غالباً ما ينتقد المغاربة الأعمال الدرامية والترفيهية المقدمة خلال شهر رمضان على قنواتهم، ويأتي هذا الانتقاد الموسمي في سياق نستوعبه، إذ يتعلق الأمر برغبة جمهور متطلب في مشاهدة أعمال تتقاطع مع أفق تلقيه. غير أن الأمر هذه السنة يختلف تماماً عن السنوات السابقة. فقد أثار مسلسل "فتح الأندلس" لمخرجه محمد سامي العنزي جدلاً هائلاً لم يسبق أن رافق أي عمل درامي في تاريخ المشاهدين المغاربة. ولا يزال هذا الجدل مستمراً مع مواصلة عرض المسلسل خلال الشهر الفضيل بدلاً من أن يهدأ.
واللافت أن هذا المسلسل التاريخي، الذي تعرضه القناة المغربية الأولى وقنوات أخرى في الكويت والسعودية وقطر والإمارات وليبيا، لم ينحصر النقاش حوله داخل فضاءات التواصل الاجتماعي وصفحات الصحافة المحلية فحسب، بل امتد إلى البرلمان المغربي وانتهى في المحاكم.
تجاوزت ميزانية هذا العمل الدرامي ثلاثة ملايين دولار، وشارك فيه ممثلون من جنسيات عربية مختلفة، وأسند دور القائد طارق بن زياد إلى الممثل السوري سهيل جباعي، ودور الفاتح موسى بن نصير إلى الممثل اللبناني رفيق علي أحمد، بينما يجسد الممثل المغربي هشام بهلول دور شداد قائد جيوش طارق بن زياد، فيما يشارك الممثل الأردني عاكف نجم عبر تشخيصه دور الشيخ نصير معلم طارق بن زياد. ويحضر الممثلان الفلسطينيان محمود خليل وتيسير إدريس من خلال دوري حاكمي سبتة وطليطلة، ويجسد دور القائد الغوطي الممثل الكويتي محمد العجيمي. وقد أدى أغنية الجنريك الفنان المغربي نعمان لحلو.
انتقادات متواصلة في الأوساط المغربية
ومنذ عرض الحلقات الأولى توالت الانتقادات على المسلسل العربي، سواء تلك المتعلقة بمضمون العمل، أو بجانبه الفني والتقني. فقد غصت صفحات التواصل، ومعها جزء كبير من الصحافة المغربية، بالكثير من التدوينات والمقالات والبيانات التي رأت أن كُتاب "فتح الأندلس" ومخرجه قد طمسوا الهوية الأمازيغية لطارق بن زياد، وأخرجوه من سياقه الجغرافي والتاريخي، وسحبوا بساط الفتح والإنجاز من الغرب الإسلامي باتجاه الشام والمشرق العربي، بحيث ظهرت بلدان المغرب الكبير كما لو أنها معبر جغرافي للجيوش الأموية القادمة من المشرق بقيادة شامية، فيما تروي كتب التاريخ الدور الأساسي والحاسم للقائد الأمازيغي طارق بن زياد وجنوده المحليين.
وانطلقت صدمة المغاربة مع المشهد الذي يقدم فيه موسى بن نصير طارق بن زياد لسكان طنجة، كما لو أنه غريب عنهم، فيما هو ابن المدينة، لتتوالى أحداث بدا للمهتمين بالشأن التاريخي للبلاد، أنها جانبت الصواب. كما أن تصوير مشاهد المسلسل بين سوريا وتركيا كان سبباً وراء تغييب الجانب المعماري والحضاري لبلاد المغرب خلال تلك الحقبة، خصوصاً ما يتعلق بالأزياء والأثاث وأساليب العيش، إذ تم طمس الهوية المغربية بشكل كبير.
واللافت أن سيناريو المسلسل شارك فيه ستة كتاب من جنسيات مختلفة، ليس بينهم مغربي واحد، كما أن قصة المسلسل لم تخضع لمراجعة من لدن المؤرخين أو الدارسين لتاريخ شمال أفريقيا، خصوصاً المغاربة منهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والطريف أن انتقادات ساخرة طالت المسلسل عبر عدد من المشاهد التي حملت أخطاء معرفية وتقنية، من بينها ظهور فاكهة الأناناس في طبق قدمه حاكم سبتة لطارق بن زياد في مطلع القرن الثامن الميلادي، في حين أن هذه الفاكهة لم تصل إلى إسبانيا إلا مع منتصف القرن الخامس عشر، عقب اكتشافات كريستوف كولومبوس.
من البرلمان إلى المحكمة
تقدمت الكتلة الاشتراكية في البرلمان المغربي بمساءلة لوزير الثقافة، باعتبار وزارته هي الوصي الأول عن الشأن الثقافي والفني في البلاد. ورأت الكتلة الاشتراكية أن مسلسل "فتح الأندلس" "غيَّر الوقائع التاريخية"، إضافة إلى أنه "لا يولي أهمية للتراث المغربي، وللحقيقة التاريخية للبطل، ولا يعطي تفاصيل عن شخصية طارق بن زياد الأمازيغي". وبالتالي فهذا العمل الدرامي حسب هذا التكتل السياسي، "مليء بالمغالطات المعرفية ويحمل في كثير من حلقاته تزويراً لكل ما تتفق عليه المصادر التاريخية الموثوق بها".
وقد تلقت المحكمة الابتدائية في الرباط "مقالاً استعجالياً" ضد الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية على بثها مسلسلاً بدا للجهة الداعية أنه "لا ينسجم مع ثوابت التاريخ العريق للمغرب"، وأن "أحداثه تنشر مضامين تحتوي على مغالطات تاريخية مسيئة للبديهيات التاريخية والجغرافية للمغرب، ومخالفة بذلك ما أجمعت عليه أغلب المصادر التاريخية العلمية". وبعد النظر في الدعوى المرفوعة إليها قررت المحكمة الابتدائية في الرباط تأجيل الحكم إلى الجلسة المقبلة في 20 من الشهر الحالي، مما يجعل المسلسل معرضاً لوقف البث في الأقل على القناة المغربية.
وكان الناقد المغربي عبد الإله الجوهري قد انتقد المستوى الفني للمسلسل العربي، معتبراً أن شخصيات هذا العمل لا علاقة لها بالتاريخ والواقع، وأن العمل برمته "مهلهل وبلا هوية فنية وتاريخية". لكنه بالمقابل، يرفض محاكمة العمل الدرامي قضائياً، بدل محاكمته فنياً. لذلك كتب على صفحته ينتقد مسألة رفع دعوى قضائية من أجل وقف بث المسلسل، معتبراً أن مسألة اللجوء إلى القضاء ضد عمل درامي "تعكس جهلاً قاتلاً". فالإبداع الفني بالنسبة إليه قائم على مبدأ الحرية، وبالتالي "قد نتناقش حول عمل ما، ونرفضه جملة وتفصيلاً لاعتبار من الاعتبارات، لكن لا يعني ذلك الدعوة إلى منعه والحجر عليه، لأن أصل الفن وجوهره يتلخصان في الحرية، والوسيلة الوحيدة للجواب والتعبير عن رفضه هي إبداع عمل آخر يصحح الحقائق التي شوهت ويجيب عن الأسئلة والفراغات التي ظلت معلقة".