قال فرانز كافكا مرة: "الكتابة شكل من أشكال الصلاة"، كما لو أنها تحتاج نوعاً خاصاً من الخشوع والإيمان. ومرة قال هاروكي موراكامي: "الكتابة بالنسبة إليّ عملية مؤلمة"، وفي هذا الاعتراف ما يوحي بأن الكتابة ليست بمتعة سهلة المنال. ثمة التزام نفسي وفكري والكثير من حبال الجدّية التي تربط الكاتب بعالمه. نستحضر هذا الأمر ونحن ندنو من التجربة الأدبية والنقدية للكاتب المغربي أحمد المديني (مواليد 1947). فمن يقرأ مؤلفاته سواء السردية أو التنظيرية يدرك ذلك العناء الذي يعيشه الكاتب وهو يعمل بجدّ وبعمق على تشكيل هذه النصوص، وذلك العناء الموازي الذي يقود إليه القارئ.
يرى المديني أن الكتابة الجيدة لا تتحقق من الموهبة فحسب، بل من ضرورة إضافية هي التي توجّه هذه الموهبة وتعمّقها وتصقلها، ويتعلق الأمر لديه بالخبرة الأدبية والمرجعية المعرفية الشاسعة والإحاطة بمنابع الكتابة ومصابّها.
الشهرة السريعة
يأخذ المديني على الروائيين العرب الجدد تسرعهم ورغبتهم الملحة في شهرة سريعة، ويرى أن الكثير من الروائيين في العالم العربي لم يستوعبوا المفاهيم والتنظيرات المرتبطة بتيار الرواية الجديدة، لذلك أنتجوا نصوصاً لم تستطع أن تترجم تطلعات الرواد الغربيين لهذا التيار.
عكف المديني على البحث المعمق في الرواية الجديدة، والتقى في أكثر من مناسبة بالروائي الفرنسي ألان روب غرييه المنظر الأكبر لهذه المدرسة الأدبية التي غيرت معالم الكتابة السردية في العالم، وأجرى معه حواراً مطولاً نشره في أحد كتبه.
يعتبر أحمد المديني أحد أغزر الكتّاب المغاربة تأليفاً، وأكثرهم حضوراً في الحياة الثقافية. بعد حصوله على الماجستير في الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة فاس التحق بجامعة السوربون حيث حصل على شهادة الدكتوراه واشتغل بالتعليم العالي وأصدر العديد من الأعمال الأدبية والنقدية في عدد من الحقول: القصة والرواية والنقد والسيرة وأدب الرحلة والشعر أيضاً. فاز بجائزة المغرب للكتاب مرتين، الأولى في النقد والثانية في السرد، وحصل قبل أربع سنوات على جائزة محمد زفزاف للرواية العربية، كما وصلت روايتاه "ممر الصفصاف" إلى اللائحة القصيرة للبوكر العربية، و"نصيبي من باريس" إلى اللائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، فضلاً عن نيله جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في دورة 2020 عن كتابه "مغربي في فلسطين".
حاولنا في "اندبندنت عربية" أن نفتح معه النقاش، وهو الكاتب الإشكالي، عن راهن الرواية العربية، عن أصالتها وتوجهاتها وتأثير الجوائز الجديدة فيها، عما يسميه الكاتب "الفساد الثقافي" و"انجراف التربة السردية".
بدأنا مع أحمد المديني من كتابه الصادر حديثاً "كي نفهم الرواية الجديدة"، وسألناه لماذا يرى في هذا الكتاب أن الروائيين العرب لم يستوعبوا جيداً مفهوم الرواية الجديدة. أخبرنا المديني بأن كتابه هذا يدرس ويشرح ظاهرة "الرواية الجديدة" وهي مدرسة سردية نشأت في باريس بدءاً من مطلع الخمسينيات، وعُدّ ألان روب غريي رائدها وباسمها وضع كتابه الشهير الذي حمل اسمه: "نحو رواية جديدة" عن دار مينوي، وهي دار النشر التي نجح غرييه في أن يضم حولها جماعة من الروائيين منهم نتالي ساروت، كلود سيمون، مشيل بوتور. وقد أوجد هؤلاء الروائيون مشارب وروافد مختلفة تصب في صياغة وتصور روائيَيْن يقطعان مع تراث الواقعية البلزاكية والنزعة السيكولوجية وكل إسقاط ذاتوي، مع التركيز على الشيء، وضعاً ووجوداً بإشباع وصفي تعييني ونابذ للإيحاء.
يضيف المديني: "نجد لهذه الطريقة جذوراً عند فلوبير، الذي تحدث عن كتابة بيضاء ونص يكتب عن لا شيء. وبناء على التحول الروائي الفرنسي الجديد بنى رولان بارت تحليلاته للبنيوية السردية ومفهوم الدرجة الصفر للكتابة". يخلص المديني إلى أن مدرسة الرواية الجديدة ومفهومها ينتميان إلى تاريخ وسياق أدبيين غربيين مستقلين عنا، و"هي مرحلة من تحولات مسترسلة في الرواية الفرنسية، وهي متراكمة وتتوارث من جيل لآخر. ولا يوجد روائي واحد يكتب سرداً من وحي عبقريته قبل كل شيء. لقد تشرّب وتمثل جملة وطرائق وتخييل السلف قبل أن يصل إلى رؤية زمانه وطريقة سرد يعلن أنها جديدة. وللعلم تأتي في محيط كله منخرط في حركة تغيير فكرية وفلسفية وأيديولوجية شاملة".
يصل الكاتب المغربي إلى الخلاصة التالية: "لذلك، لم يفهم الروائيون العرب، دعك من الاستيعاب، هذه المدرسة، فالسياق مختلف، والجديد هنا ليس هو هناك. وما بالك بأن النماذج الروائية الأمهات لها غير مترجمة إلى الآن ومحققة كما ينبغي. وُجد تأثرٌ واستيحاءٌ جزئيان فقط عند روائيين محدودين، وهذا بعض إشكالية الرواية العربية في علاقتها المضطربة واللاتاريخية بالرواية الغربية، بل هي علاقة الثقافة العربية الحديثة كلها بما هو سابق عليها".
روايتنا الجديدة هجينة وبلا جمهور
أحيانا يحسّ القارئ أن الروائي العربي الجديد صار مشغولاً ببعض الألاعيب السردية على حساب الكتابة. سألت أحمد المديني إن كان هذا الأمر يدخل في سياق سوء فهم للرواية الجديدة. غير أنّه رفض أن يكون الجواب بالإيجاب القاطع، فالرواية بالنسبة إليه فن، و"الفن صنعة، والصنعة لعب، لعب جدي، أي بقواعد، لا مناص منها لكي يشترك معك آخرون فيها وتحصل المتعة المرجوة عند متفرج أو مُتلقٍّ يتابع اللعب على هَدْي قواعد. لذلك الكتابة هي أولاً فن صنعة ولعب بنظام. لا شيء يمنع بعد ذلك أن تظهر مهارتك بل ينبغي بحسب موهبتك، ومقدرتك التي تتأتى من الثقافة والخبرة، من معرفة الإنسان وتجربة الحياة برُمّتها، أن تُطورَ اللعبَ وتمهَر فيه لغاية إنجاح اللعب فلا يصبح غاية، هل ترى لاعباً يرقص أمام المرمى ولا يسدد بدقة ليسجل الإصابة. هذه هي ورطة من تسميه "الروائي العربي الجديد" وهي عندي تسمية لا تستقيم، هجينة، لأن المتن الذي تكوّن لديه ومنه لمّا يستقر بعد، أغلبه متنافر، وتجريبيته أقرب إلى التمارين، حذلقاتٌ وانزياحات متفرقة لا تجمعها رؤية سوسيو تاريخية وثقافية منسجمة لعصرها ومجتمعها كي تتحدد نسقاً ويمكن في تاريخ الأدب أن نقرأها بنظرية ومفاهيم من صلبه وليس بالاعتماد على أدوات ومصطلحات كلها مجلوبة من أنساق ونصوص من خارجه".
يستطرد صاحب "السرد بين الكتابة والأهواء" في السياق ذاته: "إن هذا "الروائي العربي الجديد" كما تسميه، وعلى رغم أوهام وتنطع البعض، طريُّ العود، هشٌّ، هو في طور البحث عن أساليب وطرائق وأخيلة ولغة تناسب ما يعتبره أحاسيس مختلفة وغضباً وإرادة للتمرد على أنماط حكم وعيش. نعم، إن الطموح كبير وكوابحه أكبر. وهي تجربة مارستُها منذ مطلع السبعينيات في بيئة أدبية موزعة بين المحافظة والدعوة إلى الالتزام الصارم بالواقع الاجتماعي ومساحة الحرية الفردية والإبداع الحر فيها شبه منعدمة. وعلى رغم ذلك واصلت مع أقران قلة لفرض تجريبية خلاّقة ترُسي طرائق وتشق أنهُجاً استباقية من وحي مشاعرنا وأحلامنا ووعينا، وهي تتعلم وتتفاعل بانتباه مع أمهات النصوص المجددة في الرواية بالعالم في لغاتها الأصلية، لا مترجمة مشوّهة، وتنزع لصياغة نصوص مغايرة متنوعة بنت زمانها وثقافة عصرها وصراعات مجتمعها وإحساس كتابها. نعم ميزتُها التنوع والاختلافُ عن أساليب ورؤى سبقتها وليس ادعاء التجاوز الأرعن، فلا تجاوز في الأدب بل ثمة امتداد وتعلُم وتلقيح، هي جزر متباعدة كثير منها يسبح في مياه ضحلة، وأمامها مسافات لكي يصبح التجديد ديدنها لا صرعة فيها، وألاعيب سردية ومعميات وإنشائيات لزجة".
يعمق المديني فكرته على النحو التالي: "أحسب أن الرواية/ الروايات الجديدة في حاجة إلى مجتمع جديد أيضاً، بينما نحن نراوح مكاننا إن لم نكن حضارياً إلى نكوص، لذلك معشر الأدباء والمفكرين العرب المجددين والمستنيرين دونكيخوتيون يحاربون على طريقتهم طواحين الهواء. إن الجديد ومنه التجديد منظومة متشابكة الأطراف متكاملة، لا يمكن عزل أطرافها والانتقاء في وجوهها، لذلك روايتنا الجديدة هجينة وغريبة وبلا جمهور تقريباً".
روايات طويلة بتاريخ قصير
إن تاريخ الرواية العربية قصير جداً قياساً مع أوروبا مثلاً. لذلك سألنا الروائي والناقد المغربي إن كان هذا العامل التاريخي قد ساهم في مستوى نضج الرواية العربية، فأجاب: "بالتأكيد، إنه قصير جداً ومحدود متنُه وأنواعُه ومساراته الفنية وتياراته وكتابه. الرواية الغربية في الحد الأدنى كجنس أدبي بخصائصه الفنية ومعاييره البانية له موجودة منذ القرن الثامن عشر، واشتد عودها وتأصلت في القرن التاسع عشر ضمن رؤية واقعية شاملة ما لبثت أن تفرعت منها مدارس وتنوعت معالجات، وهذا، بالطبع، ضمن التحول الكبير للمجتمعات الغربية في خضم الثورة الصناعية والحركات التجارية والتوسع الخارجي، وما سبق هذا ورافقه من حركات تنويرية وثقافية وأيديولوجية، بمعنى أن الرواية لم تنهض معزولة عن التغيرات الجذرية الخطيرة لمحيطها، بل هي الجنس الأدبي الملائم لها، هي بعبارة لوكاتش ملحمة الزمن الحديث".
وبعد هذا التناول النظري يتساءل المديني: "أيّ تراث ضخم هذا الذي تملكه الرواية الآن في العالم، إذا اعتمدنا القارات الأوروبية والأنغلو سكسونية والآسيوية، أضف إليها الأميركية الجنوبية التي أغنت هذا الفن بشكل مذهل وأضحت مدرسة فيه؟ ما روايتنا ونحن إزاء هذا التراث، والحاضر نفسه إذا كانت باريس وحدها تطرح سنوياً في مطلع كل موسم أدبي خمسمئة رواية؟ ما روايتنا ونحن الذين تمحّل مؤرخو أدبنا العربي ونقاده فشرعنوا "زينب" (1913) لمحمد حسن هيكل بداية للرواية العربية؟ هو الذي نعتها في الغلاف تحفظاً بـ"مناظر وأخلاق ريفية"، اقتباساً من فلوبير الذي جنس روايته "مدام بوفاري" (1857) بـ"عادات بروفنسية" وهذا لا يشير إليه المصريون(!). بينما لا تعدو كونها لوحات عن الريف مع قصة غرامية ساذجة يسمونها "رومانسية" تظهر بعض الطباع والأوضاع"، فيما الرواية المعتمدة في أدبنا ظهرت تباشيرها –بحسب المديني- مع جورجي زيدان في سيره التاريخية الغرامية، وتشخصت ملامحها بجد مع نجيب محفوظ. ومذ ذاك التاريخ إلى يومنا هذا، لا يزيد تاريخ الرواية العربية عن سبعة عقود، وفي أدبنا المغربي عن خمسة بأعمال مبعثرة ومتفرقة ومتفاوتة القيمة "على رغم أننا نحن في المغرب أيضاً ركبنا هوى ريادة بلا أساس فاعتبرنا نص "الزاوية" للتهامي الوزاني في نهاية الأربعينيات مؤسساً لروايتنا، بينما لا يعدو سيرة فقيه صوفي في مناكب مدينة تطوان وأحواله الشخصية".
يخلص صاحب "أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر" إلى أن الرواية العربية، "وقد غدت راهناً عديد تجارب وذات تراث نسبي ومحددات وكتاب/كاتبات تكاثروا كالفطرـ ولكن بعدد قليل من الروائيين الأعلام، أصحاب الرواية المشروع، لا تزال فتية، ويُعوِزها كي تنضج ثمارها مجتمع روائي، ومن لم يقتنع ليقرأ الخليط الذي تخرجه المطابع بلا حساب الفن منه براء".
روايات عاطفية أو أيديولوجية أو مغرقة في التجريب
امتداداً لحديث الروائي والناقد المغربي سألناه عن نظرته إلى الرواية الراهنة في العالم العربي، وأردنا أن نعرف منه إن كنا فعلاً أمام تحوّل أدبي أم أن ما نعيشه هو فقط وفرة في الكتابة. فبدا له أنه من غير المناسب الحديث عن الرواية العربية بإطلاق وتحت تسمية موحدة، لأنها روايات بين مواهب وأقطار وبيئات وأقلام رائدة وأخرى شاردة، تتوزع إلى عديد اهتمامات وطرائق كتابية. يسترسل المديني في تفصيل فكرته: "إذا كانت بداياتها ونصوص تطورها وتمدّدها ورؤيتها العامة هي الواقعية وفنيتُها جاءت محكومةً عموماً بقواعدِ تَشكّلِ وبناءِ هذا الجنس الأدبي، فإنها وابتداءً من التسعينيات اعتراها تحولٌ كيفي ورؤيوي جذري قطع مع الواقعية محدداً مركزياً، ووسمَها بالاستغراق السيكولوجي وتغليب الاستيهام وتنسيب مفهوم الواقع وقلب العلائق بين الفرد ومحيطه، ونقل حمولة المضمون ونوع الدلالة من الاجتماعي والملتزم كما جسدته حيوات الطبقة الوسطى، وهي شخصيات هذه الرواية بعوالمها وهمومها وجمهورها القارئ، أيضاً؛ إلى بؤرة الأزمة الفردية، إلى أنا الإنسان التي ما فتئت تصارع لاختراق الجلد الخشن للممنوعات والكوابح وقوى الغلَبة، ولتتفتح بذاتيةٍ مستقلةٍ محدثةً انشقاقاً وتمرداً على مستويات طبقية وقيَمية ووجودية، ولتبدو في التمثيل الروائي وهي تكتسب كينونة حرة وفصامية في آن وتلُبِسها للواقع، أي أنها تقوم بتذويته، وبالطبع، رافق هذا التصور إعادة هيكلة وتشكيل للرواية أخذت تعصف تدريجاً بالنمط التقليدي وتنزع نحو التجريب بأشكال".
يؤكد المديني أنه يتحدث في هذا السياق عن "التجارب الجدية المنتظمة، لا النزوات وتمارين الإنشاء العابرة، وما بات يشبه طوفاناً من نثريات تتجاور فيها الحكايات بالانثيالات العاطفية الغثة وطفحِ طفو خاطر كاتبات/كتاب مفترضين يضعونه على لسان شخصيات هلامية، أو تقارير سياسية وشعارات ورطانات أيديولوجية، ومرويات منتزعة عنوة من التاريخ وملصقة استعارة متكلفة بالحاضر ملفقة بعقد غرامية".
ويستطرد صاحب "تحت شمس النص": "زد عليه أشباه روايات مصنوعة صنعاً على شكل متاهات باسم تجريبية مدعاة، وكثير من نصوص تريد الانتساب إلى الرواية بقوة الغلاف لا غير ولأنها لا تملك موهبة وصنعة تخلّق الجنس الروائي تزعم الانفتاح على تعدد الأجناس، بينما أنت لا تنفتح إلا إذا عرفت وسيطرت، لا جهلاً بالشيء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما تعيشه الرواية العربية اليوم يسميه المديني "انجراف التربة السردية"، وفي غمرة هذا الانجراف هناك روايات وروائيون "مؤهلون بفنهم ومشاريعهم، هم جزر صغيرة غنية بقوة الخيال وزخم التجربة وحذق السرد والتصوير الخلاق، وهي متباعدة إذ الرواية العربية اليوم شتات تشبه أحوال بلدانها وثقافتها؛ هي جزر في بحر من النصوص الدخيلة والسرود الفجة وتلفيقات لا شعر ولا نثر لا سطح ولا عمق، مطبوخة بتوابل متنافرة بأداء مدفوع لمطابع ودور نشر غير معنية بما تسوّق ولا بذوق وثقافة القارئ".
يؤدي هذا كله في النهاية –بحسب المديني- إلى "فساد المنتوج واختلاط الزائف بالسليم، واختلال المقاييس لا سيما مع وجود فئة من الزمّارين وملمّعي المغشوش، موزِّعِي الإمامة على المستضعفين، وكذلك بسبب غربة النقد والناقد الأدبي تقلص وجودهما ومساحة عملهما، والنقد الصحيح دائماً عينٌ فاحصة وازنة عينها على النص لا صاحبه، والأدب لا المتأدبة، تطفل عليه دخلاء واستثمره سماسرة كما استسهله صُناع الكلام، ومن هذا كله ومن ضربه: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذين عملوا لعلهم يرجعون".
تفاؤل على الرغم من الفساد الثقافي
ثمة بالفعل نقاش كبير حول ما تعيشه الحياة الثقافية من فساد، والمديني لا يتحدث هنا بإطلاقية تدفعها نظرة قاتمة، بقدر ما يضع يده على مواطن الخلل منذراً بما قد يؤول إليه الأدب العربي الحديث في مستقبل الأيام. لذلك نسأله عن جزء يرى كثيرون أنه يتعلق بهذا "الفساد الثقافي". وكان سؤالنا: "هل فعلا أثرت الجوائز العربية الجديدة في مضامين الرواية وساهمت بالتالي في توجيهها؟". يردّ المديني بأنه أجاب على السؤال مرات، وصار كمن يصيح في واد، ثم أردف: "الجوائز محفِّز جيد للمبدعين والباحثين، فيها دعم مادي يحتاجون إليه وتقدير معنوي لأعمالهم، ووجودها دليل على رقيّ مجتمع واعتباره للمنتوج الرمزي. في الماضي ارتبطت بأفراد ومراجع، واليوم ترعاها هيئات ومؤسسات، وهذا جيد. أما التأثير من عدمه في مادة التقدير فمرجعه إلى قيمة الإبداع في بلد معين، ونوع وتركيب المؤسسات التي تُسند إليها المهمة مؤهلات وآليات ومعايير. هي في الوضع السليم تنتصر لتيار أو مضمون وأسلوب ينبغي أن يكون له وجود ويرهص أو يبشر بجديد ويعلو عن جدال استحقاق الأولِّي في ميدانه الأدبي لغةً وشكلاً وتعبيراً وتصوراً وتصويراً ومادة وتخييلاً وطريقة أداء، وفي البحث منهجية وغزارة معرفة، وطرافة درس ونفاذ بصيرة، لينظر بعد ذلك في ما يتفرد به ويتفوق ويضيف. أما أن يخلو من هذا أو أغلبه ويجازى بقصب السبق، وهذا نرى مثله في جوائز عربية، فمؤسف ومسِفٌّ ومثير، قد يحدث الخلل مرة ومرتين، بتبرير اختلاف الأذواق والقراءات ونسبية المعايير، لكن "لا تختلف أمتي على ضلال" أي لا، وما ينبغي لها أن تتوج الهزيلَ والضحلَ وتُقصي الجيد الفحل، وفي أمر التحكيم، أمرهُ جلل ولا يقبل التفاوت والتواطؤ، اعطِ القوس باريها".
يضيف المديني في السياق ذاته: "هذا كلُّه يهون إن كانت الجوائز العربية، وقد حازت مقداراً من الأهلية والشفافية ونزاهة التحكيم وأصالة المحكوم له، إن استطاعت أن تسهم بقدر ما في بلورة أفكار أو تعبيرات أو موجات إبداعية يمكن في مجال الرواية، مثلاً، أن يؤرِّخ بها مؤرخ الأدب ويتتبعها بوصفها ظاهرةً تبلورت وشجرةً أينعت وصارت لها أغصان وامتدت جذور، انظر مثلاً، مع الفارق، إلى جائزة غونكور الفرنسية، عمرها قرن ونيف (الجائزة الأولى عام 1903) بإمكان الدارس والناقد الأدبي أن يتتبع تطور وخصائص الرواية الفرنسية من خلال الأعمال المتوجة، ولا يمكن أن تجد روائياً ذا بال إلا واسمه في سجلها. وإذن، هيهات وشتان. وفي الوقت، علينا أن لا نتشاءم شأن قدح البعض بأن هذه الجوائز إنما تسهم في فساد الأدب، وترويج المغشوش، و(إخصاء المواهب) التي تختفي بعد الفوز، وغالبية محكميها من غير المؤهلين أو تخضع للمحاصصة، ومثله مما شاع وذاع؛ أميل إلى التفاؤل، وأتطلع إلى المستقبل بأن تكثر الجوائز ويتنافس مانِحوها وتتعدد حقولها وتتنوع اختصاصاتها وتزدهر طردياً مع نمونا وتطورنا الحضاري ونضجنا الإبداعي. إن الإبداع والمعرفة عنوان تقدم أمة وقيمةٌ رمزية أكبر من المال، أما جائزة قيمتها الأولى في مالها فهي هبة وإكرامية، ليت الكفتين تعدلان".
الأجيال الجديدة متعجلة ومتعشطة للشهرة
أردنا أن نختم مع المديني قراءاته ومقارباته لراهن الرواية العربية، عبر عقد مقارنة بين كتّاب الرواية من الأجيال السابقة، وكتّابها من الأجيال الجديدة. إن من يقرأ نصوص أحمد المديني يدرك هذا الكمّ الهائل من المعرفة التي تقف خلفها. ثمة بالفعل مرجعية قرائية هائلة، وخبرة عميقة بالكتابة وبالحياة الأدبية. هل يمكن القول بأن الجيل الذي ينتمي إليه والأجيال القريبة منه كانت أكثر معرفة وأوسع ثقافة من الأجيال الروائية الجديدة؟ ردّ علينا المديني بأن هذا السؤال يحرجه: "أنا ممن قال فيهم تعالى: "قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". قُيِّض لي أني ولدت في أسرة ربها خريج جامعة القرويين، وأن آخذ العلم من شيوخ وأساتذة أجلاء في جامعات الرباط وفاس والسوربون، وأن أتخرج منها وأدرّس فيها مع جهابذة. فلم يكن بدٌّ من الجد وتعلمت منهم العمق وكِبرَ العقل، وحين تفتّح في صدري نبعُ إلهام حرصت على سقي تربته بسماد ثقافي من كل الآفاق، وأنا لا أفهم إبداعاً من دون ثقافة متينة، هذا سبب ثنائية عملي بين كتابة الأدب ودرسه ونقده. زد فنّ العيش وخبرة ومحبة الحياة والإيمان برسالة فيها حتى لا تذهب هدراً".
ويأتي الروائي المغربي إلى سؤالنا بإيماء وتحفظ: "لا أحب المفاضلة بين الأجيال، وأكتفي بالقول إن الحالية على عجل من أمرها، خفيفة زاد وقليلة صبر، متعطشة لشهرة عابرة. ولا أجد ختاماً لحديثي الشيق معك أفضل من أبيات شهيرة للحطيئة منها قوله: "فالشعر صعب وطويل سُلّمه/ إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه/ زلّت به إلى الحضيض قدمه/ والشعر لا يسطيعه من يظلمه/ يريد أن يعربه فيعجمه".