في منتصف مارس (آذار) الماضي عثرت الطفلة آيات وهي تجمع الحطب لبيتها في قرية بابنّس، بريف حلب الشمالي، على صنبور ماء ملقى على الأرض، بعفوية طفولية حملته ظناً منها أنه شيء مفيد قد يسعد عائلتها النازحة من مدينة عفرين، لكن حين أمسك والدها الصنبور ذاته أحسّ بحرارة تنبعث منه، ومع طلبه بعجل خروج طفلته من غرفة المطبخ حتى انفجر بيده مخلفاً ضرراً جسيماً.
زراعة الموت!
كارثة محدقة ألمت بعائلة باتت على غفلة بعداد ضحايا الألغام والذخائر غير المنفجرة في سوريا، تتكرر فصولها بشكل لافت بين البيوت المدمرة، والأراضي المقفرة بعد عودة الأهالي والمزارعين إليها إثر نزوحهم على خلفية الصراع المسلح الدائر منذ عام 2011 بين قوات النظام السوري والفصائل المعارضة، واستخدام خلايا تنظيم "داعش" أسلوب التفخيخ إلى جانب حرب العصابات منذ انهياره قبل ثلاث سنوات، فيما آخر ضحاياه مقتل فتاتين بقرية المريعية، بريف دير الزور الشرقي الثلاثاء 12 أبريل (نيسان) الحالي.
لم يتبق في يد والد الطفلة آيات سوى السبابة والإبهام مع إصابة في ساقه، وكسرت ساق الطفلة فيما يتلقيان العلاج والمتابعة من فريق إغاثي طبي يتابع حالة المريض وابنته مع حاجة الأب المعيل الوحيد لعائلته إلى كرسي متحرك نهاية المطاف.
شاء القدر أن تكون الطفلة آيات ضحية للذخائر غير المنفجرة، وتبقى شاهد عيان على فداحة حرب خفية وأياد لطالما بقيت تزرع الموت بدلاً من بث الحياة في الأراضي الشاسعة، في حين الخسائر البشرية جسيمة، وأعداد من لقي حتفهم بازدياد عاماً بعد عام، لا سيما بين الأطفال.
وقدرت المنظمات الحقوقية حوالى 900 طفل في سوريا لقوا حتفهم وأصيبوا العام الماضي، وفق بيانات منظمة "يونيسيف" العالمية ليرتفع العدد الإجمالي للقتلى والجرحى من الأطفال منذ بداية الحرب إلى حوالى 13 ألف طفل شكلت مخلفات الحرب والذخائر غير المنفجرة السبب الرئيس لمصرعهم.
خريطة الألغام غائبة
لا يخلو يوم من دون أن يسقط مدني كضحية من ضحايا ما تبقى من ذخائر وألغام تمتد على طول خطوط وأراض كانت خطوط اشتباك، وصراع مسلح بين قوات النظام وفصائل المعارضة المسلحة والإدارة الذاتية وتنظيم "داعش" وجيوش أجنبية تتصارع في ما بينها على الأرض السورية، اذ اختلطت خريطة الاشتباك في كثير من المواقع والأماكن، وبات من الصعب تحديد مواقع الألغام الأمر الذي يعرقل إزالتها في ظل هذا التحدي لاكتشافها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفتت المديرة الإقليمية للمناصرة والإعلام بمكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "يونيسف"، جولييت توما في حديثها لـ"اندبندنت عربية" إلى كون دور المنظمة يقتصر على التوعية "ولا نملك معلومات عن خريطة انتشار الذخائر غير المنفجرة أو الألغام، وعادة توجد منظمة تابعة للأمم المتحدة يطلق عليها (أونماس) بعد انتهاء الحروب والنزاعات يعملون على مسح شامل للمناطق مع رسم خرائط وسط عملية معقدة، لذلك ومن بعدها يعكفون على نزعها".
من جهته وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 29 مدنياً بينهم 12 طفلاً وإصابة 29 آخرين بجراح متفاوتة بينهم ثلاث سيدات وتسعة أطفال خلال مارس الفائت لوحده في رقم يقترب من عدد الضحايا في فبراير (شباط) إذ لقي 33 مدنياً حتفهم بينهم 16 طفلاً وإصابة 37 مدنياً، وسجل المرصد مصرع 241 مدنياً في عام 2021 بينهم 114 طفلاً.
حرب جديدة بعد انتهاء المعارك
وإن خفت صوت الرصاص وضجيج القذائف، وتلاشت معها أدخنتها في بعض مناطق الصراع السوري، لن يوحي ذاك الهدوء بأي حال من الأحوال بالأمان المطلق، فالتهديدات ما زالت تلاحق السكان المحليين، أو العائدين إلى بيوتهم، يحبسون أنفاسهم خوفاً من ذخائر وألغام مدفونة أرضاً أو مبعثرة على امتداد مساحات شاسعة تهددهم، لا سيما أنها تصنع على أشكال أغراض أو أشياء لا تبدو أنها خطرة وللاستخدام البشري، ويروي أحد القاطنين سقوط جاره في السكن صريعاً مع طفله "بعد العثور على إطار عربة محشوة بمواد متفجرة تنفجر حين تحريكها".
وتنتشر مخلفات الحرب في مناطق النفوذ الثلاث (السلطة والمعارضة والإدارة الذاتية) على حد سواء وتهدد معها إزهاق مزيد من أرواح المدنيين ونسبتهم 58 في المئة وفق مركز "AOAV" في بريطانيا الذي صنف سوريا بالترتيب الأول كأكثر الدول عدداً للضحايا من الأسلحة المتفجرة عن سنوات سابقة في تاريخ الحرب.
ويروي صهيب مارديني، موظف ميداني في مجال العمل الإسعافي "الحالات التي نسعفها في غاية الصعوبة، وأغلبها بتر الأطراف السفلية، وأغلبهم من الأطفال، لقد تعرضت طواقمنا في الشمال السوري للخطر بعد انفجار ألغام أرضية بمركباتنا لعدم معرفتنا المسبقة عن توزعها، الأمر مقلق للغاية، حول مستقبل الحياة والعيش مع خطر الألغام".
في المقابل يناشد ناشطون في المجال الإنساني المجتمع الدولي للمساهمة الفاعلة قدر المستطاع بغية إزالة مخلفات الحرب القابلة للانفجار، ومع ذلك يوجد في سوريا 300 ألف ذخيرة لم تنفجر بعد بحسب مركز كارتر للأبحاث، بينما يذكر ممثل منظمة "يونيسف" في سوريا، بو فيكتور نيلوند عن وجود خمسة ملايين طفل سوري ولدوا في البلاد منذ عام 2011 ولم يعرفوا شيئاً سوى الحرب والنزاع "ما زالوا يعيشون في خوف من العنف والألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب".
وتزداد المخاوف لدى السكان المحليين في القرى والأرياف على امتداد الأرض السورية التي شهدت نزاعاً مسلحاً من أخطار تتهدد أطفالهم بخروجهم للعب أو العبث بمخلفات الحرب، ومن عودة تنظيم "داعش" ونصبه الكمائن التي يمكن أن تصطاد المدنيين في معركة لا ناقة لهم بها ولا جمل.