"صحن الفتوش" نجم الجدل الرمضاني في لبنان، قد يشكل ذلك عنواناً لنقاش "جشع التجار واستغلالهم المناسبات من أجل تحقيق كسب مرتفع"، ولكنه بالتأكيد يعطي صورة عن حال بلاد تخلت منذ عقود عن القطاع الزراعي، وانتقلت إلى اقتصاد الريع والاعتماد بصورة كبيرة على الاستيراد من الخارج. وبين هذا وذاك، يبقى المستهلك اللبناني هو الضحية، وبات عليه واجب "تقنين سلوكه الغذائي"، ناهيك عن أمن غذائي نتيجة الأزمات المحلية من شح الدولار، واهتزاز الرزنامة الزراعية والدولية، منها بفعل الحروب والصراعات التي تضرب خريطة كبار المنتجين العالميين، هذا إضافة إلى عوامل المناخ والتغييرات التي تعتريه.
الفتوش للأغنياء فقط
في رمضان الماضي، ودعت السفرة الرمضانية في لبنان "اللحوم المشوية باختلاف أشكالها"، التي باتت تندرج ضمن فئة السلع الفاخرة التي تترافق مع المناسبات الكبرى. وفي هذا العام، ضحية جديدة، إنه صحن السلطة والفتوش، في ظل ارتفاع تاريخي غير مسبوق، فبحسب دراسة للدولية للمعلومات، فإن كلفة الطبق لـ 5 أشخاص أصبحت أكثر من 50 ألف ليرة لبنانية، بعد أن كانت نحو 4000 ليرة في 2020، و12 ألف ليرة لبنانية في 2021، أي إنها كلفة بارتفاع 311 في المئة، وبارتفاع 38 ألف ليرة.
هذه الدراسة التي أعدت عشية رمضان، أصبحت برأي المستهلك غير دقيقة، حيث تضاعف سعر الخضروات والحشائش عشية رمضان بشكل كبير، فعلى سبيل المثال في سوق العطارين في طرابلس، وهي أشهر الأسواق الشعبية، قفز سعر الخسة إلى 25 ألف ليرة، فيما بلغ سعرها في بيروت 40 ألف ليرة، وبلغ ثمن باقة البصل 10 آلاف، والنعناع 8 آلاف، والفجل 10 آلاف، والخيار 30 ألفاً، والبندورة 30 ألفاً، والزعتر الأخضر 25 ألف ليرة لبنانية، والفلفل 30 ألفاً، من دون أن ننسى ثمن دبس الرمان الذي تجاوز سعر الكيلو 200 ألف ليرة، وزيت الزيتون الذي يتراوح ثمن التنكة بين 100 و130 دولاراً أميركياً.
هذه الأسعار شكلت صدمة إضافية للمواطن اللبناني، وهذا ما تقرأه في حالة الوجوم على وجوههم، والسؤال يتكرر على ألسنتهم "ماذا يأكل الفقير؟". أحدهم يتهم التجار بالفجور والتحكم بلقمة العباد، وآخر يقول "يريدون قتلنا ببطء"، فيما لا يجد البعض بُداً من الدعاء على "حكام ظالمين".
الزراعة تتحرك
ويُقر وزير الزراعة عباس الحاج حسن بصعوبة الأوضاع التي يعيشها المواطن اللبناني، لا سيما الفقير، متحدثاً عن خطوات يقوم بها للتخفيف من وطأة الأزمة، داعياً وزارة الاقتصاد والداخلية إلى التحرك من أجل حملة متواصلة لكبح الأسعار وجشع التجار الذين يريدون ربحاً سريعاً. ويجيب الحاج حسن عن سؤال "لماذا تضاعفت أسعار الخضروات مع بدء شهر الصوم، لا سيما وأن في لبنان إنتاجاً محلياً في مناطق البقاع وعكار؟"، ويقول "الأزمة الاقتصادية كبيرة جداً على الناس، وقد ترافقت مع ظروف مناخية باردة جداً خلال مارس (آذار)، لم تمر على لبنان منذ 40 عاماً، وأدى ذلك إلى ضعف المنتجات التي كان لبنان ينتجها في مثل هذه الأيام في سهول عكار والبقاع والساحل اللبناني". كما أن "انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار، شكل عامل ضعف في قدرتنا على الاستيراد، فالتجار يستوردون الخضار والحشائش من سوريا والأردن بالحد الأدنى وبأسعار عالية بسبب انهيار عملتنا الوطنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويطمح الوزير عباس الحاج حسن إلى تخفيف وطأة الأزمة من خلال بعض الإجراءات، إذ يكشف عن توقيعه على معاملة استيراد ألف طن من الحشائش والخضروات من البلدان المحيطة، بما يشكل خروجاً على الرزنامة الزراعية التي تربط لبنان بالدول العربية في مثل هذه الفترة من العام. ويضيف أن "هذه الإجراءات يجب أن تترافق مع عمليات كبح ارتفاع الأسعار ومحاربة جشع بعض التجار الذين يحاولون اقتناص الأزمات. وأصبح بعض اللبنانيين عاجزين عن تأمين صحن الفتوش على سفرة رمضان، فمن غير المعقول أن يكون ثمن الخسة 40 ألف ليرة". ويتحدث وزير الزراعة عن "أزمة مركبة، ولكنها غير مستحيلة الحل، وبمقدورنا تأمين المنتجات بالسعر الذي يتحمله المواطن".
دعم المزارع
ويتطرق الحاج حسن إلى خطوات ضرورية لمعالجة الأزمة، من دعم المزارع، إلى توسيع المساحات المزروعة، وتوسيع قطاع الخيم البلاستيكية، وقبل كل ذلك "نحتاج خطوات سريعة إذ يفترض بالتجار القادرين على الاستيراد، توريد البضائع من كافة أصقاع الدنيا، لتخفيض الأسعار، وحماية المستهلك المنهك خلال شهر رمضان".
في المقلب الآخر من المشهد، تطرح أزمة القمح نفسها على الطاولة. فمن ناحية البلد غير مهيأ حالياً للزراعة، كما أن كلفة الاستيراد من الوجهات البديلة لأوكرانيا وروسيا مكلفة جداً، وتحديداً الأرجنتين والولايات المتحدة الأميركية، في ظل تسويق مقولة "قمح لبنان قاسي ولا يصلح للخبز". ويوضح عباس حسن أن "من يسوق لفكرة عدم صلاحية القمح اللبناني هو صاحب أفكار شيطانية، لأن أرضنا في عكار، ومرجعيون، والبقاع الشمالي، والبقاعين الأوسط والغربي، قادرة على إنتاج القمح بنوعيه الصلب والطري". لذلك التقدم بخطة إلى الحكومة من أجل دعم المزارعين وشراء كافة المحاصيل بادرة إيجابية لتخفيف الاستيراد في ظل شح الدولار".
ويلفت إلى أن "الحكومة اللبنانية غير قادرة لوحدها على تأمين مقومات القطاع الزراعي، لذلك هي ستعمل بالشراكة مع الفاو والهيئات الدولية من أجل دعم قطاع القمح كأولوية لتأمين 30 في المئة من حاجة لبنان من القمح"، مشيراً إلى أن "ميزانية وزارة الزراعة ضئيلة للغاية على الرغم من رفعها من 133 مليار ليرة إلى الضعف بسبب انهيار العملة الوطنية".
وزارة الاقتصاد تكافح
من جهتها، تؤكد أوساط وزارة الاقتصاد أنها تبذل جهودها لكبح ارتفاع الأسعار وفق الآليات الموجودة، وهي تعطي أولويات تأتي في مقدمها "مراقبة تسعيرة الاشتراكات والمولدات الخاصة"، أسعار السلع الغذائية، والخضروات والحشائش. وتتحدث عن قيامها بجولات متواصلة لمراقبة الأسعار وقمع المخالفات تحديداً مع بدء شهر الصوم لدى المسلمين. كما أنها تتعاون مع الوزارات الأخرى لحماية المستهلك. وتشير إلى أنها تراقب هامش الربح من خلال التدقيق في الفواتير بصورة دورية للتأكد من عدم استغلال التجار للمواطنين.
"الانخفاض قادم"
ويرفض تجار الخُضار تحميلهم مسؤولية ارتفاع الأسعار، ويعزوها عزام شعبو (نقيب تجار الخضار) إلى العواصف المناخية، لافتاً إلى أن الارتفاع لم يقتصر على لبنان، وإنما أيضاً في سوريا والأردن، لأن "إنتاج البيوت البلاستيكية يتراجع في ظل البرد"، كما أن "كلفة السماد الكيماوي بالدولار، وكذلك البذور، والأقفاص البلاستيكية، والورق وهكذا دواليك. كل ذلك أدى إلى تراجع المساحة المزروعة"، بحسب شعبو الذي يطالب الدولة بدعم البذور والسماد والتجهيزات الزراعية كافة. ويتوقع تراجع الأسعار في المدى المنظور مع ارتفاع درجات الحرارة، مرجحاً أن "تصبح بمتناول الفقراء على خلاف ما هو عليه الآن".
ويشير النقيب شعبو إلى أن "الغلاء عالمي وليس محلياً"، "التجار اللبنانيون يرسلون قوائم الأسعار بصورة يومية إلى وزارة الزراعة، وهذا سيكشف تراجع الأسعار مع ارتفاع الإنتاج الذي سيريح الأسواق"، كاشفاً أن "السوق تستقبل المنتجات الزراعية السورية التي لولاها لكانت الأسعار أشد وطأة، وكان قد وصل سعر كيلو البندورة إلى 200 ألف ليرة لبنانية". ويوضح أن بعض الدول المجاورة كانت تتجه إلى "منع التصدير إلى لبنان من أجل تحقيق التوازن في السوق المحلية"، ويتطلع إلى زيادة الواردات من الأردن التي تقلصت أخيراً، وكذلك مصر التي يأتينا منها البطاطا، والبصل، والثوم، وذلك خلال الفترة المقبلة.