منذ أكثر من عامين، يعيش العراق أزمات اقتصادية مركبة نتيجة أزمة تفشي فيروس كورونا، فضلاً عن التراكم في الإخفاقات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة التي اعتمدت بشكل شبه كامل على النفط كمصدر وحيد للموازنة العامة للبلاد، ودفعت الإشكالات الاقتصادية تلك حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى اتخاذ جملة إجراءات قالت في حينها، إنها تهدف إلى تصحيح الاختلال في الاقتصاد العراقي وتنويع المصادر، وعلى رأسها "الورقة البيضاء" الاقتصادية التي تم إطلاقها في أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
وتضمنت إجراءات الحكومة العراقية تخفيضاً للعملة المحلية مقابل الدولار الأميركي، وتحدث صناع القرار الاقتصادي في حكومة الكاظمي بشكل مستمر عن أن الغاية من تخفيض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار تتعلق بمحاولات تحفيز الصناعة والزراعة المحليتين وتقليل الاعتماد على الاستيرادات، وعلى الرغم من ذلك، وخلال الأسابيع القليلة الماضية، قامت الحكومة العراقية بفتح باب الاستيراد مرة أخرى، تحت ذريعة غلاء الأسعار في الداخل العراقي، الأمر الذي اعتبره مراقبون ومختصون بالاقتصاد بأنه ضرب للورقة البيضاء، ما أدى إلى خسائر كبيرة لدى العديد من المنتجين المحليين.
في المقابل، يشير مراقبون إلى بعد سياسي يتعلق بمحاولات الكاظمي كسب ود طهران من خلال فتح المنافذ الحدودية معها للحصول على ولاية ثانية، في وقت يبرر رئيس الحكومة تلك الإجراءات بأنها تأتي لمواجهة موجة الغلاء.
خلافات داخل مجلس الوزراء
وأدت تلك القرارات إلى خلافات شديدة داخل مجلس الوزراء العراقي، الأمر الذي دفع وزير الزراعة محمد مهدي الخفاجي إلى الحديث بشكل صريح عن وجود خلافات حول فتح استيراد 52 مادة زراعية محظورة الاستيراد أدت إلى "القطيعة بينه وبين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي". وقال الوزير في حوار متلفز، في السابع من أبريل (نيسان)، "تقدمت بطلب وزاري عاجل لمجلس الوزراء لمنع تداول 52 مادة زراعية في الأسواق العراقية"، مبيناً أن المواد الممنوعة تتضمن "بيض المائدة والتمور والدجاج والعسل والبصل والأسماك، وعدم السماح بحركة نقل حمولات هذه المواد من إقليم كردستان إلى المحافظات".
في المقابل، قال رئيس الوزراء العراقي في بيان، "اتخذنا قبل شهر رمضان قرارات في صالح المواطنين ومواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي شهدتها كل دول العالم بسبب الحرب الروسية- الأوكرانية، والحكومة تحملت مسؤولية اتخاذ قرارات صعبة من أجل حماية المواطن والحفاظ على الأسعار". وأضاف الكاظمي، "اتخذنا مجموعة قرارات لمواجهة أزمة ارتفاع الأسعار العالمية منها فتح الاستيراد، وهذا القرار صدر عن مجلس الوزراء، وملزم تطبيقه من قبل الوزارات المختصة والابتعاد عن الاجتهادات الشخصية على حساب المواطنين". ووجه الكاظمي الأجهزة الأمنية، بـ "الاستمرار بمراقبة التجار ومن يستغلون الأزمات للاعتياش على حساب قوت المواطنين، وعدم السماح لهم بالتلاعب بالأسعار، ومحاسبتهم بشدة، وعلى المواطنين إبلاغ الأجهزة الأمنية عن المتلاعبين بالأسعار".
قتل الإنتاج الوطني
لطالما تحدثت حكومة الكاظمي عن أن غاية "الإصلاح الاقتصادي" هي تنويع مصادر الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، في وقت شنت الحكومة أكثر من حملة على المنافذ الحدودية خلال السنتين الأخيرتين، في محاولة للتقليل من عمليات التهريب التي تتهم فيها جماعات مسلحة موالية لإيران، ويرى خبراء اقتصاديون أن عملية إعادة فتح الاستيراد مثلت "ضربة مباشرة" لـ "الورقة البيضاء" التي عمل على ترويجها الفريق الاقتصادي لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
واعتبر المدير العام السابق للعمليات المالية في البنك المركزي العراقي محمود داغر أن "إشكالية المنافذ الحدودية والرسوم الجمركية تمثل العقبة الكبرى إزاء أي تقدم صناعي أو زراعي محلي في العراق"، واصفاً تلك الإشكالات بأنها تمثّل "القاتل لقيام إنتاج وطني في العراق"، وأضاف أن "الجدار الجمركي يجب أن يمارس من خلال الرسوم الجمركية دوراً في تأمين رافعة محفزة لقيام صناعة وزراعة محليتين، إلا أنه في العراق يعمل كمثبط للإنتاج المحلي"، وتابع داغر أن "غياب تلك الإجراءات يعني عدم وجود أمل في قيام إنتاج محلي كما ادعت الورقة البيضاء التي اقترحت تخفيض قيمة العملة المحلية"، مبيناً أنه "لا بدّ من متطلبات مسبقة تؤمن نجاح أي تخفيض في قيمة العملة لخلق دينار تنافسي وصناعة وزراعة تنافسيتين".
ويبدو أن معضلة الجمارك في العراق هي المعرقل الرئيس لـ "قيام أي نشاط محلي قادر على تعويض الاستيرادات أو تحفيز المستثمرين المحليين والأجانب على إقامة استثمارات صناعية وزراعية في البلاد"، بحسب داغر الذي أشار إلى أن "الأوامر المتقلبة بين رئاسة الوزراء ووزارة الزراعة والمنافذ الحدودية لا تصلح لعمل منظم يسعى لبناء صناعة وزراعة وطنيتين"، خاتماّ أنه "في ظل وجود منافذ غير شرعية، وأكثر من جدار جمركي ينخرها الفساد بشكل كبير، لن تحلّ معضلة الصناعة والزراعة الوطنية"، مبيناً أن السبب الرئيس في هذا التدهور الاقتصادي هو "غياب الإرادة الوطنية بسبب المصالح السياسية".
خسائر كبيرة للاستثمارات العراقية
ويشكو العديد من المستثمرين العراقيين، خلال الشهرين الماضيين، من خسائر كبيرة تسببت في إغلاق العديد من المشاريع الاستثمارية الزراعية، ويقول أحد المستثمرين الزراعيين، الذي يمتلك حقولاً لإنتاج بيض المائدة، إن فتح الاستيرادات بشكل عشوائي أدى إلى تعرضنا لخسائر طائلة خلال الشهرين الأخيرين وصلت إلى حد إغلاق العديد من المستثمرين أعمالهم بشكل نهائي، ويضيف المستثمر الذي رفض الكشف عن هويته أن "حجة الحكومة في فتح الاستيرادات ترتبط بتأمين السلع الاستراتيجية لمواجهة الغلاء، إلا أنها فتحت استيراد المنتجات الزراعية اليومية ما أدى إلى ضرب المنتج الوطني وتحميله خسائر كبيرة ربما لا يمكن تعويضها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبشأن حجم الخسائر، أشار إلى أن خسائره وصلت إلى آلاف الدولارات يومياً نتيجة إدخال البيض المستورد من إيران بأسعار أدنى من المنتج المحلي، فضلاً عن اضطرار عدد آخر من المنتجين إلى بيع مشاريعهم بخسائر كبيرة وصلت إلى ملايين الدولارات، واستغرب الإجراءات الأخيرة في ما يتعلق بفتح الاستيراد، قائلاً إن "المستثمرين العراقيين باتوا يعتقدون أن القائمين على الشأن الاقتصادي في البلاد يعملون لتحفيز الصناعة والزراعة الإيرانية على حساب المنتج المحلي"، مشيراً إلى أن استمرار فتح الاستيراد بشكل غير منضبط "سيدفع أصحاب الاستثمارات الزراعية إلى إيقاف استثماراتهم بشكل نهائي، وسيدفع المستثمرين المحليين والأجانب إلى إعادة النظر بإمكان إنشاء مشاريع إنتاجية في العراق مستقبلاً، وختم أن ما حفز المستثمرين على إنشاء مشاريع زراعية وصناعية في العراق خلال السنة الأخيرة هي "تعهدات حكومة الكاظمي من خلال الورقة البيضاء بتحفيز ودعم المنتج المحلي، وهو ما تم دحضه بالكامل خلال الفترة الأخيرة من خلال دعم المنتجات الإيرانية على حساب المنتج المحلي".
ضغوط إيرانية
ويبدو أن ما دفع الحكومة العراقية إلى فتح باب الاستيراد بهذه الطريقة هو وجود اتجاه داخل مجلس الوزراء يستند إلى آراء خبراء يقولون إن العالم مقبل على ارتفاع غير مسبوق في الأسعار نتيجة الحرب الروسية- الأوكرانية، وأن العراق سيكون أحد المتضررين إذا لم يسارع إلى تأمين خزين من السلع الاستراتيجية.
ورأى الكاتب والصحافي محمد عزيز أن رؤية مجلس الوزراء ربما تكون دقيقة في ما لو قامت الحكومة باستيراد السلع التي يمكن تخزينها لفترات طويلة، إلا أن "الاستيراد من إيران حالياً لا يتعلق بتلك المنتجات الاستراتيجية ويرتبط معظمه بالمنتجات الزراعية اليومية"، وأشار إلى أن "فتح الاستيراد جرى تحت ضغط إيراني كبير، ويجب التفريق بين المطالبات المتعلقة بفتح الاستيراد، والمطالبات الأخرى بفتح منفذ الشلامجة مع إيران وإدخال رتل لم يتم التعرف إلى محتوى المواد الداخلة فيه"، ولفت عزيز إلى أن "الكاظمي لا يريد مواجهة الغضب الشعبي في ما يتعلق بغلاء الأسعار، لكنه في المقابل لا يفضل المواجهة مع فصائل مسلحة تمثّل المسبب الرئيس لموجة الغلاء من خلال فرض إتاوات على التجار المحليين"، وقال إن "أداء الكاظمي خلال الأشهر القليلة الماضية يعطي انطباعاً بأنه يسعى إلى ولاية ثانية، وهو الأمر الذي تحدث عنه بشكل واضح في صحيفة واشنطن بوست"، مبيناً أنه "مستعد لتقديم تنازلات كثيرة تحديداً للجانب القريب من إيران للحصول على تلك الولاية".
أزمة الاستيراد مسار لرئاسة الوزراء المقبلة
ويرى مراقبون أن قضية فتح باب الاستيراد لا تتعلق فقط بمحاولات تجاوز غلاء الأسعار لكنها تقترب من مساعٍ سياسية يحاول من خلالها رئيس الوزراء كسب ود حلفاء طهران مقابل دعمه في الحصول على ولاية ثانية، وقال رئيس المركز العراقي الأسترالي للأبحاث أحمد الياسري إن حكومة الكاظمي ضربت "الورقة البيضاء" من خلال الإجراءات الأخيرة وتحديداً ما جرى من فتح منفذ الشلامجة مع إيران في محاولة "لكسب ود طهران بالتزامن مع الخلافات الشديدة بين الكتل السياسية حول الحكومة المقبلة، وأشار الياسري إلى أن ما مكّن الكاظمي من اتخاذ إجراءات كهذه "ارتفاع أسعار النفط عالمياً ما أدى إلى حال من الاسترخاء المالي الذي تعيشه خزينة الدولة العراقية"، وتابع أن "الكاظمي أدرك أن ذهاب مقتدى الصدر لمشروع الغالبية ينهي إمكان إعادة تكليفه بولاية ثانية، وهذا الأمر هو الذي دفعه إلى إرسال رسالة طمأنة للجانب الإيراني بأن يكون متماهياً مع مشاريعها في العراق مقابل ضمان دورة ثانية له".
ولا يعود تماهي الكاظمي مع موالي إيران إلى حدث فتح المنافذ أمام البضائع الإيرانية وحسب، كما يعتبر الياسري، بل يعود إلى "عدم اتخاذه موقفاً حقيقياً إزاء القصف الإيراني لمدينة أربيل، فضلاً عن تدخله في التفاعلات السياسية الأخيرة التي عطلت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية من خلال علاقته مع بعض المستقلين الذين اتجهوا نحو الإطار التنسيقي".
وكانت مقاطع فيديو قد أظهرت نواباً في البرلمان العراقي عن محافظة البصرة ضمن أحزاب موالية لإيران، يتوسطون مقتحمي منفذ الشلامجة الحدودي مع إيران، في وقت ظهر القيادي في "الحشد الشعبي"، أبو تراب التميمي، في مقطع فيديو أشار فيه إلى أن غلق المنافذ الحدودية يمثل "استهدافاً لمحافظات ومناطق الجنوب والوسط، التي ضحت من أجل العراق".
ويرى مراقبون أن ظهور الكاظمي مع قادة الميليشيات بعد أيام على اقتحام منفذ الشلامجة من قبل متظاهرين يتوسطهم نواب ضمن الكتل القريبة من إيران، يمثل تماهياً منه مع الجماعات الموالية لإيران ضمن مساعيه كسب ود طهران، وعلى الرغم من تلك المساعي، يعتقد الياسري أن "طهران لم تعد تؤمن بإمكان أن يمثل الكاظمي جزءاً من التسوية، خصوصاً أن استراتيجيتها في الفترة الأخيرة باتت تعتمد على الشخصيات ذات المنطلقات الأيديولوجية القريبة منها". ويلفت الياسري إلى أن ما دفع الكاظمي إلى فتح الاستيراد بهذا الشكل، وتحديداً مع إيران، هو استغلاله "تراخي إدارة جو بايدن مع الملف الإيراني وتنازل واشنطن عن سياسة أقصى الضغوط التي مارستها إدارة دونالد ترمب على الإدارة الإيرانية"، مبيناً أن ما يجري ربما "يمثل رسالة من إدارة بايدن من خلال العراق لرفع الضغط عن إيران".