تحتفل الأوساط الثقافية الإسبانية بالذكرى العشرين لرحيل الروائي الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا (1916-2002) الحائز نوبل للآداب عن مجمل أعماله عام 1989، إضافة إلى الجوائز الكثيرة، أرقاها جائزة ثربانتس (1995) وقبلها بلانيتا (1994)، وتقام في المناسبة ندوات ولقاءات تتناول أعماله، فهو أحدث تغييراً أساسياً في الحركة الروائية الإسبانية الحديثة، وترك أثراً عميقاً في الأجيال التي أعقبته. ولد كاميلو ثيلا في مقاطعة غاليسيا، في أقصى الشمال الغربي من إسبانيا، والمحاذية للبرتغال، من أبوين ريفيين، وسط عائلة كبيرة مؤلّفة من ثمانية إخوة وأخوات. وقد أشارت المراجع السيرية إلى أنّ كاميلو الشاب، لمّا بلغ العشرين التحق بصفوف المدافعين عن فرانكو، مؤسس الفاشية في إسبانيا، وشارك في الحرب الأهلية (1936-1939) ضدّ الجبهة الديمقراطية ذات الاتجاه اليساري الغالب. ولكنّه سرعان ما ارتدّ على مواقفه السابقة، بعد أن عمل رقيباً على الصحافة لعامين (1943-1944) لصالح السلطة، فبات موضع رقابة هو وأعماله؛ إذ مُنعت روايته "عائلة باسكال دوارتي" التي أنهاها عام 1942، من الصدور والتوزيع في إسبانيا، لاتّهامه إياه بتهديد القيَم المسيحية وقيَم الملَكية الإسبانية والتقاليد العريقة.
جراح لا تلتئم
وللإشارة إلى روايته الآنفة التي حظيت من النشر والرواج، والترجمة إلى لغات الأرض قاطبة، قدر ما نالته رواية "دون كيخوتيه" للكاتب ثيرفانتيس، لكونها نبّهت الإنسانية إلى ما تحدثه الحرب، وإن أهلية، في نفوس البشر من جراح لا تلتئم، وعِقَد نفسية عصيّة على الحلّ، ومآسٍ لا قبَل للأفراد ولا الجماعات على تحمّلها وتجاوزها. ولا أحسبُ كاميلو خوسي ثيلاّ، وقد ذاق مرارة الحرب الأهلية، وتنبّه لاحقاً إلى آثارها المدمّرة للنفس البشرية، قبل إصابتها الحجر والعمران بشرورها ومفاعيلها الجحيمية التي نشهد بعضاً منها في الحرب التي تشنّها روسيا الاتحادية على أوكرانيا، هذه الأيام، وتحيل مدنَها ومدنيّتها رماداً وأهلها قتلى وجرحى ومهجّرين إلى بقاع الدنيا، وفي قلوب الناجين منهم، أطفالاً وشبّاناً وشيباً، منابتٌ للخوف والعنف والقسوة، والتعصّب، والعدوانية، والوحشة.
تحكي الرواية المعنية، "عائلة باسكال دوارتي" سيرة الشخصية الرئيسية فيها، أي باسكال، صوّره الراوي العليم على أنّ والده كان سكّيراً فظّاً، وشديد العنف في التعاطي مع ابنه باسكال هذا، إذ لطالما كان يضربه لأتفه سبب، في حين كانت والدته مريضة وعرضةً للضرب من قبل زوجها، بيد أنها كانت أقلّ عدوانية منه. وإلى ذلك، فقد كان والدا باسكال عديمي الثقافة وأقرب إلى الأمّية، ويعيشان في أجواء ريفية ملؤها البؤس والحرمان والتقوى الخدّاعة. ولمّا كان باسكال دوارتي ناشئاً في تربة العائلة التي هذا وصفها، وارثاً كلّ موبقاتها في دمه وأعصابه وسلوكه، فقد كان من البديهي أن يقترف ما اقترفه من جرائم متتالية؛ من قتله جاره، ثمّ كلبته، وذبحه والدته لمشادّة كلامية بينهما.
إذاً، تتركّز الرواية كلّها حول سردية باسكال دوارتي، يرويها للمحقق في السجن، بانتظار إعدامه عقاباً لجرائمه المتتالية التي اقترفها، وفي خلال اعترافاته يكشف باسكال، وبنبرة خافتة ما يدلّ على الاختلاط والفوضى في القيَم، والتفكّك في أواصر العائلة، وانفلات الغرائز الحيوانية من عقالها. ويفهم من السياق أنّ كلّ هذا الانحلال كان حاصلاً بالتوازي مع ما أطلقته الحرب الأهلية من مفاسد، وما سوّغته من شرور أخطرها، إحلال المتقاتلين الأخوة جهنّم الحقد والثأر والانتقام والعدوانية بين أفراد المجتمع الواحد، واستسهال اللجوء إلى العنف عند أي خلاف بسيط.
طليعة التيار الواقعي
وقد أحدثت الرواية لدى صدورها، في إسبانيا، بعيْد منعها من السلطات الفرانكية، دويّاً هائلاً في الوسط الأدبي، صنّفت على أثره في طليعة التيّار الواقعيّ الاجتماعي والمختصّ بالمشرّدين والمهمّشين في بيئاتهم الدنيا. ولا أحسب كتاب "عائلة باسكال دوارتي" هذا نال شهرته العالمية لأسلوب الكاتب الفذّ فيه، فحسب، وإنما لأنّ الكاتب أفلح فيه بالنفاذ إلى وعي الضحيّة-الجلاّد باسكال، ولا وعيه، واستبطن آثار الحرب الأهلية وما أحدثته من فجائع لا تكاد تنتهي في أجيال المراهقين والشباب الذين خنقت الحرب آمالهم وأفراحهم، ثمّ فاقم الاستبداد والديكتاتورية من مأساتهم، حتّى إذا ما أدركوا سوء أحوالهم من خلال الرواية، وتبيّن لهم المسبب الأول لمصائبهم، ومصائب وطنهم، انتفضوا في وجهه، واستعادوا حرّيتهم والبلاد.
ولو تجاوز المرء كتاب "عائلة باسكال دوارتي" إلى أعمال كاميلو خوسيه ثيلا الكثيرة، ولا سيما كتابه السردي "السيدة كالدويل تخاطب ابنها"، في 213 نصّاً فيّاضاً بالغنائية المشوبة بالحزن الجنائزي على ابن ميت بإحدى المعارك، (نظير إخبار ابنها إلياسين خبرَ تزويج ابنة عمّ له تدعى باميلا كالدويل غصباً عنها، أو حكاية الآيسبرغ، أو الخبز الذي نأكله، أو غيرها) لأدرك أن الكاتب قصد إلى الردّ غير المباشر على النزعة المحافظة في المجتمع الإسباني، وتحطيم أسطورة الأمجاد الملَكية العتيدة، المختلطة بقشور القيَم المسيحية الكاثوليكية التي ما برحت عالقة في أذهان العامّة وبعض طبقات الخاصّة، والحفر عميقاً في وعي المآسي التي تخلّفها الحرب في نفوس البشر وتدفع البعض منهم إلى الجنون والانتحار.
قصص وخيبات
لم يقتصر أدب ثيلا الروائي على روايتيه المذكورتين، وإنما تعدّاه إلى أربع عشرة رواية أخرى، وإحدى وأربعين مجموعة قصصية يسعى فيها جميعها إلى بسط رؤيته المرعبة، بل الباعثة على الرعب من الواقع الاجتماعي ومآسيه، ومن الخيبات المحبطة التي يخلص إليها الفرد المتروك لمصيره، بعد حربين عالميتين مهلكتين في أوروبا، وحرب أهلية إسبانية عبثية. ومن تلك الروايات: القفير، ومكتب الظلمات، ومازوركا لميتين اثنين، والمسيح ضد آريزونا، واغتيال الخاسر، وسان كاميليو، وغيرها.
كما يتسنى للقارىْ الاطلاع على عناوين العشرات من المجموعات القصصية والحكايات الخرافية وغيرها، ومنها: جريمة الدركي الجميلة، ومقهى الفنانين وعلاقات أخرى، وطاحونة الهواء، وتاريخ إسبانيا، وتيموتيه غير المفهوم، وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المجموعات الشعرية التي بلغت التسعة، فيمكن تعداد بعضها، مثل: قصائد من المراهقة الرهيبة، ويوم في ألكاريّا، وثلاث قصائد غاليسية، والتجسّد في توليدو، أو ضياع هؤلاء الرجال، وساعة للمضمار وساعة للأرض وساعة للدم، والأعمال الشعرية الكاملة.
ولم يدع الكاتب ثيلا نوعاً أدبياً رائجاً إلاّ ودبّج فيه، مثل أدب الرحلة الذي لديه فيه ثلاثة عشر كتاباً، منها: رحلة إلى ألكاريّا، وآفيلاّ، والتسكّع من أجل كاستيلاّ، ورحلة إلى الأندلس، وغاليسيا، وكتب أخرى.
يضاف إلى كلّ ذلك العشرات من المقالات في كبريات المجلات الإسبانية والعالمية. ولنا، نحن القرّاء العرب، والكتّاب، أن ننظر في إسهام الأدب الفعّال في تنبيه الرأي العام في بلدانها، وبلدان العالم كافة، إلى عدم استسهال الحرب، أهلية كانت أو بين دولتين، أو عرقيْن، أو أمّتين، لما في ذلك من آثار مدمّرة على النفس البشرية قبل العمار وصروح التقدّم العمراني.