حاول باحثون سعوديون كسر صلابة إحدى القصص التاريخية الشهيرة، التي تبناها الخطاب الديني تجاه المجتمع، الذي سبق ظهور الإسلام، وهي قضية "وأد البنات".
ففي الوقت الذي تدرس السعودية ظاهرة الوأد الجاهلي في حق الفتيات عبر مناهجها التعليمية، انتقد باحثون ذلك واعتبروه تحيزاً واضحاً تجاه المجتمع الجاهلي ومحاولة لشيطنته ووصمه بارتكاب جرائم لا أخلاقية من دون أسباب مقنعة أو بحجة العار.
انقسام الآراء حول قضية "الوأد"
آخر هذه الآراء هو ما قاله الأكاديمي السعودي، مرزوق بن تنباك، في لقاء على قناة روتانا، وأثارت آراؤه حفيظة الكثير من الباحثين والمتابعين، بشأن قضية الوأد بالذات، ولاقت مئات الردود المعارضة من شخصيات دينية وتاريخية وأدبية، منها من وقف بحذر، ومنها من اعتبرها اجتهاداً شخصياً، ومنها من اتهمه بغير التخصص، بينما أيده بعض الباحثين وفندوا أدلة أخرى تثبت صحة ما ذهب إليه ابن تنباك.
كان ابن تنباك قد أطلق شكوكاً حول ظاهرة "وأد البنات" عند العرب، حيث ناقش في كتاب "الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة"، الصادر من مؤسسة الرسالة قبل سنوات بشكل علمي ما رددته المصادر العربية والمحفوظات عن وأد العرب بناتهم ودفنهن وهن على قيد الحياة.
وهم تاريخي
وخلال البحث يتوصل الكاتب إلى أن جل الروايات، التي تتحدث عن موضوع وأد البنات، اعتمدت على قصة أقرب ما تكون إلى الوضع والانتحال، من وجهة نظره، خصوصاً أنه "عندما أرجعت الروايات إلى مصادرها الأصلية ازداد لديَّ الشك".
وقال "إنه يتحدى -ومن خلال كتابه- إثبات صحة أي دليل يصلح لتوثيق ظاهرة الوأد عند العرب بالطريقة التي تنقلها الأخبار والروايات".
ابن تنباك يسوق عدداً من الأدلة، منها ما توصل إليه مما ذكره الرازي في "مفاتيح الغيب" من أن الرجل في الجاهلية إذا ظهرت آثار الطلق على امرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً ابتهج به، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياماً يدبر فيها ماذا يصنع بها.
ويرى أن "الكثير من التفاسير جعلت من كلمة (يتوارى) قصة غياب وهروب من البيت وانتظار لمقدم الولد وجنسه حتى يعلم ما يكون، بينما بلاغة النص القرآني هي وصف لحالة الغاضب أو الكاره أو الحزين الذي ينحرف بوجهه وينطوي على نفسه ويخلو بها عن مجلس القوم، وليس ذلك الهرب الذي أوحت به كلمة (يتوارى)"، مؤكداً أن ذلك "مما جعل المفسرين يسرفون في وصف الحال الذي لم يحدث إلا في تصورهم وفهمهم المباشر لكلمة (يتوارى من القوم)".
وصولاً إلى تأكيده أن التفسير الفعلي والمقصود بـ"الوأد" هو "التخلص من الأبناء غير الشرعيين" المولودين خارج إطار الزواج، وهذا أمر يحدث في كل العصور، بحسب الباحث.
وقال ابن تنباك إن دراسته توصلت إلى أن تلك المسألة لا تخرج عن "وهم تاريخي وكذبة لفقها بعض الرواة للعصر الجاهلي، واخترعوها من الخيال الشعبي لأغراض التذكير والتفضيل، وأسانيد القصص بدأت وانتهت في العصر الإسلامي، والموءودة التي ذكرها القرآن الكريم قصد منها النفس بغض النظر عن كونها ذكراً أو أنثى، يتخلص منها دفناً لأنها نتجت عن السفاح".
حالات فردية ليست منتشرة
ما أثاره مرزوق بن تنباك، استدعى بحثاً في ردود الأفعال تواصلت فيه "اندبندنت عربية" مع عدة باحثين، كان من ضمنهم الكاتب محمد السعد، الذي أيد ما ذهب إليه ابن تنباك وقال "إن ظاهرة الوأد لا يعرف لها تاريخ نشأة محدد، ولا يعرف لها أسباب واضحة، وفي غالب الظن أنها لم تكن ظاهرة شائعة في المجتمع، وإن وجدت فهي حالات فردية واستثنائية لا أسباب واضحة ومحددة لها، ولو كانت ظاهرة منتشرة في المجتمع الجاهلي، فإن أولى نتائجها حدوث تشوه في التركيب السكاني في المجتمع، ما يؤدي إلى حدوث اختلالات بين الجنسين، وهذه الاختلالات ستؤسس لأزمة زواج في المجتمع المصاب بهذه الاختلالات لعدم وجود عرائس للزواج، وهذه الأزمة ستتبعها أزمات مرافقة كانتشار جرائم الاختطاف والاتجار بالنساء".
"العار" حجة واهية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف السعد أن الوأد بحجة العار من الحجج الواهية لا يوجد ما يسندها من أدلة وإثباتات تاريخية، وفي عصر البعثة النبوية وعند نزول الآيات القرآنية التي تمنع قتل الأطفال لم نلاحظ رفضاً مجتمعياً لهذه الآيات، ولم نقرأ عن أي حادثة من نوع الوأد في عصر النبي، حتى بين القبائل التي ظلت على دينها القديم، ولو كان منتشراً على نطاق واسع لانقطع نسلهم ولما وجدنا إلا عدداً قليلاً من العرب، سواء أكانوا ذكوراً أو إناثاً، ولا كان العرب في هذا العدد العظيم عندما نهضوا بالدعوة الإسلامية.
سبب اقتصادي محض
السعد أوضح قائلاً "عموماً كل الآيات القرآنية، التي تناولت قضية قتل الأطفال، أرجعتها إلى سبب اقتصادي محض، وهو الفقر وضيق ذات اليد، وتحديداً في سنوات القحط. يقول تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)، ولم يحدد في الآية الجنس، لأن عملية قتل الأطفال بسبب العامل الاقتصادي ليست انتقائية، فقد يكون ضحيتها الذكور والإناث على حد سواء، وللأسف الشديد إن هذه الجرائم ما زالت مستمرة عند إنسان العصر الحديث، الذي يبرر لنفسه عمليات القتل الجماعي للتخلص من الأعداد الكبيرة من البشر، تفادياً لحصول مجاعات أو انفجارات سكانية تنتج عنها أزمات اقتصادية في العمل والسكن والحياة".
الخوف من السبي في الحروب
وقال عضو الجمعية الفقهية وأستاذ العلوم الشرعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سعود الحنان، إن البعض يربط قضية وأد البنات بمفهوم العار، وفي ظني أن هذا سبب غير منطقي، لأن المولودة الحديثة لم ترتكب أي خطيئة بعد، ومفهوم العار نفسه يحتاج إلى توضيح وتفصيل حتى نعرف ماهية العار في المجتمعات القديمة التي عاشت زمن الغزو الدائم والمستمر، فالعار في تلك المجتمعات يرتبط جملة وتفصيلاً بالغزو والحرب بين القبائل والشعوب فيما بينها، والتي ستكون نتيجتها الطبيعية حصول الأسر والسبي، وأسرى الغزو كانوا يمثلون الأيدي العاملة في المجتمعات القائمة على الغزو والزراعة، فتجارة الرق كانت تمثل مصدراً مهماً للأيدي العاملة أو الموارد البشرية، حسب مفهوم الاقتصاد الحديث، لذلك تكمن الأسباب الاجتماعية للعار من خوف الأب من وقوع ابنته في السبي أو الأسر عند قبيلة أو جماعة غازية، فالعار مرتبط هنا بعجز الأب أو القبيلة عن حماية أفرادها.
قصة باطلة
وقال الحنان، إن القصة المشهورة عن الخليفة الإسلامي عمر بن الخطاب، التي تزعم أن الفاروق كان على عصبية جاهلية في قضية وأد البنات أحياء، والتي تشير إلى أنه دفن ابنته حية كعصبية جاهلية ضد البنات، وأنه لما هم بدفنها تعفرت لحيته بالتراب فمسحتها طفلته ونظفت لحيته من التراب، ولكن لم يشفع لها ذلك، وأصر عمر على دفنها، "فهذه قصة باطلة"، لأنه من المعروف أن أول امرأة تزوجها عمر هي زينب بنت مظعون، وقد كان لهما من الأولاد حفصة وعبد الله وأيضاً ابن ثالث وهو عبد الرحمن الأكبر، وإن حفصة قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، والسؤال المطروح هنا بأنه حفصة هي أكبر بنات الصحابي عمر رضي الله عنه ولم يئدها، فلمَ سيئد من هي أصغر منها؟
دافع الانتقام
من جانبه، أشار الباحث والأستاذ في التاريخ الإسلامي، محمد الشيباني، إلى أن قيس بن عاصم أول من وأد البنات من العرب، كان يخشى أن يخلف على بناته من هو غير كفء لهن، وكان قد وأد ثماني بنات.
وعن سبب قتله بناته، قال الشيباني، إن النعمان بن المنذر غزا بني تميم بجيش وسبوا نساءهم، فأنابه القوم وسألوه أن يحرر أسراهم فخير النعمان النساء الأسيرات، فمنهن من اختارت أباها فردها لأبيها، ومن اختارت زوجها ردها لزوجها، إلا امرأة قيس بن عاصم فاختارت الذي أسرها، فأقسم قيس بن عاصم أنه لا يولد له ابنة إلا قتلها.
وأضاف الشيباني "وجاء قيس بن عاصم إلى النبي محمد فقال (يا رسول الله إني قد وأدت بنات لي في الجاهلية)، قال له (عن كل واحدة منهن رقبة)، وفيها نزلت آية (وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت)".
شهادة الشعر الجاهلي
ورد الباحث والمستشار الشرعي المتخصص في السياسة الشرعية، خالد الشايع، على كتاب ابن تنباك، وقال إنه أخطأ خطأً فاحشاً، خصوصاً أنه "محاولة لنقض ما اتفق عليه أئمة العلماء من المتقدمين والمتأخرين". وقال إن "مرزوق خاض في مجال ليس من تخصصه، فهو وإن خالف المتخصصين في الأدب ورواة الشعر والمؤرخين فيهما، كصنيعه في رده لبيت الفرزدق الشهير: ومنا الذي منع الوائدات *** وأحيا الوئيد فلم يوأد".
وأشار الشايع إلى آيات القرآن الكريم، التي توضح أن "البشرية قد أوقعها الشيطان في قتل الإناث ومنها: الآية الصريحة في أن البنات هن من قتل بهذه الطريقة (إذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت)، والمشار بالوأد دفن البنت وهي حية في التراب حتى الموت، سميت بذلك أي موءودة لما يطرح عليها من التراب، فيئدها، أي: يثقلها حتى تموت".
الإسلام يكافح الظاهرة
وعرف الباحث الشرعي الشيخ عبد الله المهنا، وأد الموءودة في لغة العرب يعني دفنها صغيرة في القبر وهي حية. واشتقاق ذلك من قولهم "قد آدها بالتراب" أي أثقلها به، ففي الجاهلية درج سلوك وأد البنات، وهو سلوك متعارف عليه ينحدر من فكرة أن البنت هي سبب من أسباب جلب العار، وعندما أتى الإسلام كافح تلك الفكرة ونهى عن اتباع مثل ذلك السلوك، واعتبره جزءاً من الجاهلية، التي تحمل الخطأ والحرام في كثير من سلوكياتها، وفي المقابل أمر باحترام المرأة كأم وزوجة وابنة وأخت، واعتبر أنها أساس كبير في بناء المجتمع، بل اعتمد عليها كثيراً في تربية الأبناء ورعايتهم.
قضية قابلة للاجتهاد والدراسة
ومن أبرز من علق على قضية الوأد سعد بن ناصر الشثري، الذي رأس لجنة مناقشة ما ورد في كتاب "ابن تنباك"، حيث قال "الدكتور ينفي تخصيص وأد البنات عند العرب بخاصة، وبالتالي فهو لا يعارض ما ورد في النصوص، وهو اجتهاد من الدكتور نخالفه فيه، ومن ثم توجهت اللجنة إلى أن هذا اجتهاد من الدكتور، والقضية تحتمل الاجتهاد وليست قاطعة، وإن كنا نخالفه في مثل هذا الرأي".
فيما قال الداعية الدكتور محمد النجيمي، إن "ما أورده الدكتور ابن تنباك محتمل فعلاً، فهو لا ينكر قضية الوأد عند العرب، ولكن خص نقطة معينة اجتهاداً منه، وإن كنا نختلف معه في هذا تماماً، لكن هذا من القضايا التي يسوغ فيها الاختلاف، علماؤنا قرأوا الموضوع ووجدوا أنهم لا يتفقون مع ما كتب، لكن القضية هي قضية رأي واجتهاد".