يبدو أن الحرب على أوكرانيا وصلت إلى نقطة تحوّل [منعطف]، على الرغم من أنه غير واضح حتى اللحظة المنحى الذي ستأخذه. في التصريحات على الأقل، روسيا هي التي تبادر إلى الانعطاف [وتغيير مسار الأمور]، تماماً كما ابتعدت عن العاصمة الأوكرانية كييف، لتركّز جهودها على الشرق الأوكراني.
أوكرانيا من جهتها تقول إن الهجمات الجوية الروسية لم تهدأ، وما من دليل يُذكر عن أي تحركات للقوات الروسية للتزوّد بالمؤن وإعادة تجميع الجنود. إضافة إلى ذلك، ترى أوكرانيا في موافقة روسيا على الانخراط في المفاوضات التي ترعاها تركيا مجرد محاولة لشراء الوقت.
ولكن يبدو أن هناك تغيّراً ما قد طرأ. فأفادت التقارير الأميركية بأن روسيا تقوم فعلاً بنقل جنودها بعيداً من كييف. كما غادرت القوات الروسية مفاعل تشيرنوبيل لتوليد الطاقة النووية، بعدما كانت سيطرت عليه مع بدء الاجتياح. كما تم التوافق على القيام بإجلاء [المدنيين] الذين لا يزالون عالقين في مدينة ماريوبول المدمرة، فيما هدأت أجواء الحرب في كييف على ما يبدو، إلى حد أن المقاهي عاودت فتح أبوابها وعاد عازفو الشارع بخجل إلى شوارع المدينة.
بالطبع، غالباً ما تشهد الحروب مثل فترات الهدوء هذه، التي ربما تكون مضللة بقدر ما هي مرحب بها. ولكن، إذا اعتبرنا أن الحرب وصلت إلى نقطة تحوّل ــ إذا كان القتال بدأ يتركز فقط في مناطق إقليم دونباس، حيث استمرت المواجهات المتقطعة هناك على مدى الأعوام الثمانية الماضية، وإذا كان التفاوض بدأ يحلّ مكان القتال ــ فإن أسباب ذلك ربما لا تكون بالضرورة ما تبدو عليه الأمور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الأسباب التي أدت إلى تغيّر في السياسة الروسية هي واضحة من المنظار الأوكراني، وإن ضخّمها المهللون الغربيون. فروسيا أساءت تقدير كفاءة القوات العسكرية الأوكرانية التي تلقّت التدريب على يد الغرب إلى حد كبير، كما أساءت تقدير الإرادة الأوكرانية للقتال من أجل [المحافظة] على استقلال البلد.
أضف إلى ذلك الضغوط التي يتعرض لها الرئيس فلاديمير بوتين داخل بلده ــ كما عددها مدير جهاز الاتصالات المركزية الحكومية البريطاني GCHQ خلال الزيارة التي قام بها إلى أستراليا ــ وخلاصتها المنطقية بأن روسيا تستميت من أجل إيجاد مخرج للأزمة. السؤال الوحيد المطروح هو إلى أي حد ستكون أوكرانيا أو الدول الغربية مستعدة لتقديم ما يسمّيه الدبلوماسيون مخرجاً مشرفاً لموسكو للتراجع وسحب قواتها إلى الوطن، أو على الأقل التراجع إلى المواقع التي كانوا يسيطرون عليها قبل 24 فبراير (شباط) تاريخ انطلاق الاجتياح، بشكل يحافظ على كرامة روسيا.
لكن هل يعكس هذا الأمر القصة كاملة؟ فمن وقت لآخر، نشاهد لمحات عن الخسائر الفادحة التي مُنيت بها أوكرانيا أيضاً في الأرواح والبنية التحتية. فهذه الحرب لم تؤدِّ إلى ضربات قاسية تلقاها طرف واحد فقط دون غيره كما تصور لنا الأمور في غالبية الأوقات. وهناك أمر غريب أيضاً عن كيفية متابعة العسكر الروسي لما بدا أنه عملية اجتياح على الطريقة التقليدية أو أنه لم تكُن هناك متابعة لذلك الاجتياح.
لو كان الرئيس بوتين مصمماً على احتلال أوكرانيا كاملة، فلماذا لم تقُم روسيا ــ أقله حتى الآن ــ بتحريك كل القوات المتوافرة لديها؟ وهل نجحت القوات الأوكرانية فعلاً في تحييد فاعلية القوات الجوية الروسية؟ ولماذا أيضاً، وهنا نطرح سؤالاً بديهياً، يبدو أن روسيا لم تسعَ إلى التحرك نحو محاولة وقف وصول شحنات الأسلحة الغربية التي يتواصل تسليمها من دون أي معوقات تذكر مع دخول الحرب شهرها الثاني؟
في بداية الاجتياح، ضربت الصواريخ الروسية قواعد عسكرية أوكرانية كان يتمركز فيها متطوعون عسكريون أجانب، وغيرهم، حيث تم إيواءهم، وكانت تلك القواعد بمثابة مقار لتدريب القوات الأوكرانية. لقد شنت القوات الروسية ثلاث ضربات على مواقع عسكرية بالتزامن مع شن الرئيس الأميركي جو بايدن هجوماً عنيفاً على موسكو في خطاب ألقاه في بولندا. لكن قوافل الأسلحة التي كانت تتحرك نحو الشرق وقوافل اللاجئين التي كانت تتجه غرباً لم تتعرض لأي ضربة من روسيا، كما تم استثناء وسط العاصمة كييف.
هل السبب يعود إلى عدم توافر الإمكانات لدى روسيا، أم أن الأمر يعود إلى بطولات المقاتلين الأوكرانيين، أم أن الخوف على حياة المدنيين كان وراء امتناع روسيا عن شن حملة جوية واسعة النطاق؟ ربما. ولكن ربما هناك أمر آخر. وهذا الأمر، وأنا أتكهن هنا بأنه الخوف ــ الخوف نفسه من التسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة الذي كان حدّ من توفير حلف الأطلسي لكل المساعدة المطلوبة من أوكرانيا.
في الأسابيع الأولى من هذا العام، ذهب كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وأمين عام حلف شمال الأطلسي إلى أبعد الحدود في تصريحاتهم لإيضاح ضرورة التمييز بين الدول الأعضاء في "ناتو"، التي يضمن الفصل الخامس [من ميثاق الحلف] حمايتها، وبين أوكرانيا، الدولة غير العضو في الحلف، التي لا يشملها فصل الحماية هذا.
عندما اجتاحت روسيا أوكرانيا، ربما ما شجعها على ذلك هو أن هذا التمييز كان معلناً بوضوح، وجاء الرد الغربي على الاجتياح في هذا الإطار ليتضمن فرض العقوبات على روسيا، ومنح أوكرانيا أسلحة دفاعية (في معظمها) وفّرتها دول الحلف بصفتها الفردية ــ أي أنها لم تكُن تحمل دمغة حلف الأطلسي ــ إضافة إلى قيام الدول الغربية بالتهليل من على الهامش.
بعض التدخلات التي طلبتها أوكرانيا، بما في ذلك فرض منطقة حظر للطيران وتوفير سرب من طائرات "ميغ" الروسية المقاتلة المستعملة لكييف، تم رفضها لاعتبار أنها يمكن أن تؤدي إلى رد روسي مباشر. والجميع في معسكر الدول الغربية كان عبّر عن أن أي مواجهة مباشرة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا كان لا بد من تجنّبها مهما كان الثمن، لأنها تهدد باندلاع حرب على نطاق أوسع بكثير. وحدد الحلف متى يمكن أن يتدخل وذلك فقط في حال قامت موسكو بأي تحرك ضد أي دولة عضو في الحلف، فإن من شأن ذلك أن يعني وقوع مواجهة مباشرة بين "ناتو" وروسيا.
إلى أي درجة يمكننا القول إن حلف الأطلسي يقف غير عابئ بالنزاع الأوكراني يبقى سؤالاً ينتظر جواباً بالتأكيد. القوات النظامية الأوكرانية كانت تلقت تدريبات وتم تسليحها من قبل حلف الأطلسي، ويبدو أن الدولة الأوكرانية تتلقى كمّاً هائلاً من المعلومات الاستخباراتية الغربية أيضاً. عند ذلك الحد، هناك من يصف النزاع في الدول الغربية وليس من دون مسوغ، بأنه حرباً بالوكالة بين الحلف وروسيا. ولكن لا بد من الاعتراف أيضاً بالمدى الذي تذهب إليه الدول الغربية في مساعيها لتجنّب اندلاع حرب أوسع.
ولكن لا يبدو أن روسيا من جانبها تبذل أي جهود مماثلة لمنع ذلك الخطر. حتى الآن، على الأقل يبدو أن (موسكو) قبلت بحدود النزاع الذي رسمه حلف شمال الأطلسي. وامتنعت موسكو عن استخدام عبارة "حرب بالوكالة عن ناتو" في وصفها للحرب ــ ربما لخوفها من تحوّل العبارة إلى واقع.
السؤال الذي يُطرح حالياً هو التالي: إلى أي مدى يمكن أن يدوم هذا الالتزام بضبط النفس [الروسي]؟ لطالما اختلف المتابعون الغربيون للشأن الروسي حول الدوافع التي تحرك القرارات الروسية. يمكنني أن أقول إن الغالبية ترى أن روسيا خصوصاً روسيا "البوتينية" هي دولة جوهرها توسعي ينتهج العدوانية والقوة. خلاصات هؤلاء تقول إن على الدول الغربية أن تقف في وجه روسيا وأن تواجه القوة بالقوة لأن القوة هي اللغة الوحيدة التي تفهمها روسيا.
على المقلب الآخر ــ أي المعسكر الذي أنتمي إليه ــ فهو يميل إلى الاعتقاد أن هذا النهج للدول الغربية من شأنه أن يعقّد الأمور بشكل أكبر. فبرأينا، ما يبدو أنه عدوانية روسية هو في الحقيقة انعكاس للخوف الذي تعانيه [روسيا]: هو خوف على أمنها في وجه عدوان الدول الغربية التي تُعتبر قوية بالمقارنة [مع روسيا].
يمكن قراءة الاجتياح الروسي لأوكرانيا في الماضي والحاضر بشكل يدعم النظريتين. الصقور يقولون إنه يبرهن عن حقيقة الطبيعة الروسية كقوة عدوانية، ويظهر أيضاً كم أن دول شرق ووسط أوروبا كانت على حق عندما قدمت طلبات للانضمام إلى حلف الأطلسي كملجأ [لتحمي نفسها] من [الجار الأكبر] أي روسيا السيئة.
ونظريتي هنا يمكن العودة إليها، فلو تم التعامل بجدية مع المخاوف الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة، ولو كان تم حل حلف الأطلسي أو إعادة تشكيله، لكانت روسيا اليوم تنعم بالشعور بالأمان وما كانت لتشكّل أي تهديد لأي كان.
الخوف هو ما يحرك روسيا اليوم ــ خوف مما تراه تفوّقاً لحلف الأطلسي في المجالين التقني والعسكري، وخوف من تدخلات الحلف غير المبررة (في البوسنة والعراق وغيرها)، وخوف من الذراع الطويلة [لـ"ناتو"]، التي تصل حتى حدود روسيا الغربية.
إن الملاحظات التي ألقاها الرئيس الأميركي بايدن في وارسو وتقول إن الرئيس بوتين "لا يمكن أن يبقى على رأس السلطة" [في روسيا]، لم تقدّم سوى أدلة إضافية على النوايا السيئة للدول الغربية. الضرر الذي تسبب به ذلك التصريح بحسب فهم البعض، في الدائرة المحيطة بالرئيس بايدن، يكمن في أنه أعطى المبررات للمخاوف القديمة القائمة لدى الكرملين أكثر من حقيقة أنه يدعو إلى إطاحة بوتين ــ إنه الخوف نفسه الذي يحرك قلق روسيا من انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.
إن الجدل حول حقيقة ما يحرك المواقف الروسية لن ينتهي هنا. لكن ثمة مبررات يمكن استخدامها تقول إن رفض الدول الغربية المستمر الاعتراف بالمخاوف الروسية، وحديث هذه الدول غير المسؤول عن قرع طبول الحرب خلال الشتاء أخافا روسيا ودفعاها إلى التحرك [والاجتياح] أولاً.
إذا كانت الحرب في أوكرانيا حالياً عند نقطة تحوّل ويمكن رصد الآمال بتحقيق السلام، فإن تلك الخلفية لهذه الحرب يجب أن تبقى راسخة في الأذهان، إذ إن السياسات الغربية وحديثها القوي عن ضرورة مواجهة القوة بالقوة فشلت في ردع روسيا. وهي فشلت لأن الخوف لطالما كان العامل المحرك الأعظم في شؤون الحرب والسلم.
© The Independent