يثير انتشار الأفكار المتطرفة حالياً في الغرب بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا مخاوف كبيرة لدى سلطات معظم الدول الغربية، لا سيما ألمانيا، التي عانت وتحملت الكثير تاريخياً بسبب استفحال النزعات القومية المتطرفة فيها. إلا أن هذه المرة، يكتسب التجنيد في صفوف المتطرفين وبث أفكار المجموعات القومية المتطرفة والجماعات التي تؤمن بالتفوق العرقي والمتشددين الإسلاميين، أداةً جديدة لخدمة أهدافهم، ألا وهي الإنترنت، حيث تجذب بعض التطبيقات قطاعات واسعة من المناصرين والداعمين.
ولفت تقرير أعدته صحيفة "واشنطن بوست" إلى واقع يرافق أكبر حرب برية في أوروبا منذ عام 1945، ألا وهو مسألة إعادة إحياء المشاعر القومية في الغرب بقوة. إذ تذرع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما شن حربه على أوكرانيا بالمبادئ العرقية القومية لصلة الدم والثقافة، نافياً وجود أوكرانيا مستقلة.
إلا أنه في المقابل، وفي معرض ردهم على العدوان، رحب القادة في كييف، بالفصائل القومية المسلحة ضمن قواتهم المسلحة، من بينها "كتيبة آزوف" اليمينية المتطرفة.
وألهمت النداءات القومية المتضاربة المتطرفين في البلدان الأخرى للانحياز إلى أحد جانبي الصراع، والسعي للحصول على تجربة قتالية يمكن أن تحرض على العنف في أمكنة بعيدة عن خط المواجهة الدائرة اليوم.
تجنيد نشط عبر الإنترنت
وتعليقاً على ذلك، قال ستيفان ج. كرامر، رئيس وكالة الاستخبارات الداخلية في ولاية ثورينجيا الألمانية إن "أكثر ما يقلقني هو أن هؤلاء المتطرفين يتلقون تدريبات قتالية بالأسلحة والمتفجرات، وبسبب تجربة الحرب، فإن عتبة استخدام الأسلحة والقوة المميتة لديهم باتت منخفضة للغاية".
ولا يزال عدد المتطرفين اليمينيين في ألمانيا، الذين يعبرون الحدود إلى أوكرانيا ضئيلاً، وفقاً لوزارة الداخلية الألمانية. وذكرت السلطات أخيراً أن 27 شخصاً فقط سافروا إلى أوكرانيا أو خططوا للقيام بذلك، من بين 33300 متطرف يميني يقدر وجودهم في ألمانيا، 13000 منهم يميلون إلى العنف. وقالت السلطات إنه لا يوجد دليل على أن أي شخص من هؤلاء شارك في أي معارك.
لكن كرامر قال إن التجنيد النشط عبر الإنترنت يشير إلى أن صراعاً طويلاً يمكن أن يجذب مزيداً من المقاتلين المتطوعين. وأضاف أن "الاستعداد لحمل السلاح يعكس تكثيفاً لنشاط المتطرفين اليمينيين، بما في ذلك في صفوف الجيش الألماني".
"أفغانستان النازيين الجدد"
ونقلت "واشنطن بوست" عن ستيفن ستالينسكي، المدير التنفيذي لمعهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط ومقره واشنطن، قوله إنه بالنسبة إلى النازيين الجدد والمؤمنين بنظرية تفوق العرق الأبيض، "يمكن أن تصبح أوكرانيا بالنسبة لهؤلاء نسخة لما كانت أفغانستان بالنسبة إلى الحركة الجهادية في الثمانينيات. إن الوجود على أرض المعركة وفي حالة قتال حقيقية سيسمح لهم باكتساب خبرة قيمة، حيث سيصقلون مهاراتهم في استخدام الأسلحة والتخطيط للهجمات واستعمال الوسائل التكنولوجية في الحرب، بما في ذلك الاتصالات والتشفير واستخدام العملة المشفرة للتمويل السري لأنشطتهم".
وقال ستيفان مايستر، المتخصص في الشؤون الروسية في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، إن "احتمال أن تسرع الحرب في أوكرانيا نشاط المتطرفين في الغرب أمر جدير بالملاحظة، وذلك بسبب الحملة الطويلة الأمد التي خاضها الكرملين لتنمية تلك الحركات الهامشية وتقويض الديمقراطيات في الدول". وقال إن "هذه الجهود، سواء من خلال الدعم المالي أو نشر نظريات المؤامرة الخيالية عبر الإنترنت، أكسبت موسكو تعاطفاً عبر قطاعات واسعة من اليمين المتطرف في الغرب".
أما الآن، وبعكس ادعاء الرئيس الروسي بأن الحرب التي شنها تهدف إلى التخلص من النازية في كييف، فإن النازيين الجدد في ألمانيا وخارجها لا يدعمون أوكرانيا فقط، وفق مسؤولي الأمن والاستخبارات، بل كشف الصراع عن انقسام بين المتطرفين، إذ إن بعضهم يدعم نضال أوكرانيا من أجل السيادة، لكن كثيرين آخرين يؤيدون الحملة المناهضة لأميركا التي يشنها بوتين، وهي برأيهم حملة تستهدف الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهو يهودي.
المتطرفون من جميع الأطياف، ليس فقط النازيين الجدد، ولكن المتطرفين الإسلاميين أيضاً، يسخرون فوضى الحرب لتناسب دعايتهم الخاصة.
وقال كرامر "إن الحرب تشكل تهديداً وبالتالي تخلق وضعاً عاطفياً، وتبث الخوف في أجزاء واسعة من المجتمع. في مثل هذه الحالة من الخوف، يصبح كثير من الناس منفتحين على وعود الخلاص والقادة الأقوياء الذين يقدمون حلولاً وإجابات سهلة. كما أنه تغذي هذه الحالات الأفكار المسبقة والقوالب النمطية وخيالات المؤامرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أهداف أخرى
كذلك، فإن لفت تقرير "واشنطن بوست" إلى أن القتال هو مجرد أحد الأهداف التي تحفز المتطرفين الألمان على العبور إلى أوكرانيا. إذ يسعى بعضهم أيضاً إلى إجراء تقارير مستقلة تتجاوز ما يرون أنه "لوغنبرس" (lügenpresse) أو الصحافة الكاذبة، وهو وصف مسيء استخدمه هتلر عندما عزز سلطته في ألمانيا في فترة ما بين الحربين العالميتين. كما أن لدى بعضهم الآخر خططاً لتقديم المساعدة الإنسانية لأسر القوميين، وذلك وفق مسؤولين ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة.
ومن بين المتطرفين الذين عبروا الحدود إلى أوكرانيا ولكنهم عادوا إلى بلادهم، وفق مسؤول أمني ألماني، قال رجل إنه ذهب لإجراء بحث من أجل مقال كان يخطط لكتابته لصالح وسيلة إعلامية تدعم القوميين.
في سياق متصل، تبث قنوات تابعة للمتطرفين، مواقف داعمة لروسيا. وقالت مجموعة تدعى "ساكسونيا الحرة" لمتابعيها أخيراً إن الصراع في أوكرانيا "يغذيه الناتو إلى حد كبير". وأدانت حملات التشهير ضد "أصدقاء بوتين".
تشديد الرقابة
وقال مايكل كريتشمر، رئيس وزراء ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا، التي ينظر إليها على أنها مركز أساسي للتنظيم اليميني، إن "التحذيرات بشأن التجنيد يجب أن تؤدي إلى تنظيم أكثر صرامة للاتصالات عبر الإنترنت". وخص بالذكر تطبيق "تلغرام"، وهو من بين خدمات المراسلة الأكثر شعبية في أوكرانيا وروسيا، وتفضله أيضاً الجماعات اليمينية المتطرفة على مستوى العالم. وقال كريتشمر، وهو عضو في الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط)، إن تطبيق المراسلة المذكور، والمعروف باعتماد نهج عدم التدخل في تعديل المحتوى، "يجب أن يتم تنظيمه حتى يعمل وفق قوانيننا".
وتعتمد ألمانيا إحدى أكثر القواعد صرامة في العالم ضد خطاب الكراهية والمضايقات عبر الإنترنت. حظرت هيئة تنظيم البث الإذاعي في ألمانيا الشهر الماضي، قناة RT الروسية الناطقة باللغة الألمانية. وكان تحدي التمييز بين أنواع كراهية اليمين المتطرف ماثلاً عندما أعلن "فيسبوك" أنه سيسمح بالثناء على "كتيبة آزوف" الأوكرانية - ولكن فقط في سياق دفاعها عن أوكرانيا.
"معضلة كتيبة آزوف"
وتطرح شهرة "كتيبة آزوف" مشاكل عدة أمام القوى الغربية. وقال مسؤول استخباراتي غربي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، "لا ينبغي تقديم هؤلاء الأشخاص على أنهم أبطال. إن ذلك يوفر لبوتين ذريعة للتحدث عن محاربة المتطرفين، كما أنه يعرض الاستقرار للخطر على المدى الطويل أيضاً".
وأجرى المسؤول مقارنة بين الوضع الحالي في أوكرانيا ودعم الولايات المتحدة للمقاتلين المناهضين للسوفيات الذين حاربوا في أفغانستان في الثمانينيات.
كما قال كونستانتين فون نوتس، عضو حزب الخضر الذي يشغل منصب نائب رئيس لجنة مراقبة الاستخبارات بالبرلمان الألماني، إن المخاوف بشأن التجنيد في ألمانيا تذكر بأن المتطرفين سافروا للقتال في حرب كوسوفو في أواخر التسعينيات.
في الآونة الأخيرة، قدرت السلطات الألمانية أن أكثر من 1000 شخص من مواطنيها سافروا إلى العراق وسوريا للانضمام إلى تنظيم "داعش". وفي أوكرانيا، اجتذبت الأعمال العدائية التي سبقت الحرب الشاملة، ليس فقط المتعاطفين مع اليمينيين القوميين، ولكن أيضاً المقاتلين الشيشان المسلمين.
قال كرامر، "من خلال تاريخ كتيبة آزوف، نعلم أن عدداً من المتطرفين اليمينيين سافروا من أوروبا وأميركا الشمالية إلى أوكرانيا في السنوات الماضية وقاتلوا في صفوفها، في مختلف النقاط الساخنة في المنطقة".
كما يدعم بعض المتطرفين الإسلاميين أوكرانيا، وأدانوا المقاتلين المسلمين الشيشان الذين حملوا السلاح لصالح بوتين، وذلك في تحليل أجرته "رابطة مكافحة التشهير"، بينما يرى آخرون من هؤلاء أن كلا الجانبين "غير مؤمن" ويشجعون على فنائهما المتبادل. في غضون ذلك، يشجب المتعصبون للعرق الأبيض الصراع، باعتباره حرباً بين "الإخوة"، وأنه لا فائدة من مقتل إخوتهم البيض.
وقال مسؤول استخباراتي عربي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة النتائج الحساسة، "ما نجده مقلقاً هو استخدام الحرب من قبل البعض لدعم رواياتهم الخاصة. إذ هناك مَن يريدون مقارنة الوضع في أوكرانيا بوضع الفلسطينيين ويقولون: إذا كان الغرب على استعداد لإرسال أسلحة إلى أوكرانيا ودعم القتال هناك ضد الروس، فلماذا لم يكونوا مستعدين لدعم الفلسطينيين؟".