يشكّل العصر العباسي الحاضنة الطبيعية التي نشأت فيها الفلسفة العربية، ففيه يتقن العرب والمسلمون التفكير الفلسفي في ضوء المتغيرات الثقافية التي يتمخض عنها العصر، وفي طليعتها ازدهار حركة الترجمة والنقل. ويحدّد أستاذ الفلسفة والحضارات في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد شيا في كتابه "حضارة العصر العباسي منارة في ليل العصور الوسطى"، الإرهاصات التي سبقت نشوء هذا الحقل المعرفي عند العرب، بالإلماحات الفكرية في معلّقات الجاهليين وخطبهم، والثورة الإيمانية الفكرية التي أحدثها الإسلام وما تمخّضت عنه من "دروس وعبر واستخلاصات وقواعد أخلاقية وتعميمات"، والأخذ بأساليب الجدل والحجج العقلية دفاعاً عن العقيدة والفرق الفقهية المختلفة. وهذه الإرهاصات شكّلت القابلة القانونية لولادة الفلسفة العربية في العصر العباسي. ولعل أبرز الفلاسفة الذين أطلعتهم هذه المرحلة التاريخية هم: أبو يعقوب الكندي، أبو نصر الفارابي، والشيخ الرئيس ابن سينا، موضوع هذه القراءة.
هو أبو علي حسين عبدالله المعروف بابن سينا والملقّب بالشيخ الرئيس. ولد في قرية أفشنة من أعمال بخارى في بلاد فارس سنة 370 هـ / 980 م، وتوفي في همذان سنة 428 هـ / 1036 م. وبين الولادة والوفاة عاش حياته حافلة بالنشاط واللهو والتحصيل والتدريس والتأليف والغرف من متع الحياة، على أنواعها. وبكلمة أخرى، عاشها واسعة قصيرة، كما يشتهي، لا ضيقة طويلة، على حد تعبيره. ولعل هذا النوع من الحياة كان السبب في استهلاك جسده ووفاته المبكّرة عن ستة وخمسين عاماً.
سيرة مختصرة
لعل ولادته لأب اسماعيلي في بيت يطرح الأسئلة ويخوض في شؤون الفكر والدين غرست فيه نوعاً من الفضول المعرفي سيترك تأثيره الكبير في مجرى حياته؛ فحفظ القرآن دون العاشرة من العمر، وأقبل على التعلّم والقراءة. تتلمذ على أبي بكر الخوارزمي في اللغة، واسماعيل الزاهد في الفقه، وأبي علي الباتلي في المنطق، وأبي نصر الفارابي في الفلسفة، وأبي سهل المسيحيي في الطب، وغيرهم. وعكف على قراءة ما يقع بين يديه من علوم المنطق والحكمة والرياضيات والطب، وينقل جمال الدين القفطي عن سيرته التي أملاها على تلميذه أبي عبيد الجوزجاني أنه، بعد أن أتى على القرآن الكريم في العاشرة من العمر، أقبل على قراءة: كتاب إيساغوجي، كتاب إقليدس، كتاب المجسطي، كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، كتاب في أغراض ما بعد الطبيعة للفارابي، كتب المنطق والفلسفة، كتب الطب، كتب دار الكتب العائدة لسلطان بخارى نوح بن منصور. وهكذا، تكوّنت لديه حصيلة معرفية وهو في الثامنة عشرة من العمر، قلّما توفّرت لآخرين.
التدريس والتأليف
في المقابل، وبعد التتلمذ والتحصيل، انخرط في التدريس والتأليف، وهما الوجه الآخر لحركته الثقافية الناشطة التي لفتت إليه الأنظار، وأكثرت من معجبيه وحاسديه في الوقت نفسه. أمّا التدريس فقد تتلمذ عليه أبو عبيد الجوزجاني وأبو القاسم الكرماني وأبو عبد الله المعصومي وأبو الحسن بن طاهر بن زيلة وبهمتيان بن المرزبان وعمر الخيام وغيرهم. وفي هذا السياق، يقول الجوزجاني: " وكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم. وكنت أقرأ من الشفاء نوبة وكان يقرأ غيري من القانون نوبة. فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وعُبّئ مجلس الشراب بآلاته، وكنا نشتغل به. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير".
وأمّا التأليف فقد عكف عليه ابن سينا حتى أربت مؤلفاته، حسب بعض المراجع، على المائتين في الحقول المعرفية المختلفة. كان أوّلها كتاب "المجموع" الذي وضعه في الثامنة عشرة من العمر، وجمع فيه ما تناهى إليه من علوم العصر. وفي هذا السياق، يقول عباس محمود العقاد في كتابه عنه: "ولم يكن أعجب من سرعته في التحصيل غير سرعته في التدوين" (ص 16). ويحصي الأب يوحنا قمير في كتابه عنه عشرين كتاباً مطبوعاً في الحقول المعرفية المختلفة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، "القانون في الطب"، و"الشفاء في الفلسفة"، و"حي بن يقظان في الإشراق"، و"العهد في السياسة"، و"إثبات النبوءات في الفلسفة الدينية". ولعل هذا السيرة الحافلة بالتحصيل والتدريس والتدوين والتطبيب والسياسة والإقبال على متع الحياة جعلت الأب قمير يستخلص منها ثلاث صفات لهذه الشخصية التي تشكّل علامة فارقة في تاريخ الفكر العربي، هي: قدرة نادرة على العمل المتنوّع، اعتداد بالنفس وطموح إلى المجد، وحرص على القيام ببعض مظاهر الدين. ويضرب على كلّ صفة وقائع منسوبة إلى صاحب السيرة.
ابن سينا الطبيب
على أن الحقلين المعرفيين اللذين يستاثران بسيرة ابن سينا ويشغلان جلّ اهتمامه هما: الفلسفة والطب. وكان له في كلٍّ منهما القدح المعلّى، إلى حدّ ارتباط اسمه بهذين الحقلين. أمّا الطب فقد رغب فيه منذ نعومة أظفاره، واستسهل الخوض فيه في الوقت الذي يستصعبه الآخرون، وأيلى فيه البلاء الحسن، فطبّقت شهرته الآفاق. وهو يعبّر عن ذلك في السيرة التي أملاها على تلميذه أبي عبيد الجوزجاني بالقول: "ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنّفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جرم أنني برزت فيه في أقل مدة، وتعهّدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات، المقتبسة من التجربة، ما لا يوصف". ولعل الشهرة التي عرفها كتابه "القانون في الطب" الذي تحوّل، بعد ترجمته إلى اللغة اللاتينية، إلى مرجع دراسي في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر، وطُبع حوالى الأربعين طبعة ما بين ظهور الطباعة وبداية القرن السادس عشر، وكان يُنظر إليه في الغرب بنوع من التقديس، على حدّ تعبير يوحنا قمير، خير دليل على مكانة ابن سينا الطبية، إلى حد أن الأستاذ كمستون (Cumston) قارنه بجالينوس، وفضّله عليه بوضوحه ومنهجه وحسن تنسيقه.
ابن سينا الفيلسوف
أمّا الفلسفة، وعلى الرغم من شهرته الطبية، فهو يُفضّلها على سواها من الحقول المعرفية، وتشغل حيّزاً كبيراً من اشتغالاته الفكرية. وهذا ما يستنتجه يوحنا قمير حين يرى "أن الفلسفة والرياضيات كانت عند الشيخ الرئيس بالمنزلة الأولى التي تتقدم على الطب والعلوم الطبيعية". وهو يعزو ذلك إلى رأيه في "تقديم الإلهيات والمعارف المجردة على المعارف النفعية أو الملتبسة بالأجسام" (ص 118). وانطلاقاً من هذا التفضيل، نراه يطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى في عصره، ويدلي بدلوه فيها، ويشكّل منظومته الفكرية الخاصة. غير أن هذه الخصوصية لا تحجب تأثره بالسابقين له من أهل الفلسفة وتقاطعه معهم في غير نقطة تقاطع. ففي معرض مقارنته بأسلافه الفكريين، يخلص عباس محمود العقاد إلى أن ابن سينا "يقارب الفارابي في التوفيقات الدينية، ويقارب فرفريوس والأفروديسي في الرموز الصوفية، ويقارب أرسطو في التفكير المنطقي، ويقارب أفلوطين في النزعة الفنية"، ويقارب أفلاطون في استخدام الأساطير الرمزية لتوضيح مقاصده الفلسفية (ص 87).
الأسئلة الكبرى
الأسئلة الكبرى التي يطرحها ابن سينا في منظومته الفلسفية هي أسئلة العصر الذي عاش فيه. وتتناول: سؤال العالم، سؤال النفس، سؤال الخير والشر، وسؤال الحرية. وكانت له آراؤه الخاصة في كل منها، بالتقاطع مع الآخرين أو بالتعارض معهم.
في معرض طرحه السؤال الأول، يتّخذ موقفاً توفيقياًّ بين القائلين بِقِدَمِ العالم والقائلين بِحُدوثه، ويقول بِقِدَمِهِ وخَلْقِهِ في آن معاً، ويعبّر عن ذلك بالقول: " العالم ممكن بذاته، ولكنه واجب بغيره لأنه كان في علم الله، وما كان في علم الله لا بدّ أن يكون". وعلى هذا المنوال، يصنّف الكائنات بين ما هو ممكن الوجود يحتاج إلى علّة تخرجه من حيّز الإمكان إلى حيّز الفعل، وبين ما هو واجب الوجود لا نتصوّر عدمه وهو غير مسبوق. ولعل إبداعه في هذا التصنيف يكمن في "تقسيم الوجود إلى واجب بذاته وممكن بذاته لكنه واجب بغيره"، على حدّ بعض الدارسين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي معرض طرحه السؤال الثاني، يحدّد النفس بـ"أنها كمال أول لجسم طبيعي آلي أو جسم طبيعي ذي حياة"، وهي صورة الجسم أو ماهيته، وبها يتمّ التمييز بين جسم حي وآخر غير حي. وهي عنده، تتدرّج من النفس النباتية التي تقوم بالتغذية والنمو والتوالد إلى النفس الحيوانية التي تقوم بهذه وبالإرادة معها إلى النفس الإنسانية وهي النفس الناطقة ولها مشاعر ظاهرة (الحواس) وملكات باطنة (التفكير والتصوير والتوهّم والتذكّر).
وفي معرض طرحه السؤال الثالث، يرى أن العالم مزيج من الخير الكثيرالأصيل فيه، والشر القليل الطارئ عليه لضرورة يقتضيها الخير. ويميّز بين الخير المحض الواجب الوجود بذاته والشر أو النقص الممكن الوجود بذاته ويحتمل العدم.
وفي معرض طرحه السؤال الرابع، المتعلق بالحرية الإنسانية، يرى أن النفس مكرهة على دخول الجسد وفراقه. لا حيلة لها في تقدير التفاوت، ولا حيلة لها في الرزق المقسوم. وفي مقابل هذا الرأي الذي يجعل النفس مسيّرة لا مخيّرة، نراه "يؤمن بالعدل في نظام الوجود وبالخير المحض من واجب الوجود، فلا يقع في الدنيا ظلم ظاهر إلا كان له وجه باطن من العدل، ولا يجري الشر إلا في مجرى الخير ولا تنتهي الأمور إلا إلى أفضل النهايات"، على ما يذهب إليه العقاد في كتابه عنه (ص 104). وبذلك، يشكّل العدل تعويضاً عن الحرية المفقودة. وهو في هذا المذهب ينسجم مع إيمانه الديني وحرصه على القيام بمظاهر الدين.
بهذه المشاغل والاشتغالات استحق ابن سينا لقب الشيخ الرئيس بامتياز.وشكّل علامة فارقة في تاريخ الفكر العربي يجدر بنا التوقف عندها والعكوف عليها والغوص على ما يكمن فيه من الدرر.