علامات الانهيار والسقوط لا تزال ترتسم في المشهد اللبناني حيث لا يزال عبور النفق المظلم بعيد المنال، في ظل استمرار غياب أي خطة جدية قابلة للحياة وواضحة للتعافي الاقتصادي التي لا يزال صندوق النقد الدولي ينتظرها منذ ما يقارب الثلاث سنوات.
وتشير المعلومات إلى أن وفد الصندوق الدولي الذي يزور لبنان أبلغ صراحة الرؤساء الثلاثة نفاد صبره من التعهدات التي سمعها من المسؤولين اللبنانيين طيلة سنوات الانهيار من دون أن يكون هناك أي تقدم في أي من تلك الوعود، وأن وفد الصندوق يدرس إمكانية توقيع اتفاق إطار على تعهدات الحكومة خلال الأيام المقبلة، مع أن هذا التوقيع لن يكون له أي مفعول قبل الشروع في تنفيذ بنوده من الحكومة اللبنانية.
ووفق مصادر في صندوق النقد، فإنه خلافاً لبعض الأجواء الإعلامية، فإن المفاوضات لا تزال تراوح مكانها في المربع الأول، إذ إن المطالب التي يتوجب على لبنان تنفيذها وهي إقرار موازنة متوازنة وإجراء إصلاحات في قطاع الكهرباء وتخفيض حجم القطاع العام وغيرها من المطالب لم ينفذ منها شيء.
سيناريو جهنمي
ويتخوف المراقبون من مرحلة مقبلة وأكثر حدة من الانهيار الاقتصادي، تلي الانتخابات النيابية المرتقبة في 15 مايو (أيار) المقبل، إذ يربط هؤلاء انعكاسات خطيرة للواقع السياسي على الواقع الاقتصادي، حيث يشيرون إلى أن تلك الانتخابات قد تأخذ البلاد إلى تركيبة غير متجانسة في المجلس النيابي، حيث تغيب الأكثرية عن فريق واحد وهو أمر لم يعرفه لبنان منذ انتخابات عام 1957، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية إذ سيطر على المجلس منذ عام 1992 أكثرية موالية لسوريا، ومن بعدها استطاعت المعارضة السيطرة على الأغلبية في عام 2005 وصولاً إلى عام 2018، إلا أنها لم تستطع أن تحكم خلالها نظراً لهيمنة سلاح "حزب الله" الذي فرض حكومات واستطاع تعطيل انعقاد الجلسات بفعل سيطرته على الثلث المعطل إضافة إلى ترؤس حليفه نبيه بري رئاسة المجلس طيلة تلك السنوات، إضافة إلى وجود رئيسين للجمهورية مواليين له هما إميل لحود وميشال عون.
والسيناريو الخطير بالنسبة للمراقبين هو أن يفشل هذا المجلس في انتخاب رئيس له نتيجة حدة الصراع، وبالتالي يخفق أيضاً في انتخاب رئيس للجمهورية مع نهاية ولاية الرئيس عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) وعدم التمكن من تشكيل حكومة، الأمر الذي يدخل لبنان بفراغ على مستوى الرئاسات الثلاث، ما قد يدفع في اتجاه سقوط اقتصادي هائل، قد يأخذ البلاد إلى مؤتمر تأسيسي أو تدخل أممي في ظل غياب إدارة شرعية داخلية.
إفلاس
وفي ظل المشهد المأساوي، لا يزال تصريح نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي القائل: "الدولة اللبنانية ومصرف لبنان مفلسان" يثير ضجة تخطت الحدود، ولو أنه عاد وبرر ذلك باجتزاء كلامه، وأنه ليس المعني بإعلان هذا الأمر.
كلام الشامي يعد أول إعلان عن مسؤول رسمي عن إفلاس الدولة، بعد أن أعلن رئيس الوزراء اللبناني السابق حسان دياب في 9 مارس (آذار) 2020 توقف البلاد عن سداد ديونها الخارجية، وهو ما يعني ضمناً تعثرها وإفلاسها من الناحية العملية.
وأثارت تلك التصريحات الخطيرة، مخاوف المودعين الذين لا يعرفون مصير ودائعهم المصادرة، وإذا ما كان هناك فرصة لمنحهم ما تبقى من أموالهم المودعة في البنوك، أم ستتم مصادرتها لسنوات أخرى، علماً أن هناك شكوكاً حول إعادة قريبة لهذه الأموال أيضاً، بخاصة وأن البنك المركزي لم يعد يملك النقد الأجنبي لتغطية هذه الالتزامات الضخمة، وأن البنوك لا تملك سيولة مع تكبدها خسائر تقدرها الحكومة بنحو 69 مليار دولار.
وبحسب بعض الخبراء، فإن خطورة إفلاس لبنان لن يقف عند حدوده، بل تصل ارتداداته إلى دول عربية تعاني من أزمات مالية واقتصادية حادة مشابهة للبنان مثل، "تونس، واليمن، وسوريا، والسودان".
أزمة سيولة
وبحسب النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري، لا يمكن للدولة أن تفلس نظراً لامتلاكها موجودات كثيرة، موضحاً أن المشكلة حاليّاً هي أزمة سيولة حادّة في العملات الأجنبية، بسبب عدم انتظام عمل الدولة وغياب الحوكمة الرشيدة، إضافة إلى المحاصصة والطائفية والمذهبية والفساد المستشري في إدارات الدولة، وجميعها تعطي انطباعاً عن إفلاس الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويميز بعاصيري بين الملاءة والسيولة، إذ يعتبر أن لبنان لديه احتياطي ذهب هو الثاني عربياً، ويقدر بـ18 مليار دولار والسيولة النقدية المتبقية تقدر بحوالى 13 ملياراً، إضافة إلى الممتلكات والقطاعات الحيوية المملوكة من الدولة.
إدارة خارجية
وفي هذا الإطار يكشف الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفيسور مارون خاطر، أن لبنان بات ينطبق عليه كثير من شروط الإفلاس في ظل مأساة سياسية ومالية واقتصادية غير مسبوقة، مشيراً إلى أن البحث عن حلول يجب أن يرتكز على إشراك الدولة في تحمل الجزء الأساسي من الخسائر عبر بيع أصولها أو خصخصتها أو حتى وضعها تحت إدارة خارجية عنها مقابل سداد ديونها.
ورأى أن كلام نائب رئيس الوزراء، يأتي في سياق توصيفي غير مبرر لفداحة الأزمة، وهو يستخدم مصطلح إفلاس الدولة للكلام عن تفاقم الأوضاع وعن ضرورة توزيع الخسائر وهي فعلاً واقعة، مشدداً على الإعلان الرسمي عن إفلاس الدولة يصدر عن مجلس الوزراء مجتمعاً.
وأوضح أن البنك المركزي والدولة ليس لديهما القدرة على الإيفاء بالتزاماتهما تجاه الدائنين، لا سيما أن مصرف لبنان هو المسؤول أمام المصارف الأهلية التي يدين لها بالجزء الأكبر من التزاماته والمقدرة بأكثر من 50 مليار دولار، مشدداً على أنه في حال إعلان إفلاس الدولة والمصرف المركزي فإن الأمر يعني عملياً إفلاس المصارف، "وهذا كابوس حقيقي يلاحق اللبنانيين".
إفلاس المودعين
بدوره يرفض الخبير الاقتصادي لويس حبيقة استخدام مصطلح الإفلاس تجاه الدولة، معتبراً أن لبنان كدولة في حال تعثر، مشيراً إلى أن بعض السياسيين يهدفون من إشهار الإفلاس تحميل المودعين خسائر الدولة والفجوة المالية، بدلاً من تحمل الدولة مع مصرف لبنان والمصارف المسؤولية. وشرح أن هناك فرقاً بين المفلس ومن ليس لديه سيولة لتسديد الديون، الدولة اللبنانية لا تمتلك سيولة لكنها ليست مفلسة، بل على العكس غنية جداً فلديها أراض شاسعة، يمكنها بيع جزء منها لتسديد خسائرها كما يمكن لمصرف لبنان بيع ما لديه من عقارات وأملاك.
ثلاثة عوامل
أما الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، فأشار إلى ثلاثة عوامل كي تعتبر الدولة مفلسة، وهي أن يصبح حجم أصولها أقل بكثير من حجم ديونها، ثانياً عندما تتوقف إرادياً عن دفع ديونها، وهي حالة لبنان عندما امتنع عن دفع سندات اليوروبوندز، وثالثاً عندما تضطر الدولة إلى التوقف عن دفع سندات الخزينة، مستدركاً أنه في اللغة الاقتصادية لا يمكن لأي دولة أن تفلس كون لديها ضرائب سيادية لمدى الحياة لا تباع ولا تجير.
معتبراً أن إعلان إفلاس الدولة يعود إلى الحكومة مجتمعة، موضحاً أن مشكلة لبنان تتعلق بالسيولة مع عدم توفر الدولارات في الأسواق، وللخروج من أزمته يحتاج إلى اتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي.
عمليات مشبوهة
في حين اعتبر رئيس جمعية المودعين حسن مغنية، أن البلاد منهوبة وليست مفلسة، وقال: "بأي ذنب يحمّل المودعون خسائر الدولة"، متهماً السياسيين وبعض موظفي الدولة بجمع ثروات من عمليات مشبوهة، ونصب واحتيال وسرقة وفساد، مشدداً على أن هؤلاء يجب أن يتحملوا الخسائر، وأن يسألوا من أي لكم هذا.
وطالب الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف بتقاسم الخسائر فيما بينها، مشدداً على أن المصارف الأهلية حققت خلال العشرين سنة الماضية أرباحاً وصلت إلى 25 مليار دولار، وبالتالي تستطيع تحمل جزء من الخسائر بدل عن الـ420 ألف مودع.
الأولى عالمياً
وكان حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، نفى ما يتم تداوله حول إفلاس المصرف المركزي، موضحاً في بيان أنه "على الرغم من الخسائر التي أصابت القطاع المالي في لبنان، والتي هي قيد المعالجة في خطة التعافي التي يتم إعدادها حالياً من قبل الحكومة اللبنانية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، ما زال مصرف لبنان يمارس دوره الموكل إليه بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف، وسوف يستمر بذلك".
سبق أن وصف البنك الدولي أزمة لبنان بأنها "الأكثر حدة وقساوة في العالم"، مصنفاً إياها ضمن أصعب ثلاث أزمات سجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر، حيث تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية لمستويات غير مسبوقة، في وقت يعجز فيه اللبنانيون عن سحب أموالهم من المصارف بسبب قيود ناتجة عن شح السيولة.