كشفت بيانات جديدة في المملكة المتحدة عن أن عشرات الآلاف من النساء أجرين فحص ظاهرة التوحد العام الماضي، في ظل تزايد إقبالهن على هذه الاختبارات بأعداد تفوق الرجال بكثير.
وتشير إحصاءات تمكّنت "اندبندنت" من الاطلاع عليها، إلى أن نحو 150 ألف امرأة خضعن العام الماضي لاختبارات عبر الإنترنت، تحقّق منها متخصصون في مجال الصحة لمعرفة ما إذا كان لديهن مرض التوحد، وذلك بارتفاع واضح عن الرقم 49 ألفاً الذي كان سُجّل عام 2020.
ويوضح اختصاصيو الصحة أن هذه الزيادة كانت نتيجة عدم تشخيص النساء بـ"اضطراب النمو العصبي" Neurodevelopmental Disorder كما الأطفال والمراهقين، وذلك بسبب الاعتقاد الخاطىء بأن التوحد هو اضطراب ذكوري.
وقال خبراء لـ"اندبندنت" إن النساء والفتيات المصابات بالتوحد، يتعرّضن بشكل روتيني للتجاهل والإهمال من جانب خدمات الصحة، لأنهن أكثر عرضة لإخفاء الأعراض أو بسبب ميلهن إلى قبولها والتعايش معها.
وتُظهر بيانات مصدرها مجموعة "كلينيكال بارتنرز" Clinical Partners وهي إحدى أبرز مقدمي الرعاية الصحية العقلية في المملكة المتحدة، وتعمل بشكل وثيق مع هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" (أن إتش أس) NHS، أن النساء يشكّلن 56 في المئة من مجموع الأفراد الذين استخدموا اختبارات التوحد العام الماضي. وهذا المعدل يفوق بكثير نسبة الـ 46 في المئة من النساء اللواتي أخضعهن أنفسهن لاختبار التوحد عام 2020.
ويلفت الخبراء إلى أن ارتفاع عدد النساء اللواتي يسعين إلى إجراء الاختبارات، تزامن مع تزايد عدد النساء المصابات بـ"اضطراب النمو العصبي" في الأعوام الأخيرة.
هولي سميل، الكاتبة البريطانية مؤلفة سلسلة "فتاة مهووسة" Geek Girl، الرواية التي حققت أعلى المبيعات، أكدت لـ"اندبندنت" أنه تم تشخيصها قبل نحو عام بالتوحد، بعدما بلغ بها الإرهاق حدّ عدم تمكنها من مواصلة "الإخفاء" الدائم للأعراض.
المرأة البالغة من العمر 40 سنة التي تعيش في مدينة برايتون (جنوب إنجلترا)، أوضحت أنها قررت اللجوء إلى التشخيص بعد خلاف وقع بينها وبين رجل على تطبيق المواعدة الشهير "هينج" Hinge.
وأضافت السيدة سميل: "لقد تهاوى كل شيء. كنت أحاول التواصل مع رجل عبر الإنترنت عبر تطبيق ’هينج‘. لكنني ارتكبت خطأ اجتماعياً فادحاً، وتفوّهت بشيء تسبب له بالإحراج".
وتضيف: "تملّكه غضب شديد إلى درجة أنه صاح بي عبر رسائل نصية لمدة 5 ساعات. توجّه إليّ بكثير من عبارات التهجم. وقال كثيراً من الأمور التي كنت أسمعها في حياتي، لكن أتت جميعها دفعة واحدة. شعرت بأنني على وشك الإغماء لبرهة. وكنت قد اختبرت مثل تلك النوبات عندما كنت طفلة".
وتردف المؤلفة: "الآن بتُّ أعرف أن ما يحصل معي هو حالة انهيار ناجمة عن التوحد. فعندما أنفعل بشدة، يغمى عليّ. وتصبح الأجواء المحيطة بي ساطعة جداً وشديدة الجلبة. دماغي يصدر شرارات ومن ثم يتحوّل كل شيء إلى سواد. أستفيق لأجد خدوشاً على سبيل المثال في مختلف أنحاء جسمي. لا بد من أنني كنت أقوم بشيء ما. لم أعُد متأكدة مما حدث معي فعلاً في ذلك الحين".
وأشارت إلى أن قرارها السعي لتشخيص حالتها كان أيضاً نتيجة للجائحة، وأصبح لديها فجأة مزيد من الوقت للتفكير، موضحة أنها مرت بلحظة من "الوعي والإدراك"، بعدما أجرت بحثاً على محرك "غوغل" عن "النساء المصابات بالتوحد".
وتتابع هولي سميل: "اخترت أن أخضع للتشخيص لدى خدمات الصحة الوطنية. وقال الطبيب لي عبر الهاتف: ’لا يمكن على الإطلاق أن تكوني مصابة الآن بالتوحد بأي شكل من الأشكال. لأنه كان لا بد من معرفة ذلك خلال فترة وجودك في المدرسة‘. لكن عندما أقفلت سماعة الهاتف، استرسلت بالبكاء. فقد أحسست بأن معرفتي لنفسي تشبه العدم، وشعرت في تلك اللحظة بضعف شديد وبخوف وهلع. وقررت حينها أن أتلقّى العلاج في مرفق طبي خاص".
وتؤكد السيدة سميل أنها باتت أكثر راحة منذ أن تم تشخيصها بالتوحد، موضحة أن صحتها العقلية كانت في السابق في "وضعٍ شديد السوء"، وأن اضطرارها إلى "إخفاء" حالة التوحد لديها بشكل متواصل كان "يستنزفها" فعلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت في هذا الإطار: "لقد غيّر التشخيص حياتي. اعتقدت أنني كنت منهارة، وأنني شخص عادي سلك طريقاً غريب المعالم وانتهى أمره بأن يصبح غريب الطباع. إلا أنني ما زلت الشخص نفسه تماماً، لكن ما تغيّر الآن هو أنني توقفت عن كره نفسي. التوحد ليس أمراً يجب أن نخجل منه. إنه عبارة عن دينامية مختلفة لعمل الدماغ. إنه في الواقع أمر رائع".
وأوضحت المؤلفة أنها بنت الشخصية الرئيسة في روايتها، في سلسلة كتبها الشعبية، على نفسها عندما كانت مراهقة، مشيرة إلى أنها كانت غريبة الطباع اجتماعياً، وأنها كانت تعاني من صعوبات في التواصل ومن التنمّر. وقالت: "لم تكُن لديّ أي فكرة أنني مصابة بالتوحد. ولم أكُن بالتالي أعرف أن الشخصية التي اختلقتها هي الأخرى مصابة به".
ورأت أنه قد تم تجاهل إصابتها بالتوحد عندما كانت طفلة، وبدلاً من ذلك، كان ينظر إليها على أن "ردّات فعلها كانت عاطفية" بشكل مفرط، في سياق شرحها بأن سمات التوحد متشابهة إلى حد ما لدى الفتيان والفتيات، لكن يتم التعامل معها بشكل مختلف بسبب أدوار الجنسين في المجتمع.
وتضيف السيدة سميل: "لا أستطيع تحمّل الفوضى من حولي - إنها تسبب لي إزعاجاً. ينظر إليّ على أنني منظمة للغاية وشديدة الترتيب. وإذا ما قام فتى صغير بصفّ مئات القطارات بعضها خلف البعض الآخر، يقول البالغون:’لا بد من الانتباه إليه‘. لكن إذا قامت فتاة بوضع 100 دمية فوق بعضها البعض إلى جانب الحائط، فإنهم يعتقدون بأن لديها غريزة الأمومة".
وتقول الكاتبة: "عندما أتكلم أكون صريحة جداً. أميل إلى التهجم والانتقاد العدواني. أعبّر بكلماتي عما أعنيه بصدق. عندما يقوم الفتيان أو الرجال بذلك، يُنظر إليهم على أنهم يتمتعون بالحزم والثقة بالنفس. لكن عندما تفعل النساء ذلك، ينظر إليهن على أنهن متعجرفات ووقحات".
وتجادل بأن الاعتقادات السائدة تربط التوحد بمجازية "عالم الرياضيات العبقري" - وتنسب "الانفجار" المفاجئ في تشخيص حالات التوحد لدى النساء، إلى حقيقة إخفاق المتخصصين في تحديد أعراضهن على مدى عقود من الزمن، وإلى تزايد ظهور عدد المشاهير من الإناث إلى العلن للتحدّث عن إصابتهن بالتوحد.
الروائية نبّهت إلى أن التوحد مرتبط أيضاً بـ"الأولاد البيض"، مشيرة إلى أن الأشخاص الملونين المصابين بالتوحد هم أيضاً موضع تجاهل المتخصصين في مجال الصحة.
وفي هذا الإطار، تقدّر "الجمعية الوطنية للتوحد" National Autistic Society أن هناك نحو 700 ألف شخص مصاب بالتوحد يعيشون في المملكة المتحدة، أي ما معدّله فرد من كل 100 شخص.
ويؤثر التوحد في الطريقة التي يرى من خلالها الشخص العالم من حوله ويرتبط بالآخرين، لكن أعراض هذه الحالة تتفرّع وتختلف على نطاق واسع، ما يعني أن المصابين بالتوحد لديهم تجارب مختلفة تماماً.
ويفضّل كثير من المصابين بالتوحد الحفاظ على روتين محدد، إضافة إلى أنهم يكونون أكثر أو أقل حساسية بالنسبة إلى بعض العوامل المحيطة بهم كالأصوات والضوء واللمس والروائح والألم ودرجات الحرارة. ويعرف عن المصابين بالتوحد إبداعهم وطرقهم المتجددة والمبتكرة في التفكير، والاهتمام الدقيق بالتفاصيل، إضافة إلى ميّزات أخرى.
هانا هيوارد، المتخصصة في "النمو العصبي" في مجموعة "كلينيكال بارتنرز"، التي قدمت هذه البيانات الحصرية، تقول: "غالباً ما يتم تشخيص النساء اللواتي أعمل معهن (بالتوحد)، بعد أن يتم تشخيص أطفالهن، إذ يتعرّفن على سمات مشابهة لديهن".
وترى أن "نساء أخريات يقررن اللجوء إلى التشخيص العيادي، بعد تعرّضهن لمشكلات في الصحة العقلية، كالقلق أو الاكتئاب أو إيذاء النفس أو اضطرابات الأكل". وتوضح أنه غالباً ما يتم تجاهل الفتيات المصابات بالتوحد بسبب ما يُعرف بـ"اهتماماتهن الخاصة" الموجّهة نحو أحد المشاهير أو الأصدقاء.
وتضيف هيوارد أن "التشخيص هو أمر بالغ الأهمية - ومن دونه يمكن أن تظهر على الذكور والإناث أعراض حالات من الاضطراب في الصحة العقلية، بما فيها القلق والاكتئاب. ومن الشائع أن يتم تشخيصهم على نحو خاطئ أو يصابون بحالات أخرى كالقلق أو فقدان الشهية أو الاكتئاب أو ’اضطراب الشخصية الحدّية‘ Borderline Personality Disorder (مرض يتميّز بنمط مستمر من تغيّر الحال المزاجية ويجعل من الصعب على المصاب به السيطرة على مشاعره وسلوكه).
وترى المتخصصة في "النمو العصبي" أن "التشخيص الرسمي يمكن أن يشكّل نقطة محورية بالنسبة إلى كثيرين. وغالباً ما تتحدث نساء أعمل معهن عن التشخيص، وكأنه يشبه وضع نظارات للمرّة الأولى".
كاثي واسيل، الرئيسة التنفيذية لـ"شبكة الفتيات المتوحدات" Autistic Girls Network، لفتت إلى أنه من الناحية التاريخية، أظهرت البيانات أن طفلاً من كل أربعة أطفال مصابين بالتوحد كان فتاة، لكن يعتقد الآن أن النسبة ارتفعت لتصبح حالة من كل ثلاث. وعزت هذا التزايد في عدد النساء المصابات بالتوحد إلى عدم التنبّه إلى أعراضهن في أعوام الطفولة والمراهقة.
الدكتورة سارا ليستر بروك، مديرة الطب السريري في "الجمعية الوطنية للتوحد"، أكدت هي أيضاً أن هناك "زيادة مطّردة" في إحالات النساء والفتيات إلى الخدمات التي تقدّمها جمعيتها.
وأوضحت: "إن كل شخص مصاب بالتوحد هو مختلف. لكن يمكن للنساء والفتيات أن يكنّ أفضل في ’إخفاء‘ العلامات التي توصّلنا إلى معرفتها تقليدياً في تحديد التوحد، ما يعني أنه قد يكون من الصعب التوصل إلى تقييم حاسم، والتأكد من تشخيص ظاهرة التوحد لديهن".
© The Independent