تثير الحرب الروسية الأوكرانية مخاطر تهدد الاستقرار المالي في العالم، وتطرح تساؤلات حول تأثيرها الأطول مدى في الاقتصادات والأسواق. فاندلاع الحرب، وسط أجواء تشهد بالفعل بطء التعافي من الجائحة، يمثل اختباراً لصلابة الأسواق المالية ويفرض تهديدات على الاستقرار المالي، وهو أبرز ما خرج به تقرير "الاستقرار المالي العالمي"، الذي صدر على هامش "اجتماعات الربيع" 2022 لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، المنعقدة من 18 إلى 24 أبريل (نيسان) 2022.
ويشارك في "اجتماعات الربيع" مجالس محافظي مجموعة البنك الدولي، ومحافظو البنوك المركزية، ووزراء المالية والتنمية، وكبار المسؤولين من القطاع الخاص، وممثلون عن منظمات المجتمع المدني، وأكاديميون، لمناقشة القضايا موضع الاهتمام العالمي، ومنها الآفاق الاقتصادية العالمية واستئصال الفقر والتنمية الاقتصادية وفاعلية المعونات.
وقال توبياس أدريان، مدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد، المسؤول عن وضع التقرير، إن أوكرانيا وروسيا تواجهان أشد المخاطر إلحاحاً. ومع هذا، من الواضح أن حدة الاضطرابات في أسواق السلع الأولية والانقطاعات في سلاسل الإمداد، تولّدان مخاطر التطورات السلبية من خلال تأثيرها السلبي في الاستقرار المالي الكلي والتضخم والاقتصاد العالمي.
ومنذ بداية العام، ضاقت الأوضاع المالية بشكل كبير في معظم أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا الشرقية، وسط تصاعد التضخم، في حين أدّت التوقعات بارتفاع أسعار الفائدة إلى تشديد الأوضاع بشكل ملموس في الاقتصادات المتقدمة خلال الأسابيع التي أعقبت حرب أوكرانيا. وحتى مع ذلك التشديد، تظل الأوضاع المالية قريبة من متوسطاتها التاريخية، كما لا تزال أسعار الفائدة الحقيقية تيسيرية في معظم البلدان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ضيق الأوضاع المالية
تقرير الصندوق حذر من إمكانية أن يتسبب الواقع الجغرافي– السياسي الجديد في تعقيد عمل البنوك المركزية، التي واجهت بالفعل عملية توازن دقيق في ظل الارتفاع المزمن في معدلات التضخم. ودعا البنوك المركزية إلى ضرورة خفض معدلات التضخم وإعادته إلى مستواه المستهدف، مع مراعاة أن التشديد المفرط للأوضاع المالية العالمية يضر بالنمو الاقتصادي. وعلى هذه الخلفية، وفي ضوء تصاعد المخاطر على الاستقرار المالي، فإن أية إعادة تقييم وإعادة تسعير مفاجئة للمخاطر نتيجة اشتداد حدة الحرب في أوكرانيا، أو لتصاعد العقوبات على روسيا، قد تكشفان النقاب عن بعض مواطن الضعف التي تراكمت أثناء الجائحة (طفرة أسعار المساكن والتقييمات المُغالى فيها)، ما يؤدي إلى تراجع حاد في أسعار الأصول.
وقال التقرير إن تداعيات الحرب وما تلاها من عقوبات لا تزال تتسبب في حدوث اهتزازات، محذراً من أن تصبح صلابة النظام المالي العالمي موضع اختبار من خلال مجموعة متنوعة من القنوات المحتملة لتضخيم الآثار. وتتضمن هذه القنوات، بحسب الصندوق، تعرّض المؤسسات المالية لمخاطر الانكشاف للأصول الروسية والأوكرانية وسيولة السوق وضغوط التمويل وتسارع وتيرة اعتماد العملات المشفرة – أي أن يختار المقيمون استخدام الأصول المشفرة بدلاً من العملة المحلية – في الأسواق الصاعدة.
انتقال آثار الصدمة
تتحمل أوروبا مخاطر أعلى من المناطق الأخرى بسبب قربها الجغرافي من المناطق التي تدور فيها الحرب، واعتمادها على روسيا في توفير حاجاتها من الطاقة، وانكشاف بعض البنوك وغيرها من المؤسسات المالية بدرجة غير قليلة للأصول والأسواق المالية الروسية. علاوة على ذلك، فقد يفرض التقلب الحالي في أسعار السلع الأولية ضغوطاً حادة على تمويل السلع الأولية وأسواق المشتقات، ويمكن أن يسبب مزيداً من الانقطاعات، مثل التقلبات الشديدة التي أوقفت بعض عمليات تجارة النيكل، الشهر الماضي. وإمكانية ظهور هذه النوبات، وسط تصاعد أجواء عدم اليقين الجغرافي– السياسي، يمكن أن تؤثر في أوضاع السيولة والتمويل.
وحذر التقرير من مواجهة الاقتصادات الصاعدة والواعدة مخاطر أعلى من خروج التدفقات الرأسمالية، وإن كانت هناك تفاوتات عبر البلدان بين المستوردة للسلع الأولية والمصدرة لها. وقال التقرير إنه وسط أجواء عدم اليقين الجغرافي– السياسي، ستزداد على الأرجح مخاطر هروب رؤوس الأموال في ظل الأثر المتبادل لضيق الأوضاع المالية الخارجية وعودة سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي العادية، مع تطبيق أول زيادة لأسعار الفائدة في مارس (آذار) وتوقع سحب الدعم للموازنات العمومية في وقت أسرع.
تدفقات الأموال للأسواق الصاعدة
وقال الصندوق إنه عقب الحرب، ارتفع عدد مصدري السندات السيادية في الأسواق الواعدة، الذين تُتداول سنداتهم بأسعار بخسة (أي أن الفروق كانت أعلى من ألف نقطة أساس) إلى ما يزيد على 20 في المئة من المُصدِرين، متجاوزاً بذلك مستويات ذروة الجائحة. وفي حين كان هذا الأمر مثيراً للقلق، كان تأثيره محدوداً في المخاوف النظامية، لأن أولئك المُصدِرين يسهمون بنسبة منخفضة نسبياً من مجموع الديون القائمة حتى هذا التاريخ.
وحث الصندوق على ضرورة أن تتخذ البنوك المركزية إجراء حاسماً في الأجل القصير لمنع ترسخ التضخم وإبقاء توقعات ارتفاع الأسعار مستقبلاً قيد السيطرة. وقال إنه قد تكون هناك حاجة لارتفاع أسعار الفائدة إلى مستويات التسعير الحالية في الأسواق، لإعادة التضخم إلى مستواه المستهدف في الوقت المناسب. وقد يتطلب ذلك، على حد قوله، دفع أسعار الفائدة إلى مستوى أعلى بكثير من مستواها المحايد. وفي حالة البنوك المركزية للاقتصادات المتقدمة، يشكل التواصل الواضح أهمية حيوية لتجنب تقلب الأسواق المالية من دون داعٍ، من خلال تقديم إرشادات واضحة حول عملية التشديد مع مواصلة الاعتماد على البيانات.
وأشار تقرير الصندوق إلى قيام كثير من البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة بتشديد السياسة إلى حد كبير بالفعل، داعياً إلى ضرورة تواصل العمل في هذا الاتجاه، بحسب ظروف كل دولة على حدة، لتحافظ على مصداقيتها في مكافحة التضخم وتثبيت التوقعات التضخمية.