بين تصريح وضُحاه، انقلب المنتقدون، مُؤيّدين ومُهلِّلين، وتحوّل الداعمون إلى شاجبين غاضبين. المواجهة على أشُدّها، والدفاعات في متاريسها، ومؤسسة الأزهر بعد طول انتظار تخرج من خانة الجمود قليلاً وتتحرك صوب التحديث كثيراً.
كثرت مطالبات البعض من المصريين لمؤسسة الأزهر بمواكبة العصر وتحديث الخطاب وتنقية المحتوى، إما بقرارات جريئة تمضي بالمصريين قُدماً صوب القرن الـ21، أو بالعودة إلى الوراء لما قبل موجة تشدد السبعينيات، وانغلاق الخطاب على نفسه وحبس البلاد والعباد في غياهب تقييد التفكير وشيوع التكفير.
في دوائر المطالبين بتنقية الخطاب الديني وتحديث المحتوى الجامد، وهم قلّة قليلة، حتى ولو كان الرئيس المصري ضمنهم، شاعت مقولة ظاهرها كوميدي، لكن باطنها تراجيدي. يقولون إن مصر هي البلد الوحيد الذي لو عاد إلى الوراء لتقدم كثيراً إلى الأمام. والمقصود أن مصر بخطابها الديني وتركيباتها الثقافية ما قبل السبعينيات كانت أكثر انفتاحاً وتسامحاً ووسطية وقبولاً للاختلاف وامتناناً للتنوع.
لكن، قبل ساعات أذهل شيخ الأزهر الجميع. فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب دقّ على وتر الأُخوّة دقّاً، وصفه البعض بالدق الثوري، ونعته آخرون باستجابة مُترفّعة لضغوط أنصار الدولة المدنية، في حين أصاب قاعدة ليست قليلة بصدمة عنيفة، بينها مواطنون عاديون، وكذلك رجال وعلماء دين كثر اعتنقوا نسخة التدين وليدة السبعينيات.
الشيخ الطيب قال في تصريحات مطولة لجريدة "صوت الأزهر" في عددها الأخير، إنه "لا توجد في القرآن أديان مختلفة، لكن توجد رسائل إلهية تعبر عن الدين الإلهي الواحد"، وإن هناك وحدة تربط نبي الإسلام محمداً عليه الصلاة والسلام بغيره من الأنبياء، وهي الأخوَّة، مستشهداً بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "أنا أولى الناسِ بِعِيسَى ابنِ مريمَ في الدنيا والآخرةِ، ليس بَيْنِي وبينَهُ نَبِيٌّ"، و"الأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودِينُهُمْ واحِدٌ".
صدمة كبيرة
كلمات الطيب أصابت جموع الواقعين تحت تأثير خطاب السبعينيات الديني، الذي نما في العقود التالية وانتشر انتشاراً شعبوياً مهيباً، بصدمة كبيرة. فالخطاب الذي تربى عليه كثيرون في زوايا غير مرخصة حلت محل مساجد الأوقاف، وكذلك التنشئة في مدارس "دينية" محت سمة المدنية عن منظومة التعليم، ووقفت بالمرصاد للتسامح وناصبت الاختلاف والتعددية كل العداء.
جموع غفيرة من المصريين تلقت العلاج على مدار عقود في مستشفيات "شرعية" أصبحت بمثابة وزارة صحة مُوازية، واستمعوا لمشايخ ودعاة غرسوا فيهم كراهية الآخر ومعاداة الاختلاف واعتناق العنف، إن لم يكن بحمل السلاح فباعتناق التطرف.
ونمت في البلاد حزمة من المعتقدات يدور جميعها حول أن الدين الوحيد هو الإسلام، والكتاب المقدس الأوحد هو القرآن، ونزلاء الجنة الوحيدين هم المسلمون، وكل ما ذلك فهو تيه وضلال.
لكن الإمام الأكبر في تصريحاته الأجرأ على الإطلاق لجريدة "صوت الأزهر" قال إن القرآن يذكر التوراة والإنجيل بعبارات في غاية الاحترام، ويعترف بأثرهما القوي في هداية البشرية من التيه والضلال، وإن الله تعالى في القرآن الكريم يصف كلاً من التوراة والإنجيل بأنهما "هدى ونور"، كما يصف القرآن نفسَهُ بأنه الكتاب المصدق لما سبقه من الكتابين المقدسين. ويشار إلى أن الكثيرين من دعاة السبعينيات اتخذوا من الإنجيل ركيزة هجوم رئيسة على المسيحيين، واعتبارهم إما كفاراً وجب قتالهم أو في حالات الرأفة واللين "أهل ذمة" يمكن استيعابهم، لكن بشروط.
تصريحات الإمام الأكبر أشارت إلى أنه لا محل أو مجال أن يُطلق على المسيحيين أنهم أهل ذمة، مؤكداً أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأن مصطلح الأقليات لا يعبر عن روح الإسلام ولا عن فلسفته، وأن مصطلح المواطنة هو التعبير الأنسب والعاصم الأكبر والوحيد لاستقرار المجتمعات، موضحاً أن المواطنة تعني المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين جميعاً، بخلاف مصطلح الأقليات الذي يحمل انطباعات سلبية تبعث على الشعور بالإقصاء، وتضع حواجز نفسية تتداعى وتتراكم في نفس المواطن الذى يطلق عليه أنه مواطن من الأقليات.
نسف التراث الحديث
نسف الطيب تراثاً حديثاً نما وانتشر وتوغل على مدار نصف قرن، يقوم على تكفير الآخر وكراهيته والإفتاء أحياناً بقتله، وفي حالات الرأفة بازدرائه وتهميشه وتوقيفه بالقوة إن فكر مثلاً في بناء دار عبادة أو أقام شعيرة أو احتفل بعيد. ويشار إلى أن العديد من رجال الدين من أبناء الأزهر والعاملين في وزارة الأوقاف أفتوا مئات، وربما آلاف المرات، بـ"فساد عقيدة" غير المسلمين على مدار سنوات طويلة، وهو ما زرع الكراهية ورسخ الفتنة ونشر الفرقة في المجتمع القائم على أساس فوقية المسلم المصري على المصري غير المسلم بدعم غير مباشر ومباركة صريحة من المؤسسات الدينية الرسمية.
التراث الحديث يحوي الكثير من التكفير لغير المسلمين. ويظن البعض أن المتبع الوحيد لهذا التراث الحديث هو مشايخ الجماعات السلفية والجهادية وغيرها من غير التابعين للمؤسسات الدينية الرسمية، لكن المنبع شمل الجميع. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وزير الأوقاف وعالم الدين الراحل محمد متولي الشعراوي والملقب شعبياً بـ"إمام الدعاة"، والذي تُذاع أحاديثه وتفسيراته للقرآن الكريم على مدار الساعة، ورئيس لجنة الإفتاء الأسبق والراحل عطية صقر، ووكيل وزارة الأوقاف السابق الشيخ سالم عبد الجليل، والإمام والخطيب في وزارة الأوقاف عبد الله رشدي، وغيرهم كثيرون، تحدثوا كثيراً عن "كفر" غير المسلمين وعدم جواز تهنئتهم في أعيادهم، وغيرها من المواقف التي شكلت وعي المصريين في العقود القليلة الأخيرة، وما زالت.
التنقيب عن الفتاوى
وبينما صفحات التواصل الاجتماعي عامرة بتداول فتاوى التحريم والتكفير وآراء ومقاطع فيديو لعلماء دين يفتون ويتحدثون عن التكفير والتحريم والتضييق على غير المسلمين بهدف حماية الإسلام، وتشتد عمليات البحث الشعبية في مواسم أعياد غير المسلمين بهدف النصح والإرشاد وتوجيه التهنئة أو الامتناع عنها، إذ بتصريحات شيخ الأزهر تنص صراحة على أن "الأصوات التي تُحرِّم تهنئة المسيحيين بأعيادهم وتنهى عن أكل طعامهم ومواساتهم في الشدائد ومشاركتهم في أوقات الفرحة تعكس فكراً متشدداً لا يمُت للإسلام بصلة، وهو فكر لم تعرفه مصر قبل سبعينيات القرن الماضي".
ولعلها المرة الأولى التي يتطابق فيها صوت الأزهر وصوت أنصار الدولة المدنية الذين يجتهدون على مدار السنوات القليلة الماضية من أجل إعلاء قيمة المواطنة على القبلية والفوقية الدينية المتطرفة التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي.
تحدث الطيب عن السبعينيات للمرة الأولى. قال إنه "منذ السبعينيات حدثت اختراقات للمجتمع المصري مسَّت المسلمين والمسيحيين، وهيّأت الأرض لأن تُؤتى مصر من قبَل الفتنة الطائفية، وتبع هذا أن التعليم الحقيقي انهار، والخطاب الإسلامي انهار أيضاً وأصبح أسير مظهريات وشكليات وتوجهات، وكُنا نرى عشرات القنوات الفضائية تبثّ خطاباً إسلامياً دون أن يتحدث القائمون عليها في قضية محترمة أو أن يتطرقوا إلى مسألة ترسيخ أسس المواطنة، ونشر فلسفة الإسلام في التعامل مع الآخر".
ووصف الطيب من هيمنوا على الخطاب الديني في القنوات الفضائية في هذه الحقبة بـ"غير المؤهلين، المفتقدين لثقافة الإسلام، والساعين إلى نشر مذاهب يريدون من خلالها تحويل المسلمين إلى شكليات فارغة من جوهر الإسلام الحقيقي".
جوهر الإسلام الحقيقي هو ما تطالب به أصوات عدة منذ عقود، وذلك في ضوء هيمنة نسخة يصفونها بـ"المتطرفة والمظهرية" من الدين في مصر. هذه الأصوات – على الرغم من انضمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لها بشكل مباشر وواضح في عام 2014 بمطالبته تجديد الخطاب الديني وتطهيره - لا تلقى عادةً سوى حائط صد يتمثل في اعتبار القائمين على أمر التجديد من داخل المؤسسات الدينية الرسمية أنه لا داعي للتجديد، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، أو جبهة هجوم ناعتة إياهم بالرغبة في هدم الدين ومحاربة المتدينين.
ووصل الأمر في السنوات القليلة الماضية إلى اتهام من يطالبون بعدم التضييق على المسيحيين في بناء الكنائس وعدم تعمّد إحاطة كل كنيسة بمجموعة من المساجد والناعتين لقوانين تنظيم بناء دور العبادة (الكنائس) بالعنصرية والتمييز بأنهم مأجورون أو متآمرون ضد الإسلام.
فَلتُبْنَ كنيسة أو مسجد
اليوم يخرج شيخ الأزهر ليقول إنه شخصياً لا يرى أن دور العبادة تحتاج إلى قانون ينظم بناءها، "فمن أراد أن يبنى مسجداً وكان لدى وزارة الأوقاف الإمكانات اللازمة لهذا البناء فليبنِ، وكذلك من أراد أن يبنى كنيسة وتوافرت الإمكانات فليبنِ"، مؤكداً أن الأزهر ليست لديه غضاضة على الإطلاق فيما يختص ببناء الكنائس.
ليس هذا فقط، بل وصف ما يحدث في بعض القرى والنجوع من مضايقات عند بناء أي كنيسة بـ"ميراث وليد عادات وتقاليد والناس تناقلته، وليس له أصل في الإسلام". ومضى في تصريحاته النارية قائلاً إنه شخصياً من الذين يرون أن بناء مسجد أمام كنيسة هو نوع من التضييق على المسيحيين، مضيفاً: "أرض الله واسعة، فلتُبْنَ المساجد بعيداً عن الكنائس، ولتُبْنَ الكنائس بعيداً عن المساجد".
حديث شيخ الأزهر عن بناء الكنائس، وهو الحديث الملغم بالغ الحساسية، والذي فجّر العديد من حوادث الفتنة الطائفية مئات المرات في مصر في العقود القليلة الماضية، أصاب الجميع بصدمة، لكن الصدمة نوعان: مُفرحة لأولئك الذين بُحّت أصواتهم مطالبين بتطهير الخطاب وتجديده، ومُفجعة لأولئك الذين تشبّعوا بفكر السبعينيات التكفيري الرافض الكاره المندد بغير المسلمين والمضيق عليهم في كل شؤون حياتهم.
ومضت الصدمة بشقيها لتتفاقم على وقع تصريحات الإمام الأكبر ووصفه للمضيقين على غير المسلمين في مأكلهم ومشربهم في نهار رمضان بدعوى الصيام بـ"سخف لا يليق".
وكما هو متوقع تماماً، فإن فريق المتشبثين بتدين السبعينيات (التي أشار إليها الطيب) رأوا في ما جاء من تصريحات لشيخ الأزهر ما لا يليق بنسخة تدينهم التي نشأوا وتربوا عليها ولا يعرفون سواها. في الوقت نفسه وجد المطالبون بالتجديد والتحديث، وهم أفراد وليسوا جماعات عكس الفريق الأول، وجدوا في التصريحات النارية الثورية لشيخ الأزهر بداية عهد جديد.
الكاتب الصحافي حمدي رزق وصف تصريحات الإمام الأكبر بـ"وثيقة المدينة نسخة أزهرية منقحة مزيدة"، وذلك في مقال حمل العنوان نفسه. وقال رزق إنه بعد هذه التصريحات "فلتصمت منابر ومنصات الفتنة، وليكف العاملون عليها أمثال برهامي (نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي) وأذنابهم من السلفية المتسلفة، وليتقوا الله في دينهم، وليترفقوا بوطنهم الذى يتسع لحرية العبادة وحرية المعتقد". وقال إن عليهم أن "يعتذروا علانيةً لكل مصري مسلم أو مسيحي عما بدر منهم عدواناً بالفعل أو القول أو بالإشارة تصريحاً أو تلميحاً، غمزاً أو لمزاً".
البعض يعتبر استمرار بث أحاديث لرجال دين أسهموا في نشر التطرف وكراهية غير المسلمين وزرع بذور التشدد التي يجنيها المجتمع المصري حالياً، وذلك على قنوات تلفزيون الدولة مقياساً لمعرفة جدية التجديد. البعض الآخر يتساءل عن موقف فضيلة الإمام الأكبر من أستاذ الفقه المقارن في الأزهر سعد الدين الهلالي، والذي يعتبره فريق الداعين إلى التجديد "إمام المجددين" في حين يعتبره الفريق المضاد، وبينهم كثيرون من علماء الأزهر، مثل المشرف على الفتوى في الأزهر عباس شومان بأنه "يتّبع هواه، ولا يتّبع الدين، ويساعد أهل الباطل في هدم الدين".
ليس جديداً بل تتويج
الدين بين أتباعه وهادميه ومجدديه ينتظر الكثير. وما قاله الإمام الأكبر اعتبرته الغالبية "خطوة غير مسبوقة"، لكن رئيس تحرير "صوت الأزهر" أحمد الصاوي قال لـ"اندبندنت عربية" إن تصريحات الطيب تأكيد وتوثيق وتتويج لمشروعه في التجديد بقضايا المواطنة، والذى بدأ منذ اللحظة الأولى لتوليه المشيخة قبل نحو 12 عاماً.
الصاوي أضاف أنه لا يمكن القول إنها بداية لجديد، لأن كل هذه المواقف والرؤى سبق وعبّر عنها الإمام في أكثر من مناسبة، مشيراً إلى أن من يستقبلون هذه الأفكار باعتبارها جديدة أو مستجدة، معلوماتهم ناقصة عن الأزهر وشيخه، إذ سبق وعبّر الإمام الطيب عن كل تلك القضايا في خطاباته وبرامجه وجولاته وفى المقررات الدراسية للأزهر.
وقال الصاوي إن التصريحات جاءت في مناسبة الاتصال الهاتفي الذى أجراه فضيلة الإمام الأكبر ببابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية البابا تواضروس للتهنئة بعيد القيامة، وهو تقليد اتبعته جريدة "صوت الأزهر" طوال خمس سنوات، وذلك لإلقاء الضوء على المواقف الأزهرية من قضايا المواطنة في المناسبات المسيحية الكبرى.
واعتبر الصاوي خروج التصريحات تزامناً و"بعض الأحداث" مثل مقتل القمص السكندري، وواقعة منع مسيحيين من تناول الطعام في أحد المطاعم، هو من قبيل المصادفة، مشيراً إلى أن الخطاب الإعلامي الأزهري ليس منفصلاً عن الواقع ويؤثر فيه ويتأثر به.