وذاق مرارة إصلاحات اقتصادية. ويرى محللون أن الجنيه المصري كان الأقوى تاريخياً في مواجهة الدولار الأميركي منذ مطلع القرن الـ18، وحتى منتصف القرن الماضي، وبينما يتهم بعضهم "الصندوق الدولي" بأنه المتسبب الرئيسي في تراجع قيمة الجنيه، فإن آخرين يعتقدون أن دور الصندوق لا يتخطى "الطبيب المعالج"، الذي يحدد العرض والمرض، والجنيه المصري يتحمل فاتورة العلاج.
وتاريخياً، تآكلت القوة الشرائية للجنيه مع كل أزمة خانقة يتعرض لها الاقتصاد المحلي بنسبة تصل إلى 700 في المئة منذ الاعتماد عليه كوحدة الصرف الرئيسة للقاهرة في عام 1836، وحتى الآن، فبعد أن كان يعادل نحو 2.3 دولار في ستينيات القرن الماضي تراجع ليسجل في الوقت الحالي نحو 18.5 جنيه مقابل دولار واحد.
فرمان العملة المحلية
وفقاً لما ذكره الكاتب المصري أشرف رضا في كتابه "فنون مصرية على العملات الورقية"، فإن مصر بدأت سكّ عملتها الرئيسة للمرة الأولى في عام 1836، بعد أن كانت تعتمد على تداول العملات الذهبية والفضية حتى عام 1834. ووفق رضا، فإن القاهرة ظلت من دون وحدة نقدية محددة حتى عام 1834، حينما أصدر محمد علي، حاكم مصر آنذاك، فرماناً يقضي بإصدار عملة محلية تقوم على نظام المعدنين الذهب والفضة، تكون لكل منهما قوة إبراء غير محدودة، فكانت وحدة النقود قطعة ذهبية قيمتها 20 قرشاً تحت اسم "الريال الذهبي"، وقطعة من الفضة ذات 20 قرشاً (الريال الفضة)، إلى أن جرى سك الجنيه، وطرح للتداول عام 1836.
وبحسب المعلومات التاريخية على موقع البنك المركزي المصري على الإنترنت، فإن العملات الذهبية ظلت تمثل وسيلة التعامل حتى عام 1898، عندما جرى إنشاء البنك الأهلي المصري، ومُنح من جانب الحكومة امتياز إصدار الأوراق النقدية القابلة للتحويل إلى ذهب لمدة 50 عاماً، وبدأ البنك في إصدار أوراق النقد لأول مرة في الثالث من أبريل (نيسان) عام 1899.
الجنيه أبو جملين
وحول تاريخ الجنيه المصري، يقول كبير الأثريين بوزارة السياحة المصرية، مجدي شاكر، "كلمة (الجنيه) ليست عربية، بل إنجليزية، هي عملة بريطانيا التي كانت متداولة بها قبل 400 عام مضت". ويضيف، "في الخامس من يناير (كانون الثاني) عام 1899 صدر أول جنيه مصري ورقي، وكان يُطلق عليه المصريون (الجنيه أبو جملين)، وقيّمه البنك المركزي المصري آنذاك بما يعادل 7.4 غرام ذهب، ثم طرح (جنيه المعبد) الذي حمل صورة معبد الكرنك في 21 سبتمبر (أيلول) عام 1914، ثم جاء الإصدار الثالث من الجنيه الورقي حاملاً صورة جمل واحد فحسب، في يونيو (حزيران) عام 1924".
جنيه إدريس أفندي
ويحكي شاكر أن الجنيه المصري ارتبط بحكايات طريفة، لعل أبرزها "الجنيه الإدريسي"، إذ حمل صورة فلاح مصري من الأقصر يُدعى إدريس يعمل خادماً في قصر الأمير فؤاد (السلطان فؤاد في ما بعد، ثم الملك). وقال له ذات يوم، "أبشر، لقد حلمت بأنك ستكون ملك مصر، وستلبس التاج وتجلس على العرش"، وهنا نهض الأمير فؤاد، وضحك، ووعده خيراً إن تحقق حلمه.
وتزامن الحلم مع بحث الإنجليز (كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني) وراء الكواليس عمّن يُولّونه عرش مصر ويُدير دفة الحكم لصالحهم، ووجدوا في فؤاد ضالّتهم، فهو الوحيد من وجهة نظرهم الذي يمكن أن يخدم إمبراطورتيهم، فنصبوه سلطاناً على مصر، ثم ملكاً عليها، وجعلوا الملك وراثياً في أسرته.
ومنح الملك مكافأة لخادمه بطبع صورته على أول جنيه مصري من العملة الورقية في فترة حكمه باسم المملكة المصرية في عام 1926، عرف في ذلك الوقت بـ"الجنيه الإدريسي"، وهو من أندر العملات في مصر والعالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر شاكر أن جنيه "توت عنخ آمون" صدر في عام 1930، ثم جنيه الملك فاروق، وتلك المرة الأولى التي تُطبع فيه صورة الحاكم على العملة الورقية في مصر، مؤكداً أن الجنيه الحالي المتداول الذي يحمل صورة "مسجد قايتباي" في الوجه، هو المتداول منذ عام 1975، وحتى الآن، مشيراً إلى أن أكثر الإصدارات تداولاً، الجنيه المعدني الذي ظهر للمرة الأولى في عام 2005، ويجري تداوله حتى الآن.
معاناة الجنيه اقتصادياً
أما اقتصادياً، فيقول المتخصص في شؤون الاقتصاد، جودة عبد الخالق، إن الجنيه المصري كان يتمتع بالقوة في عصر محمد علي، نظراً لاعتماد مصر على الزراعة والصناعة والتجارة وقوة صادرات القطن المصري. ويشير عبد الخالق إلى أن الجنيه ظل مربوطاً بنظيره الاسترليني حتى عام 1962، حينما جرى فك الارتباط مع الإنجليز، ليتم الربط مع الدولار الأميركي، ليعادل الجنيه المصري في ذلك الوقت نحو 2.3 دولار، قبل أن يهبط الأخير تزامناً مع حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، إلى حدود الدولارين، ليعاود الارتفاع بعد الحرب مسجلاً 2.5 دولار.
ويرى عبد الخالق أن الجنيه المصري تهاوى بشدة عقب اتجاه مصر إلى الانفتاح الاقتصادي على العالم في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1975، ووصل إلى أربعة دولارات، مؤكداً أن أكثر فترات السقوط كانت في التسعينيات مع تعاون الدولة مع صندوق النقد الدولي، وتعويم الجنيه بشكل غير معلن (خفض القيمة) في عام 1993، "كل مرة تتعاون الدولة مع النقد تتآكل عُملتها، حدث ذلك ثلاث مرات في التسعينيات، ثم في عام 2016، ثم نتحرك الآن أيضاً نحو الصندوق في عام 2022". وتابع جودة أنه في عام 2004، تراجعت قيمة الجنيه لتوازي سبعة دولارات قبل أن تلجأ مصر إلى صندوق النقد الدولي في عام 2016، وتخفض قيمة الجنيه بنحو 50 في المئة، ليسجل نحو 15 دولاراً قبل الخفض الأخير بقيمة 15 في المئة، مسجلاً في الوقت الحالي نحو 18 جنيهاً تقريباً.
في المقابل، رفض المتخصص في شؤون الاقتصاد، شريف سامي، توجيه أصابع الاتهام إلى صندوق النقد الدولي، مؤكداً أن دور الصندوق "يُماثل دور الطبيب المعالج للجسد"، موضحاً أن المريض "يذهب إلى عيادة الطبيب من تلقاء نفسه عندما تتفاقم حالته الصحية، وهنا يحدد له الطبيب العلاج والأدوية المطلوبة بعد الفحص، فهل نُحمّل الطبيب مسؤولية ارتفاع فاتورة الدواء؟".
وأكد سامي أن الاقتصاد المصري يعاني منذ سنوات طويلة عجزاً بالميزان التجاري، وهو ما يعني نقصاً في العملات الأجنبية نتيجة تراجع الصادرات والسياحة وغيرها من الموارد من العملة الصعبة، مشيراً إلى أن أسباب تفاقم الأزمة حالياً على الرغم من أن العجز التجاري منذ سنوات تعود إلى تضافر عدة عوامل في الوقت نفسه على غير ما كان يحدث في السابق، لافتاً إلى ارتفاع فاتورة شراء السلع الاستراتيجية بعد الحرب الروسية تزامنت مع تراجع الحصيلة السياحية في ظل تراجع حاد في حجم الصادرات مع تراجع الاستثمارات غير المباشرة في أدوات الدين تزامناً أيضاً مع تراجع قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتراجع قطاعي الصناعة والزراعة.
موقف صعب
وأكد أن الجنيه المصري اليوم في موقف صعب للغاية للأسباب سابقة الذكر، قائلاً، "يجب أن نصارح أنفسنا بأن قيمة العملة المحلية انعكاس لحالة الاقتصاد، والحل يبقي في علاج العرض والمرض بزيادة الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية والبحث عن أسواق بديلة للسياحة الروسية والأوكرانية".
وبلغت قيمة العجز في الميزان التجاري لمصر نحو 2.4 مليار دولار خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بحسب بيانات نشرة التجارة الخارجية الصادرة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مارس (آذار)، بعد أن سجلت قيمة الصادرات المصرية نحو 4.3 مليار دولار مقابل واردات من خارج البلاد بلغت 6.73 مليار دولار.