مع اقتراب الحرب الروسية في أوكرانيا من شهرين، واستمرار الضغط على مدينة ماريوبول الساحلية الاستراتيجية، تواصل الحكومات الغربية التحذير من أن الجيش الروسي قد يصعّد من الحرب، وينتقل من القصف العشوائي للمدن إلى استخدام الحرب غير التقليدية، لا سيما الأسلحة الكيماوية لحسم الصراع المستمر منذ سبعة أسابيع.
في وقت سابق، اتهمت البرلمانية الأوكرانية إيفانا كليمبوش، القوات الروسية باستخدام "مادة غير معروفة" في ماريوبول، وزعمت أن سكاناً في المدينة يعانون فشلاً في الجهاز التنفسي. وكتبت كليمبوش في تغريدة على "تويتر"، "على الأرجح أسلحة كيماوية!". وسرعان ما أعلنت العواصم الغربية أنها تحقق في صحة تلك المعلومات التي تفيد باحتمال استخدام روسيا أسلحة كيماوية في الهجوم على المدينة الأوكرانية المحاصرة.
ونفى الكرملين صحة هذه التقارير أو وجود أي نية لاستخدام أسلحة كيماوية. لكن الاتهامات الغربية تستند إلى عقدين ماضيين من الاشتباه في هجمات ضد معارضين روس في الخارج استُخدمت فيها أسلحة محظورة.
وتزايد القلق بشأن نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 28 مارس (آذار)، عندما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أن المبعوثين والوسطاء في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا في وقت سابق من الشهر تعرّضوا للتسمم بغاز ما، على الرغم من أن مصدراً حكومياً أوكرانياً نفى هذه القصة.
الاتهامات الغربية لروسيا، سبقتها ادعاءات روسية للولايات المتحدة بإدارة مختبرات في أوكرانيا لتصنيع أسلحة بيولوجية. ففي أوائل مارس الماضي، اتهمت وزارة الدفاع الروسية الولايات المتحدة بأنها موّلت برنامج بحوث حول أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، مؤكدة أنها وجدت أدلة على ذلك في مختبرات أوكرانية.
وقال فاسيلي نيبينزيا، سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، إن كييف أدارت شبكة من 30 مختبراً تجري "تجارب بيولوجية خطيرة للغاية"، وتهدف إلى نشر "مسببات الأمراض الفيروسية" من الخفافيش إلى البشر، بما يشمل الطاعون والجمرة الخبيثة والكوليرا وأمراضاً قاتلة أخرى.
وسبق ذلك في عام 2018، اتهام موسكو لواشنطن بإجراء تجارب أسلحة بيولوجية سراً في مختبر بجورجيا، الجمهورية السوفياتية السابقة التي تطمح للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).
ونفت الولايات المتحدة الاتهامات الروسية واعتبرتها مزاعم مثيرة للسخرية، وأشارت إلى أنها محاولة للتمهيد من جانب موسكو لاستخدام الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية.
اتفاقية الأسلحة البيولوجية
بسبب الطبيعة العشوائية للأسلحة البيولوجية وكذلك إمكانية بدء انتشار الأوبئة، وصعوبة السيطرة على آثار المرض والفزع الذي تثيره، وافقت معظم البلدان على حظر هذا النوع من الأسلحة بأكمله.
وحظرت معاهدتان دوليتان الأسلحة البيولوجية عامي 1925 و1972. وتمثل اتفاقية الأسلحة البيولوجية أول اتفاقية دولية تحظر فئة كاملة من أسلحة الدمار الشامل، وتشكل إلى جانب بروتوكول جنيف وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 1540 (2004) الترتيب الأساسي للنظام الدولي للحدّ من الأسلحة البيولوجية.
باعتبارها حجر الزاوية في الحد من الأسلحة البيولوجية الدولية، فُتحت اتفاقية الأسلحة البيولوجية للتوقيع في أبريل (نيسان) عام 1972 ودخلت حيز التنفيذ في 1975، واعتباراً من 2013، وقّعت 181 دولة اتفاقية (BWC)، و171 من تلك الدول صدّقت على المعاهدة. وبموجب شروط الاتفاقية، فإن الدول الأعضاء يحظر عليها استخدام هذه الأسلحة في الحروب أو تطويرها أو اختبارها أو إنتاجها أو تخزينها أو نشرها.
الاستخدام المباشر للعوامل المعدية والسموم ضد العدو هو ممارسة قديمة في الحروب. برز أول استخدام متطور للأسلحة البيولوجية خلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، إذ بدأت ألمانيا برنامجاً سرياً لإصابة الخيول والماشية التي تملكها جيوش الحلفاء على الجبهتين الغربية والشرقية بفيروس يصيب الغدة، إضافة إلى محاولة ألمانية عام 1915 لنشر الطاعون في سان بطرسبورغ لإضعاف المقاومة الروسية، في حين أن استخدام هذا النوع من الأسلحة يعود في الحقيقة إلى العصور الوسطى لكن بشكل غير متطور.
وتسببت أهوال الحرب العالمية الأولى في توقيع معظم الدول على بروتوكول جنيف لعام 1925 الذي يحظر استخدام الأسلحة البيولوجية والكيماوية في الحرب. ومع ذلك، فإن اليابان، أحد الأطراف الموقعة على البروتوكول، انخرطت في برنامج أبحاث يُعرف باسم "الوحدة 731"، ويقع في منشوريا قرب مدينة بينغفان، لتطوير الأسلحة البيولوجية وإنتاجها واختبارها سرياً، وانتهكت المعاهدة عندما استخدمت هذه الأسلحة ضد قوات الحلفاء في الصين بين عامي 1937 و1945.
وخلال الحرب الكورية، اتهم الاتحاد السوفياتي والصين وكوريا الشمالية، الولايات المتحدة باستخدام عوامل الحرب البيولوجية ضد بيونغ يانغ، وفي الأعوام اللاحقة، اعترفت أميركا بأن لديها القدرة على إنتاج هذه الأسلحة، لكنها نفت استخدامها، ومع ذلك، تقوّضت مصداقية واشنطن بسبب رفضها التصديق على بروتوكول جنيف لعام 1925 والاعتراف العام ببرنامجها الخاص بالحرب البيولوجية الهجومية وبشكوك التعاون مع علماء "الوحدة 731" السابقين.
مع توقيع مزيد من دول العالم على معاهدة الأسلحة البيولوجية، قُوّض استخدام هذه الأسلحة بشكل كبير، على الرغم من استعمال التنظيمات الإرهابية لها في حادثتين خلال العقود الثلاثة الماضية، بينها تطوير الجمرة الخبيثة في مطلع الألفية الثانية من قبل تنظيم "القاعدة" في أفغانستان ونشر مرض السالمونيلا عمداً في المطاعم الأميركية في ولاية أوريغون عام 1984 من قبل أتباع الزعيم الهندي المتطرف باغوان شيري راجنيش، لكن ظل الوصول إلى مثل هذه العوامل الخطيرة مقيّداً للغاية.
ثغرات وغياب نظام تحقق
بينما ساعدت الاتفاقية في تشكيل معايير ضد الأسلحة البيولوجية، يشير مراقبون إلى وجود ثغرة فيها، وغياب "نظام تحقق رسمي لمراقبة الامتثال"، لكن الأعضاء يشاركون في تدابير بناء الثقة، على سبيل المثال، من خلال تبادل التقارير عن مراكز البحوث البيولوجية ومبادرات الدفاع البيولوجي.
ونقل موقع "بوليتان أوف ذا أتومك ساينتستس"، العلمي، عن فيليبا لينتزوس، خبيرة الأمن البيولوجي لدى كلية كينغ لندن، قولها إن المعاهدة لا تحظر مسببات الأمراض أو المعدات مثل المخمرات المستخدمة في إنتاجها.
فيما أوضح غريغ كوبلنتز، الأستاذ لدى جامعة جورج ماسون ومدير برنامج الدراسات العليا للدفاع الحيوي، أن انتهاك المعاهدة لا يأتي بالضرورة بثمن باهظ. وأشار إلى أن "المعاهدة نفسها لا تفرض أي عقوبات حقيقية، وبالنظر إلى صعوبة إثبات أن دولة ما تنتهك الاتفاقية، فإن الأمر يمثل تحدياً. كان ذلك نقطة ضعف رئيسة في نظام عدم انتشار الأسلحة البيولوجية بأكمله منذ البداية."
ولفت فريدريتش فريشكنيت، الباحث لدى معهد باستور في فرنسا، إلى أن المعاهدة فشلت إلى حد كبير في منع البلدان من إجراء الأبحاث الخاصة بالأسلحة الهجومية وإنتاج "البيولوجية" منها على نطاق واسع. وواصل عدد من الدول السعي وراء قدرات الحرب البيولوجية، بدلاً من اتباع المسار "النووي" الأكثر صعوبة وتكلفة. وإلى جانب ذلك، فإن التهديد الذي تتخذه بعض المنظمات الفردية أو الإرهابية المشبوهة بصنع أو سرقة أسلحة من هذا النوع يشكِّل مصدر قلق أمني.
وبحسب مبادرة التهديد النووي، وهي منظمة بحثية أميركية مناهضة لأسلحة الدمار الشامل، فإن هناك 17 دولة لديها أو يشتبه حالياً في وجود برامج أسلحة بيولوجية لديها وهي، تايوان وكندا والصين وكوبا وفرنسا وألمانيا وإيران والعراق وإسرائيل واليابان وليبيا وكوريا الشمالية وروسيا وجنوب أفريقيا وسوريا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وفي منتصف مارس الماضي، بعدما زعمت روسيا إدارة الولايات المتحدة برامج أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، دعا عدد من ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة إلى ضرورة إنشاء نظام للتحقق من اتفاقية الأسلحة البيولوجية، في ضوء التطورات العالمية الأخيرة. ويخشى البعض من أن الاتهامات بشأن برامج الأسلحة البيولوجية يمكن أن تضعف الثقة والمبادئ المتفق عليها، وتحظر إدارة البرامج السرية.
ويتهم الصينيون الولايات المتحدة بعرقلة تأسيس آلية تحقق متعددة الأطراف طيلة أكثر من 20 عاماً، عندما رفضت إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، مسودة بروتوكول التحقق بزعم وجود مشكلات وأخطاء جسيمة، ثم معارضتها لاحقاً استئناف المفاوضات ذات الصلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونشرت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية، الأسبوع الماضي، تقريراً يتهم واشنطن بعدم الرغبة بوجود مثل هذه الآلية لاعتبارات تتعلق بتفضيل سياساتها الداخلية على المصالح المشتركة للمجتمع الدولي، وإعادة النظر في القيمة الاستراتيجية للأسلحة البيولوجية في ظل تطور التقنيات البيولوجية، وحماية المصالح العسكرية والصناعية للولايات المتحدة وحلفائها، بحسب قول غيو شياوبينغ، زميل باحث لدى المعاهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة.
لكن الأحد الماضي، بمناسبة مرور خمسين عاماً على اتفاقية الأسلحة البيولوجية، أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الحاجة لتعزيز الاتفاقية، مشيراً إلى مقترح أميركي لإنشاء فريق خبراء جديد لدراسة التدابير الإضافية لتعزيز تنفيذ الاتفاقية وزيادة الشفافية وتعزيز ضمانات الامتثال. وقال: "بينما نتطلع إلى المؤتمر الاستعراضي التاسع (للاتفاقية) في وقت لاحق من العام الحالي، تحث الولايات المتحدة الدول الأطراف على التغلب على الخلافات واتخاذ خطوات عاجلة للحماية من تطوير واستخدام الأسلحة البيولوجية."