في لبنان تتأرجح المعطيات بين ساعة وأخرى، وتتعدد التصريحات الرسمية بشأن إمكان التوصل إلى اتفاق أولي بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، من أجل تفادي الانهيار الكامل في الوضعين الاقتصادي والمعيشي.
وتسعى الحكومة اللبنانية إلى التوصل إلى اتفاق بشأن برنامج الدعم، الذي سيمنحه صندوق النقد الدولي للمالية العامة، خصوصاً مع تكاثر التحذيرات من التداعيات الخطيرة لتأخر السلطة الحاكمة في تطبيق الإصلاحات المنتظرة، التي هي شرط مزمن لتلقي البلد المساعدة المالية المطلوبة.
وفي كل الأحوال، فإن أي اتفاق يتم توقيعه قريباً يطلق عليه صفة "اتفاق الإطار" أو "الاتفاق الأولي"، أو "التوقيع بالأحرف الأولى"، وذلك لإدراك إدارة الصندوق والمسؤولين اللبنانيين والمجتمع الدولي أن التأخر في إنجاز الاتفاق بسبب الخلافات السياسية بات يحتاج إلى إعلان شيء ما يعطي فسحة أمل نفسية وسياسية تلجم مؤقتاً ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي يزيد ارتفاعه نتيجة عوامل نفسية وسياسية.
فسحة الأمل هذه يفترض أن يكون مداها الزمني حتى نهاية فصل الربيع، وبداية الصيف، حيث تكون الانتخابات النيابية قد حصلت على أمل تشكيل حكومة جديدة، وفقاً لموازين القوى التي ستنتج عنها، تستأنف التفاوض على تفاصيل خطة التعافي الاقتصادي مع الصندوق، ويجري تزخيم "فسحة الأمل" بمباشرة خطوات جدية لتصحيح الوضع الاقتصادي المالي وبتلقي مساعدات موعودة.
الاتفاق "الأولي" يعطي "نفساً"
مع أن المتغيرات السياسية ليست مضمونة باتجاه إيجابي، والبعض يتوقع اشتداد الصراع السياسي على الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فإن الاعتقاد السائد أن الاتفاق الأولي مع الصندوق يعطي "نفساً"، كما يقول بعض المتابعين للوضع الاقتصادي، ويخلق دينامية الالتزام باستكماله عبر تطبيق الإصلاحات المطلوبة.
فصندوق النقد يطلب إقرار 4 قوانين أساسية من الحكومة والبرلمان خلال فسحة الأربعين يوماً الفاصلة عن الانتخابات النيابية في 15 مايو (أيار) المقبل هي: الكابيتال كونترول، وتعديل قانون السرية المصرفية، وإعادة هيكلة المصارف، وقانون الموازنة للعام الحالي.
وفي الإجراءات ينتظر، مثل سائر الدول، البدء في تلزيم شفاف لمعملين لإنتاج الكهرباء كخطوة توقف استنزاف الخزينة جراء الخسائر، التي يسببها هذا القطاع. ومن الطبيعي أن تحوم الشكوك حول إمكان تنفيذ ذلك، نظراً إلى أن قانون الكابيتال كونترول يفرض إجراءات قاسية تتعلق بسقف السحوبات المالية من الودائع، ولأن قانون الموازنة يشمل رسوماً وضرائب تزيد الواردات للخزينة وخطوات لتقليص كلفة القطاع العام، في وقت سيكون النواب الحاليون المرشحون للانتخابات عرضة للانتقادات والحملات من الناخبين والمعارضين، في حال اللجوء إليها، وبالتالي يفضلون تأجيل الأمر إلى ما بعد الانتخابات.
الصورة الشاملة تضاف للعراقيل الداخلية
في المقابل، تبدو الصورة الشاملة أكثر تعقيداً لدى الأوساط الدبلوماسية المتابعة لتفاصيل الوضع اللبناني والمترقبة لخطوات السلطات اللبنانية، لأنها تضيف إلى العراقيل السياسية الداخلية أسباباً موضوعية خارجة عن إرادة لبنان.
فحرب أوكرانيا والمواجهة الروسية الغربية فيها ستؤخر المعالجات الاقتصادية اللبنانية والمساعدات المالية، لأن سلسلة الإمداد للطاقة وللبضائع والمواد الغذائية في العالم ستتراجع بسبب هذه الحرب. فهي ستقود إلى تضخم كبير في الاقتصاد العالمي، وإلى ارتفاع في الأسعار وغلاء المعيشة، تتأثر به البلدان كافة، إلى درجة الحديث عن مجاعة في بعض الدول الأفريقية الفقيرة.
وليس ممكناً العودة إلى الوراء، أي إلى ما قبل الحرب في أوكرانيا. فالمسرح القتالي هو مكان لزراعة القمح وتصديره إلى معظم دول العالم. وهذا سيتوقف. والبدائل ستأخذ وقتاً قبل تأمينها في وقت عوامل تغير المناخ سيؤثر في ذلك. فدول مثل الهند لديها أراض شاسعة، لكن احتياجات ما يفوق المليار و300 مليون مواطن فيها يفرض التركيز على احتياجاتها الداخلية. البرازيل كدولة كبيرة ليست مميزة بزراعة الحبوب. مصر لديها الإمكانيات لكن شعبها يحتاج إلى ما تنتجه، وإيران تعاني المشكلة نفسها، فضلاً عن أن التصحر في هذه الدول يشكل عامل إعاقة. ودول النفط ستكون أمام معضلة على الرغم من توفر الإمكانيات المالية. والدليل أن دولة قطر حين حصل الخلاف مع دول الخليج وأقفلت الحدود اعتمدت على تركيا، وجزئياً على إيران.
العالم المتغير وفرصة لبنان
يجب أن يدرك المعنيون في لبنان أن هناك تغييراً كبيراً حصل على المستوى العالمي بسبب هذه الحرب، التي ستطول لسنوات وليس لأشهر. ويفترض أن يتجه تركيز الجهات الدولية المانحة على دعم الزراعة، وسيشهد العالم انحساراً جزئياً للعولمة في ما يخص الأمن الغذائي بحيث تركز الدول على المصالح الوطنية في تأمين الغذاء، ولدى لبنان الذي أهدر كثيراً من الفرص بتأخيره الاتفاق مع صندوق النقد وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، فرصة الإفادة من مناخه المعتدل من أجل القيام بتحول اقتصادي. وهو بات يحتاج إلى رؤية اقتصادية استراتيجية في ضوء المتغيرات الدولية، وبإمكانه تطوير قطاعه الزراعي من أجل الاكتفاء الذاتي ومن أجل التصدير، لأن عدد سكانه قليل. وبإمكان البلد أن يستفيد من الزراعات السورية، لكن من الأفضل له أن يعتمد على إمكانياته الذاتية، المتوفرة، لأن حتى سوريا سيكون صعباً أن تورد إنتاجها بفعل حاجاتها الداخلية.
الأوساط الدبلوماسية، التي تراقب أداء السلطات اللبنانية، تشير إلى التأخر في العديد من الخطوات المطلوبة لوضع البلد على سكة الخروج من أزمته الاقتصادية، باتت بعد الحرب في أوكرانيا تنظر إليه من زاوية ضرورة الإفادة من الفرص المتاحة راهناً. فالأزمة الاقتصادية العالمية ستؤثر على إمكان تقديم مساعدات سخية للبنان، في وقت تأخر مثلاً حسم ملف استخراج النفط والغاز الموجود في المياه الخاصة بلبنان، بسبب تأجيل الخلافات لعملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرصة الغاز والخط المتعرج
من ضمن مبادرات الخارج حيال الوضع اللبناني، التحرك الأخير لكبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية لأمن الطاقة، آيموس هوكستين، الوسيط الأميركي بين لبنان وإسرائيل، الذي اقترح خلال زيارتين له إلى بيروت تكتيكاً جديداً في المفاوضات التي كانت جامدة بين البلدين، قضى بأن يتحرك هو بين الدولتين على أساس التسليم من قبل تل أبيب وبيروت باعتماد الخط 23 لرسم الحدود، مع مبدأ إجراء نوع من "السواب" (التبادل) في رسم الخط، بحيث لا يكون مستقيماً بالكامل، ويحصل لبنان على كامل حقل قانا الغازي، الذي يقع الجزء الأكبر منه ضمن الخط 23 في الجهة اللبنانية، وجزء صغير في الجانب الإسرائيلي، فإذا حصل لبنان على الجزء الصغير الواقع عبر التعرج في رسم الخط، تحصل إسرائيل على منطقة بديلة في الجزء اللبناني.
وتضمن تكتيك هوكستين التفاوضي أن يؤمن الموافقة اللبنانية والإسرائيلية على اقتراحه بالرسم المتعرج للخط 23، ويدعو عندها إلى اجتماع للجانبين بضيافة الأمم المتحدة في منطقة الناقورة الجنوبية، كما اتفق سابقاً، من أجل تكريس الاتفاق رسمياً. لكنه اشترط اتفاقاً لبنانياً داخلياً حول اقتراحه، الذي عاد فأرسله خطياً مع خريطة تحدد الخط المتعرج، الذي يقضم من أحد البلوكات (الرقم 8) كان لبنان حدده على أنه يختزن كميات من الغاز. إلا أنه لم يحصل اتفاق لبناني داخلي بين الرؤساء اللبنانيين الثلاثة عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي، على الجواب الذي طلبه حيال اقتراحاته الخطية.
الخلاف اللبناني
كان عون وميقاتي كلفا لجنة من تقنيين ودبلوماسيين بصياغة ملاحظات على اقتراح هوكستين، اطلع عليها الرؤساء الثلاثة، لكن لم تُرسل إلى المسؤول الأميركي، نظراً إلى أن الرئيس بري كان متشدداً برفضه قبول "السواب" في المناطق المائية، رافضاً إعطاء إسرائيل مساحة مقابل تخليها عن المساحة الصغيرة التي أخذها لبنان من الجانب الإسرائيلي لضمان استخراج الغاز من حقل قانا بكامله حتى لا يتقاسمه مع الجانب الإسرائيلي.
الأوساط المتابعة لمسألة ترسيم الحدود تخشى من إضاعة الفرصة المتاحة الآن أمام لبنان في شأن التنقيب عن الغاز في عرض البحر. وفي وقت تفيد المعلومات بأن إسرائيل أبدت إيجابية حيال التكتيك الذي اعتمده الوسيط الأميركي هوكستين، فإن لبنان ما زال يتخبط بخلافات داخلية تؤخر التقاطه لفرصة جديدة بعد حرب أوكرانيا. فهوكستين قد يهمل الملف لفترة نظراً إلى انشغاله بمسألة أمن الطاقة دولياً وأميركياً، بسبب سعي واشنطن إلى تأمين بدائل عن الغاز الروسي لأوروبا وسائر دول العالم. فالطلب على الغاز سيرتفع عالمياً، وباستطاعة دول عدة في المنطقة الاستفادة من هذا التطور، ومنها مصر وقبرص وإسرائيل، لا سيما أن الاتجاه الدولي إلى الاعتماد على الغاز بدلاً من النفط لتوليد الطاقة يعود إلى أنه أقل ضرراً على البيئة.
واستخراج الغاز يأخذ وقتاً، وأمام لبنان فرصة ذهبية، يفترض ألا يهدرها، فتتأخر إفادته من تداعيات حرب أوكرانيا على سوق الغاز في ظل محاولة أوروبا وأميركا خفض الاعتماد على الغاز الروسي، والبحث عن مصادر أخرى لا سيما في الشرق الأوسط القريب من أوروبا.