لا قراءة واحدة أو نهائية يمكن للمشاهد أن يخرج بها من مسرحية "هاملت بالمقلوب" التي يقدمها المسرح الحديث في القاهرة، كتابة سامح مهران، وإخراج مازن الغرباوي، وديكور وإضاءة صبحي السيد.
الأسماء الثلاثة المذكورة لها حضورها اللافت في المشهد المسرحي في مصر، ولها أيضاً أساليبها المختلفة في التعاطي مع المسرح، كل في عنصره. لذا فإن عملاً يجمعها معاً، يجب أن يؤخذ بجدية، وبسعي حثيث لفك شيفراته، وربما استدعى الأمر مشاهدة العرض أكثر من مرة، فهو من العروض التي تحتاج إلى دربة خاصة لتلقيها، ولا تسلم نفسها من المرة الأولى. ليس العرض منغلقاً على ذاته تماماً، لكنه يستفز المشاهد ويدفعه إلى التفكير مراراً وتكراراً، ولا يغفل، في الوقت نفسه، عن إمتاعه بصرياً، وإن ظل، أولاً وأخيراً، عملاً تجريبياً، نصاً وإخراجاً.
روح هاملت
العرض فيه بالتأكيد قبس من روح "هاملت" شكسبير، لكنه هنا هاملت آخر غير الذي نعرفه وشاهدناه عشرات المرات. نعم سيكون هاملت الأصلي في خلفيتنا ونحن نشاهد العرض، لكنه سيحضر كطيف أو كشبح مثل شبح والده، الملك المغدور. أما هاملت الآخر وشخصيته ودوافعه ومصيره، فهي هنا شيء آخر، أو هي الرؤية الجديدة في ضوء المعطيات الجديدة، والتقنيات الجديدة، التي قدمها صناع العرض.
هي إذاً قراءة جديدة ومختلفة لهاملت، تتأمل قصته جيداً وتقلبها رأساً على عقب، أو بمعنى أدق تقترح قصة أخرى، تنظر إليها من زاوية أخرى تماماً حملها الكاتب آراءه ومواقفه، في ضوء معطيات جديدة تلامس الآني. حتى إن صوت الكاتب يعلو كثيراً، من دون أي محاولة للتواري، أو تمرير الأفكار بخبث، وهو أمر يبدو مقصوداً، وإن كان في كل الأحوال يترك للمشاهد، النوعي بالتأكيد، تلك المساحة التي يلعب فيها بمعرفته، ويقرأ فيها على طريقته.
تداخل الأزمنة
في هذا العرض تتداخل الأزمنة، من زمن هاملت الأصلي إلى زمننا نحن، وما طرأ عليه من مستجدات، وما أسفر عنه من قراءات. وتتشابك الأحداث، وتتغير المصائر، لتراكم طبقات من الأسئلة، تظل عالقة من دون إجابات نهائية أو حاسمة.
وإذا كان هاملت تلاعب بالجميع في النص الأصلي حتى لقي مصيره مقتولاً في النهاية، فقد تم التلاعب به في نص العرض. فهو لم يدع الجنون ولكنه اتهم بالجنون والتحرش وتم إيداعه مستشفى للأمراض العقلية مدى الحياة، في مؤامرة دبرها العم كلاوديوس وتابعه بولونيوس. أوفيليا هي الأخرى لم تمت منتحرة غرقاً، حزناً على هاملت ووفاء له، لكنها تلاعبت بهاملت، وبدت أقرب إلى الغانية منها إلى فتاة الأحلام، وتزوجت من عمه بعد وفاة زوجته الملكة الأم، التي ماتت مقتولة بحسب النص الجديد. المصائر المشتركة التي انتهت إلى موت الجميع في النص الأصلي لم تكن كذلك في النص الجديد، وحده هاملت الذي عاد إلى الأكفان كما ابتعث منها بداية العرض في استعراض استهلالي يخبرنا منذ البداية أن هاملت، الآخر، أو هاملت الذي يتصوره نص العرض، هنا والآن.
مخلص دجال
حضر هاملت كمخلص وكرمز للشباب الثائر، وهي صيغة تحمل من الادعاء، ادعاء هاملت، أكثر مما تحمل من الصدق. هو في كل الأحوال لم يكن سوياً، حاول ادعاء التقوى والتدين، وأظهر غير ما يبطن. ربما كان أقرب إلى المخلص الدجال، فالكل يبغي السلطة التي تتبعها طاعة عمياء، والمارق مصيره القتل، والفعل الطيب قد يخفي رغبة ليست طيبة... هذه أقوال هاملت. فهل هاملت هنا يمثل الغرب في توحشه وتآمره وادعاءاته، هل يمثل الوجه الغربي الآخر لجماعات التشدد في عالمنا العربي، وبولونيوس والد أوفيليا، القس المتآمر الذي يبيح زواج المثليين، هل هو صورة أخرى لتوظيف الديني في خدمة السياسي، كما في مناطق أخرى من العالم. كأن يصير الكل في الهم سواء؟ كلها أسئلة متشابكة، وما حضور السوشيال ميديا هنا إلا لتأكيد سؤال: "ماذا لو ابتعثنا هاملت من جديد هنا والآن"، كيف نقرأه، وكيف ننفذ من خلاله إلى ما يمكن اعتباره أكاذيب الغرب، وادعاءاته وانقسامه على نفسه؟
هناك هتاف يردده الشباب في الدنمارك خلال العرض "هاملت يا حرية... يا روح الأمة الدنماركية"، هل يردنا إلى "ناصر يا حرية.. يا روح الأمة العربية"؟ ربما، خصوصاً أن هاملت هنا يحضر كرجل شعبوي يصارع عمه على السلطة، ويستغل عمه السوشيال ميديا في التنكيل به وتشويه صورته أمام شعبه. هل أراد الكاتب ضرب عصفورين بحجر، فيسخر من الفترة الناصرية في طريق إدانته أكاذيب وادعاءات الغرب؟
نافذة طويلة عريضة يفتحها العرض على تساؤلات لا أجوبة حاسمة أو واحدة لها، ولكل واحد أن يقرأها على طريقته، ويفسرها بمعرفته.
هي جرأة على النص الأصلي، وتفكيك له وإعادة صياغته من جديد، محملاً بوجهة نظر يمكن استبطانها وطرح الأسئلة حولها. معظم الشخصيات تظهر غير ما تبطن، وكأنها شخصيات غير سوية. دعك من فكرة عدم دراميتها، فالتآمر يغلف كل أفعالها، كما لو أن المقصود هنا إدانة الغرب تحديداً وإظهار تناقضاته، وانقسامه على نفسه، وعدم موضوعيته، وسعيه الدائم إلى الاستغلال. كل شيء هنا جائز وفق القراءة التي تروق للمشاهد.
مهمة شاقة
صياغة كل ذلك جمالياً كانت مهمة المخرج الشاقة، كان عليه ألا يتكئ على الكلمة وحدها، أو في الأقل أن يقدمها عبر صورة وحركة وإيماءة وعلامة. ومن هنا كثر التشكيل الجمالي، سواء من خلال الديكور، الذي وازن بين الرمزي والتجريدي، مكتفياً بمنظر واحد ثابت في ثلاثة مستويات، ومدعماً إياه ببعض الموتفيات التي تُستدعى عند الحاجة. عطفاً على إضاءة (صممها مهندس الديكور) لعبت هي الأخرى دوراً وظيفياً وجمالياً، الأول من خلال قدرتها على إظهار انفعالات الممثلين وأدق تفاصيلها. وهو أمر مهم، نظراً إلى طبيعة العرض وشخصياته، يعين المشاهد على قراءة الشخصية واستبطان دوافعها، والآخر عبر دورها في تشكيل الصورة المسرحية برهافة شديدة، سواء كانت هذه الإضاءة ثابتة أو محمولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استخدم المخرج أيضاً تقنية الهولوغرام، وهي عبارة عن صور تجسيمية تتيح إعادة تكوين صورة الأجسام بأبعادها المختلفة في الفضاء المطلق، معتمدة على الموجات الضوئية التي تتولى مسؤولية التصوير الثلاثي الأبعاد للأجسام بكفاءة عالية. وأظهر من خلالها شبح والد هاملت الذي قدمه الفنان خالد الصاوي، وكثف كثيراً من الأحداث عبر التشكيلات الحركية التي جاءت بمثابة علامات أو مفاتيح يمكنها إعانة المشاهد على تلقي العرض.
موسيقى طارق مهران كانت بمثابة قراءة موازية للأفكار التي سعى العرض لطرحها. ولعل توتراتها وخفوتها واحتدامها، حسب طبيعة المشاهد، كانت عاملاً مساعداً في تلقي العرض ومحاولة تفجير ألغامه، وفك شفراته، وكأنها كانت صوتاً آخر للأحداث على الخشبة.
التمثيل في هذا العرض تطلب رهافة خاصة، فالكل هنا يدرك أنه بمثابة قراءة جديدة للشخصيات، وربما صادمة لمشاهد المسرح، وحضر أيضاً الوعي بالطبيعة الجديدة للشخصيات: أيمن الشيوي في رصانته ودهائه كملك مغتصب لعرش أخيه ومتآمر على هاملت، وخالد محمود في دور بولونيوس القس الذي يبيع كل شيء من أجل مصالحه، وعمرو القاضي هاملت في صراعه ضد الجميع، وسمر جابر أوفيليا في صورتها الجديدة والفجة، وكذلك محمود سعيد ونهاد سعيد ومجموعة الشباب الذين قاموا بالأدوار المساعدة، في تناغم شديد ومحسوب.
"هاملت بالمقلوب"، عرض مسرحي مختلف، تضافرت فيه الكلمة مع التشكيل في محاولة لإنتاج معنى ما أو معان عدة، ولكل مشاهد أن يقرأها من زاوية نظره الخاصة.