مثّلت لحظة 25 يوليو (تموز) 2021 في تونس محطة فارقة في مسار البلاد السياسي، في تاريخها المعاصر. ويختلف المتابعون للشأن العام في تونس، في تقييم هذه المحطة، بين من يرى أنّها لحظة فرضها تأزم الوضع السياسي الذي بلغ مداه، وبين من يعتبر أن رئيس الجمهورية، ساهم من موقعه، في تأزّم الوضع، من أجل الانقضاض على الحكم، ووضع أسس مشروعه السياسي للبلاد. لكن هل يمثل مشروع قيس سعيد السياسي فعلاً مشروعَ إنقاذ لتونس؟ أم هو تقويض لكل ما تحقّق، ونزوع نحو تعميق الأزمة السياسية والذهاب بالبلاد إلى المجهول؟
يستقي المعجم الفكري لمشروع قيس سعيد أدبياته، من مناهضة الأحزاب، وكل الأشكال الكلاسيكية للتنظيم السياسي، ورفض الديمقراطية التمثيلية، والتبخيس من النخب والانتقاص من شأن السياسيين، وهو ما تجلّى من خلال خطاب رئيس الجمهورية، وسرديّته في توصيف وضع البلاد سياسياً واقتصادياً.
نظام رئاسي والتصويت على الأفراد
اليوم وبعد مسافة زمنية تناهز التسعة أشهر عن تلك اللحظة، تكتنف حال من الغموض والترقب في المشهد السياسي في تونس، بعد أن طال أمد الإجراءات الاستثنائية، وتدهورت المقدرة الشرائية، وباتت البلاد على حافة الإفلاس في ظل تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتخفيض من التصنيف الائتماني لتونس في الوكالات الدولية.
في هذه الأثناء، كشف سعيد عن جزء من ملامح مشروعه السياسي، الذي قال إنه مبني على مخرجات الاستشارة الإلكترونية، التي شارك فيها 500 ألف تونسي، أي أقلّ من خمسة في المئة من التونسيين، والذي يتضمّن تعديل نظام الحكم من برلماني معدّل إلى نظام رئاسي، وإصلاحات دستوريّة أخرى، علاوة على تعديل النظام الانتخابي من التصويت على القائمات إلى التصويت على الأفراد وعلى دورتين.
كما أعلن رئيس الجمهورية بدء مشاورات من أجل حوار وطني من دون مشاركة من كان ضمن منظومة ما قبل 25 يوليو 2021.
مشروع إنقاذ تونس
هذه الملامح الأولية لمشروع قيس سعيد لتونس الجديدة يعتبرها الناشط السياسي ورئيس حزب "التحالف من أجل تونس"، سرحان الناصري، مؤشراً على حسن نية رئيس الجمهورية في تصحيح الوضع في تونس، وتنقية المناخ السياسي، قائلاً، "إنه مشروع إنقاذ البلاد"، ومستدركاً، "إلا أنّ العديد من النقاط لا تزال غامضة، على غرار تكريس نظام مجالسي، أو قاعدي والذي يحتاج مزيداً من التوضيح"، ودعا الناصري إلى "تشريك المنظمات الوطنية الكبرى، وبعض الأحزاب التي تلتقي معه في هذه الرؤية"، مضيفاً، "لا يمكن إصلاح الوضع في تونس من جهة واحدة في إشارة إلى رئيس الجمهورية".
ويؤكد رئيس حزب "التحالف من أجل تونس"، دعمه هذا المسار "للمرور إلى المرحلة المقبلة من الجمهورية الثالثة، شرط أن يكون مشروعاً تشاركياً لأن الدولة تحتاج إلى رؤية شاملة لكل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جمهورية ثالثة بنظام سليم
ويشدّد سرحان الناصري، على أن رئيس الجمهورية، "سيكون رئيساً لكل التونسيين لمرحلة معيّنة، ستنتهي بالضرورة، بينما الدولة باقية، وعليه لا بد من وضع مؤسّسات لبناء جمهورية ثالثة، تقوم على نظام سليم وتشاركية بنّاءة"، داعياً لأن يتم "تشريك الجيل السياسي الجديد الذي لم يشارك في تخريب الدولة لمدة عشر سنوات"، ولا يُخفي الناصري دعمه وثقته في مشروع قيس سعيد، مطالباً بـ "فتح باب الحوار من أجل بناء تونس المستقبل".
يذكر أنه على الرغم من غموض مشروع قيس سعيد السياسي لتونس، فهو يتصدّر نوايا التصويت في الانتخابات على الرغم من تراجع المساندة الشعبية التي بلغت ذروتها مباشرة إثر 25 يوليو 2021.
هاجس قيس سعيد الحكم الفردي
في المقابل، يرى السياسي والنائب السابق في المجلس الوطني التأسيسي، والأمين العام لـ "الحزب الجمهوري" عصام الشابي، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن رئيس الجمهورية بصدد "تعميق الأزمة السياسية، والدفع بتونس إلى المجهول من خلال مشروع سياسي غريب على القاموس السياسي العصري في إدارة الدّولة، يقوم على تجميع السلطات واحتكارها، ولا يقيّد سلطاته بأي قانون أو مؤسّسات"، ويضيف أن "تونس تتّجه بخطوات حثيثة نحو إرساء حكم فردي مطلق واستبدادي"، اعتبره "أخطر مما عاشته تونس قبل 2011"، لافتاً إلى أن سعيد "لا يؤمن بالحوار، والاختلاف، والتنوع، والتوافق الوطني"، ويشدّد عصام الشّابي على أن "تونس كانت فعلاً في أزمة سياسية عميقة قبل 25 يوليو 2021، إلا أن قيس سعيد لم يعمل على حلّ تلك الأزمة بل ساهم في تعميقها، من أجل الانقضاض على الحكم"، مشيراً إلى أن "25 يوليو لم تكن لحظة تصحيح مسار بل كانت إجابة خاطئة على أزمة حقيقية".
التفويت في فرصة الإصلاح
ويضيف الأمين العام لـ "الحزب الجمهوري"، أن "الأزمة كانت حقيقية في تونس، إلا أن رئيس الجمهورية فوّت فرصة تصحيح المسار، وكان بإمكانه أن يستند إلى المساندة الشعبية، ودعم المنظمات الوطنية لبناء حوار وطني، يفرض الحلول على الأغلبية الحاكمة، إلا أن سعيد لم يكن هاجسه الإصلاح".
وفي إشارة إلى واقع الحال في تونس، يقول الشابي، "اليوم بعد تسعة أشهر من استئثار سعيد بالحكم، لم تتقدم تونس قيد أنملة في معالجة القضايا والتحدّيات المطروحة، بل تعمّقت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأصبحت تونس في شبه عزلة دولية، علاوة على صعوبات المالية العمومية، وتنامي الفقر والبطالة"، مضيفاً أن "إمكانية الإنقاذ كانت متوفرة لكن سعيد لم يكن همّه الإنقاذ بل تحقيق أهدافه في الحكم الفردي".
أقلّ من أربعة أشهر تفصل التونسيين عن أول موعد انتخابي بعد 25 يوليو 2021، من دون أن يفصح رئيس الجمهورية عن مشروعه السياسي كاملاً، وعن مصير مكونات المشهد من منظمات وأحزاب وهيئات دستورية ورقابية، ما عزّز التخوف من النزوع نحو حكم فردي يرفض الأجسام الوسيطة، ولا يحتكم إلا لإرادة الفرد الواحد.