مع سعي الدول الأوروبية لتقليل اعتمادها على مصادر الطاقة من روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، تبدو فرصة الولايات المتحدة لأن تصبح لاعباً رئيساً في سوق الطاقة العالمية كبيرة. لكن هناك كثيراً من المعوقات تحول دون رغبة واشنطن في الاستفادة من الوضع لتصبح "رمانة الميزان" في سوق النفط الخام.
القرار الأخير من جانب إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بسحب مليون برميل يومياً من المخزون الاستراتيجي الأميركي وطرحها في السوق لمدة أشهر لم يؤثر كثيراً في الأسعار. وتشير تقارير مختلفة إلى أن شركات الطاقة الأميركية ليست متحمسة لتلبية دعوة البيت الأبيض لها لزيادة الإنتاج بقوة وخفض الأسعار. بعدما تجاهلت دول الخليج المصدرة للنفط دعوات مماثلة من إدارة الرئيس بايدن في بداية أزمة أوكرانيا، والتزمت اتفاقها مع المنتجين من خارج منظمة أوبك (تحالف أوبك+) الذي يضم روسيا.
صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية قارنت في تقرير لها، السبت، بين موقف الشركات الأميركية وموقف "أوبك"، واستخدمت وصف "الحلفاء الجدد". وفي عددها الأسبوعي، السبت، كتبت هيئة تحرير صحيفة "فايننشيال تايمز" افتتاحية خاصة بعنوان "الولايات المتحدة تحاول قيادة سوق النفط". لكنها أبرزت التناقض بين سياسة الرئيس بايدن، التي جاء بها إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية، العام قبل الماضي، وتصرفاتها الحالية. فالتحول بعيداً عن الطاقة من الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) والاستثمار أكثر في الطاقة الخضراء المتجددة (الشمسية والرياح وغيرها) كان بنداً أساساً في بيان بايدن الانتخابي واستراتيجية إدارته المعلنة. لذا تخلص افتتاحية "فايننشيال تايمز" إلى نصح إدارة بايدن بالتركيز على هدفها الأساس بالاستثمار في الطاقة المتجددة، بدلاً من التورط في إجراءات آنية لأسباب سياسية داخلية أو محاولة استغلال أزمة حرب أوكرانيا.
الاحتياطي والسوق
من الواضح أن كل السحب من الاحتياطي الاستراتيجي لدى الولايات المتحدة لم يفلح في خفض الأسعار كما ترغب الإدارة الديمقراطية الحالية في البيت الأبيض. ومع ارتفاع أسعار الوقود في محطات البنزين بنحو 50 في المئة، يخشى الديمقراطيون بشكل جدي من خسارة الانتخابات التكميلية للكونغرس الأميركي بمجلسيه، النواب والشيوخ، في وقت لاحق من هذا العام.
"أحدث خطوة هي سحب 180 مليون برميل من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، في أكبر عملية سحب من هذا المخزون على الإطلاق. لكن رد فعل السوق غير المبالي يشير إلى أنه حتى خطوة بهذا الحجم لن تكون كافية لوقف ارتفاع أسعار الوقود بالقدر الذي يريده جو بايدن"، كما تقول افتتاحية "فاينانشيال تايمز". مشيرة إلى أن "الخطوة بدت وكأنها رد فعل مبالغ فيه ويتسم بالذعر، بالتالي قد تؤدي إلى نتائج عكسية تماماً. فالسحب من المخزون بهذا الشكل سيجعله في أدنى مستوياته منذ 1984. في الوقت الذي تواجه الإمدادات مخاطر حقيقية".
أما الضغط على المنتجين الأميركيين لزيادة الإنتاج، والتهديد بفرض غرامات على الشركات التي لا تستغل الأراضي التي رخصتها الحكومة لها للاستكشاف والإنتاج، فيبدو أنه لم يؤت بنتائج. ومع تحذيرات وكالة الطاقة الدولية من أن الإنتاج الروسي قد يتراجع بمعدل كبير، فإن الشركة ترغب في زيادة عائداتها من ارتفاع الأسعار وليس دعم الديمقراطيين سياسياً بخفض أسعار لتر البنزين في محطات الوقود.
النفط الصخري
من المتوقع أن يزيد الإنتاج الأميركي من النفط الخام هذا العام بمعدل مليون برميل يومياً. لكن هل سيكفي ذلك لخفض أسعار البنزين في المحطات للسائقين الأميركيين، مع الحاجة لتعويض وقف استيراد النفط الروسي، وأيضاً سد احتياجات بريطانيا من الخام بعدما أوقفت استيراد النفط من روسيا، الذي كان يشكل 8 في المئة من استهلاكها؟ يصعب تقدير ذلك. ناهيك عن إمداد أوروبا، التي تستورد 25 في المئة من احتياجاتها من النفط من روسيا، إضافة إلى استيرادها 40 في المئة من استهلاكها من الغاز الطبيعي الروسي.
لذا ينصب الاهتمام على شركات النفط الصخري في أميركا، التي كان لزيادة إنتاجها الفضل الرئيس في تحول الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط في العالم قبل وباء كورونا. ومن غير الواضح أن شركات النفط الصخري ستعود إلى الإنتاج الهائل مع ارتفاع الأسعار، كما حدث من قبل. ويرى يوجين كيم، مدير الأبحاث في "وود ماكينزي" أن الاجابة عن هذا التساؤل هي "بنعم ولا معاً". ويضيف، في مقابلة مع صحيفة "ديلي تلغراف"، السبت، "سيكون هناك حافز لزيادة الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز. لكن استجابة المنتجين لن تكون كبيرة بالحجم نفسه الذي شهدناه من قبل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الرغم من أن سقف سعر النفط الذي تحتاجه شركات النفط الصخري ليكون إنتاجها من دون خسارة هو 40 دولاراً للبرميل، فإن المنتجين مترددون في زيادة الإنتاج مع مخاوف احتمال تعرضهم للانهيار كما حدث من قبل عندما هبطت الأسعار. ويزيد من التزام الحيطة أن المستثمرين في تلك الشركات يريدون الحفاظ على العائدات، وليس المغامرة بتوسيع الاستثمار وزيادة الإنتاج. كما أن نقص أدوات الإنتاج والعمالة الماهرة يزيد من إحجام الشركات عن التوسع.
يقول مدير أبحاث النفط والغاز الصخري في مؤسسة "رايستاد إنرجي" لأبحاث الطاقة، "كان القطاع سريع الاستجابة في الماضي لتحرك الأسعار في المدى القصير. أما الوضع الآن فيتعلق أكثر بضبط رأس المال وضمان العائدات للمستثمرين". ويضيف أنه "على الرغم من وجود بعض المستثمرين الذين لا يمانعون زيادة الإنتاج، فإن النسبة الأكبر تريد أن يبقى القطاع على وضعه الحالي ويلتزم تحقيق الأهداف التي تم وضعها في مرحلة التحول الأخيرة".
أهداف متضاربة
يخلص أغلب الاقتصاديين والمحللين في أسواق الطاقة إلى أن محاولات الإدارة الأميركية لأن تكون القائد في سوق النفط العالمية، والقوة المتحكمة في حركة الأسعار، تبدو محاولات بلا طائل حتى الآن. فحتى تلك الميزة التي وصلت إليها الولايات المتحدة قبل أزمة وباء كورونا حين أصبحت "بلداً مصدراً للنفط" أكثر منها مستورداً تخفت أهميتها الآن. كما أن الرهان على إنتاج كبير من النفط الصخري كما حدث من قبل، ليس ممكناً في ظل تردد القطاع حتى الآن.
الأرجح أن الأهداف السياسية قصيرة الأمد، وفي مقدمتها تفادي أحد الأسباب الرئيسة لخسارة الديمقراطيين المحتملة لانتخابات الكونغرس التكميلية، أي ارتفاع أسعار البنزين، هي التي تحكم تضارب الأهداف للبيت الأبيض. فبينما كان الحديث عن ضرورة التحول بعيداً عن النفط والغاز، أصبح الاهتمام الآن على زيادة إنتاج النفط، على الرغم من أن أساسيات السوق من عرض وطلب ما زالت كما هي تقريباً حتى بعد حرب أوكرانيا. أما التعويل على الاستفادة من الحرب للتحكم في سوق الطاقة العالمية فلا يبدو أنه يسير في الاتجاه الصحيح. فالإدارة الأميركية أعلنت أنها ستبدأ في تعويض السحب من المخزون بسعر 80 دولاراً للبرميل، وعلى الرغم من أنه سقف عال جداً لملء المخزونات، ويزيد حتى عن السعر في التعاقدات الآجلة متوسطة الأمد، فإن شركات الطاقة ربما تنتظر سعراً أعلى لواردات الحكومة لملء الاحتياطي الاستراتيجي مجدداً.