ألقت الأزمة السياسية الجديدة في ليبيا وانقسامها بين حكومتي الشرق والغرب بظلال ثقيلة على قطاع النفط، باعتباره الورقة الأولى التي تستخدم بين أطراف الصراع السياسي كلما احتدمت الخلافات بينهم كوسيلة للضغط وجلب المكاسب السياسية على طاولات التفاوض.
الاضطرابات التي أثرت على استقرار إنتاج النفط الليبي خلال الشهرين الماضيين بشكل واضح، جاءت في توقيت سيئ تماماً للداخل والخارج، لتزامنها مع الحرب الروسية في أوكرانيا، التي قفزت بأسعار النفط إلى مستويات قياسية لم تسجل منذ سنوات طويلة.
وبسبب تلك الطفرة في سعر الخام على المستوى الدولي تعالت أصوات المطالبين بضرورة رفع الإنتاج الليبي، وليس تقليله، للاستفادة من الزيادة الضخمة في الأسعار، بخاصة في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها الاقتصاد المحلي، بينما تضغط أطراف دولية، على رأسها الولايات المتحدة، لعدم التفكير حتى في خفض مستويات الإنتاج الليبي، لأن الأسواق الدولية لا يمكنها تحمل تداعيات أزمة جديدة لأحد المنتجين الكبار.
ورداً على الانتقادات التي طاولت طريقة إدارة المؤسسات المسؤولة لقطاع النفط الذي يواجه مشكلات سياسية وفنية، أرجع رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله أسباب الأزمات المتلاحقة إلى الظروف التي تمر بها البلاد على المستويين السياسي والاقتصادي.
صنع الله قال إن "المؤسسة واجهت مشاكل كبيرة في الحصول على الميزانيات المطلوبة، وعلى الرغم من تحصيل الحكومة الحالية أعلى إيرادات منذ 2013، حيث تسلمت في 2021 مبلغ 26 مليار دولار، حصلت المؤسسة على 11 في المئة فقط من الميزانية المطلوبة"، مضيفاً أن "أرقام الإنتاج الحالية يمكن أن تتدنى في أي لحظة بسبب قلة التمويل، الذي أدى إلى نقص الصيانة وتهالك البنية التحتية للقطاع".
مرحلة الابتزاز
وسرد صنع الله سلسلة الأزمات التي مرت بها المؤسسة النفطية في السنوات الماضية، وأثرت على القدرة الإنتاجية للبلاد حتى اليوم، قائلاً "بعد 5 سبتمبر (أيلول) عام 2011 عاودت المؤسسة الوطنية للنفط عملياتها، واستطعنا الوصول لـ1.512 مليون برميل يومياً في مايو (أيار) 2012، وهي تقريباً معدلات ما قبل ثورة فبراير (شباط)".
وتابع: "منذ مايو 2012 بدأت محاولات استهداف المؤسسة ومحاولات تسييسها وابتزازها من جميع الأطراف دون استثناء، وفي 5 يوليو (تموز) 2012 حدثت أول عملية ابتزاز وإقفال للنفط في حوض سرت لأسباب سياسية، وفي 28 يوليو 2013 أدخل إنتاج النفط بالكامل في صراع، وللأسف تدنى الإنتاج إلى أقل من 100 ألف برميل فقط".
وأشار إلى أن "المؤسسة أعادت الإنتاج في نهاية 2014 لمليون برميل، ثم تجددت الحرب وتوقف الإنتاج مرة أخرى عند 100 ألف برميل يومياً فقط، حيث استمر الإقفال حتى سبتمبر 2016، واستطعنا العودة بالإنتاج لـ1.3 مليون برميل يومياً، ثم أقفل في يناير (كانون الثاني) 2020 لـ9 أشهر، وأعيد بترتيبات من المجلس الرئاسي ومجلس النواب، وتحت إشراف المجتمع الدولي".
تحذير من تجميد الإنتاج
ومع تجدد الأزمة السياسية في ليبيا بسبب الصراع الحالي على السلطة وشرعية إدارة المؤسسات بين حكومتي فتحي باشاغا التي كلفها البرلمان إدارة البلاد، بعد حجب الثقة من حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تحركت أطراف دولية لتجنب توقف إنتاج النفط في توقيت حرج جداً، مع الارتفاع الجنوني في الأسعار على المستوى الدولي بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا.
في السياق ذاته، قال سفير أميركا ومبعوثها الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، إن "هذه الفترة هي الأسوأ لإيقاف ومنع إنتاج النفط الليبي، والوقت الحالي هو الأنسب لرفع الإنتاج، لكي يستفيد الليبيون من ارتفاع الأسعار وتصديره إلى الأسواق العالمية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح نورلاند، في مقابلة صحافية، السبت، أن "الولايات المتحدة، إلى جانب مختلف شركائها بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومصر، تقترح آلية لإدارة عائدات النفط حتى يتم اتفاق بشأن القضايا السياسية الأوسع".
وبين السفير الأميركي طبيعة الآلية المقترحة من بلاده وشركائها قائلاً إنها "ستوزع فقط عائدات النفط على الرواتب والإعانات وإنتاج النفط والسلع المستوردة الرئيسة مثل الغذاء والدواء"، قائلاً إن "ذلك سيتم بشفافية ومساءلة كاملتين"، مضيفاً، "سيكون أصحاب المصلحة الليبيون هم من يقرر ما إذا كانوا سينفذون ذلك، لكنّ هناك أسباباً مقنعة للقادة لضمان ذهاب العائدات لصالح الشعب الليبي فقط".
تهدئة المخاوف الدولية
ومع تزايد المخاوف الدولية من توقف إنتاج النفط الليبي وتداعياته المحتملة، أرسل رئيس الحكومة الليبية المكلف فتحي باشاغا، رسائل طمأنة بشأن عدم استخدام ورقة النفط في الصراع السياسي الحالي، بخاصة أن أغلب التهديدات بإيقاف ضخ النفط تأتي من الشرق الليبي. وقال إنه يرفض إيقاف ضخ النفط كورقة للضغط من أجل تسليم السلطة، وإنه سيدعم المؤسسة الوطنية للنفط.
المحلل الاقتصادي سليمان الشحومي، يرى أن "قطاع النفط والغاز في ليبيا يحتاج نحو 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، لتجديد بنيته الأساسية وزيادة القدرة الإنتاجية"، مشيراً إلى أن "القطاع يعاني فقدان التمويل اللازم لاستدامة الإنتاج واستمرار القدرة التصديرية عند مستوياتها الحالية، والاستثمار يعني زيادة الاستكشافات من النفط والغاز".
الشحومي قال إنه لا يمكن الحديث عن أي تنمية أو إعادة إعمار إلا عبر تحسين القدرة الإنتاجية والتصديرية للنفط والغاز، مضيفاً "حكومة الوحدة الوطنية أهملت الاستثمار في القطاع النفطي على الرغم من أنها توسعت في الإنفاق التسييري، ولو استخدمت المبالغ التي خصصتها لمشاريع التنمية وتطوير المراكز الإدارية، ومنح الزواج، ووجهتها لخدمة قطاع النفط والغاز، لكان أفضل إنجاز ممكن أن تحققه حكومة مثلها".
من جهته، اعتبر عضو مجلس النواب، مصباح أوحيدة، أن النهوض بالاقتصاد عموماً، وليس قطاع النفط فقط، يتطلب تحرير المؤسسات الاقتصادية من الهيمنة الخارجية، قائلاً إنه "ما لم يحرر مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار من الهيمنة الشخصية والخارجية سيستمر العبث بهذا البلد، ولن يرى استقراراً أبداً".
أما المحلل السياسي الليبي محمد بويصير، فدعا إلى ضرورة التحرك للاستفادة من الظروف الحالية التي يشهدها العالم في تحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة لليبيا، قائلاً إن "الأسباب السياسية موجودة وبقوة، وأموال الاستثمارات متوفرة، وإرادة مستهلكي النفط للبحث عن بدائل لروسيا حقيقية وترتبط بأمنهم الوطني في زمن الحرب، ونحن لا نبعد أكثر من مشوار يوم وليلة بالباخرة عن أوروبا، إذاً ماذا ينقصنا كي نغتنم الفرصة؟".