كان جوزيف ستالين أمام هذه الكتب سيكتب مراجعة لاذعة، إذ إن الزعيم السوفياتي الذي ادّعى أن مهنة "الصحافة" واحدة من "مهاراته المتميزة"، كان خط أحكامه في هوامش كتب كثيرة موجودة بين الـ25 ألف كتاب ومخطوطة تضمها مكتبته الخاصة. ويضمن جيوفري روبيرتس في كتابه المعنون "مكتبة ستالين: الديكتاتور وكتبه" (منشورات جامعة ييل) Stalin’s Library: A Dictator and his Books، بعض أبرز شتائم ستالين بحق كتب وكتاب، منها "هراء"، و"هاها" (ضحك)، و"سخافة"، و"غباء"، و"حثالة"، لكنه للأسف لم يخبرنا أي كتاب جعله يخط انتقاده البسيط والمعبر: "مزعج".
وعندما كان ستالين يقع على كتاب يروقه، كان يكتب: "هذا هو"، أو "نعم نعم" – عبارات قد تنطبق على روايات عديدة صادرة في فبراير (شباط) 2022، من بينها "العالم الحجري" (منشورات ملفيل) The Stone World لجويل آيجي، الرواية الأنيقة الرشيقة، التي يقوم فيها ابن كاتب مرموق، جيمس آيجي، بسرد صيغة تخيلية من سيرة طفولته في المكسيك. كما أنني استمتعت كذلك برواية "حين كنا طيوراً" (منشورات هاميش هاميلتون) When We Were Birds لآيانا لويد بانو، قصة الحب المشوقة التي تحدث وقائعها في ترينيداد الحديثة، ورواية صاموئيل فيشير المقلقة والأشبه بخرافة، بعنوان "وايفنهو" Wivenhoe (منشورات كورسير)، التي تدور وقائعها في قرية من قرى إيسيكس (بريطانيا)، وفي حاضر مُوازٍ يكون العالم فيه مغموراً بالثلج.
لفترة معينة في الستينيات كان ميرلي هاغارد نجم موسيقى "الكانتري" الأكثر مبيعاً (من حيث الأعمال) في العالم. وفي كتاب "الهاغ: حياة وزمان وموسيقى ميرلي هاغارد (منشورات هاشيت)، يستعرض مارك إليوت تلك الحياة المفارقة والمختلفة لهذا الرجل الذي كتب أعمال كلاسيكية مثل "ووركينغ مان بلوز" (أحزان رجل كادح) Workin’Man Blues و"أوكي من موسكوغي" Okie From Muskogee. وكان هاغارد رجلاً غريب الأطوار، وذاك بدا واضحاً في تصرفاته المروعة تجاه دولي بارتون، وأيضاً في عدائيته تجاه شريكه في الجولات الموسيقية، بوب ديلن. ويتضمن الكتاب تناولاً تصويرياً للسنوات الثلاث التي قضاها هاغارد في سجن سان كوينتن، حيث أودع هناك سنة 1958 وهو لم يتجاوز العشرين من عمره. وقد شهد في هذا السجن عنصرية فظيعة، لدرجة أن أحد السجناء السود سلق في الماء وهو حي. وربما من غير المفاجئ بعدها أنه راح يكتب أغنيات جريئة وغاضبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما عشاق موسيقى الـ"هيفي ميتال" heavy metal فسوف يستمتعون كثيراً بكتاب "جينز وجلد: صعود وهبوط الموجة الجديدة من موسيقى الهيفي ميتال البريطانية" (منشورات كونستيبل) Denim and Leather: The Rise and Fall of the New Wave of British Heavy Metal لمايكل هان، حيث يقوم، وهو المحرر الموسيقي السابق في "الغارديان"، بجمع قصص مفصلة ومرحة تتعلق بأبطال رئيسين في تلك الموجة إبان تحولات محمومة شهدتها موسيقى "الروك الثقيلة" (أي الهيفي روك).
وربما يكون كتاب دارين بايلر، المعنون "في المعسكرات: الحياة في مستعمرة العقوبات الصينية ذات التقنيات المتطورة" (منشورات أتلانتيك بوكس) In the Camps: Life in China’s High-Tech Penal Colony، أكثر الكتب إرباكاً وإقلاقاً هذا الشهر، حيث يتقصى فيه بروفيسور الدراسات الدولية في جامعة سيمون فرايزر، فانكوفر، مزاعم تتحدث عن نظام تحكم "أورويلي النمط" (من جورج أورويل) يستخدمه حكام الصين كي يقمعوا أكثر من مليون ونصف المليون نسمة من مسلمي الإيغور في المنطقة الواسعة شمال غربي الصين.
سبعون في المئة من سطح الأرض يقبع تحت المياه. من هنا يأتي كتاب كريس أرمسترونغ، المعنون "برنامج جديد أزرق: لماذا نحتاج إلى سياسات جديدة للمحيطات" (منشورات جامعة ييل) A Blue New Deal: Why We Need a New Politics for the Ocean ليقدم نظرة مهمة في مسألة التخريب المناخي والصناعي الضارب في المحيطات. ولقد صدمت وأنا أقرأ الفصل المعنون "حماية عمال البحر"، الذي يكشف سوء المعاملة الفظيعة التي يتعرض لها عمال الصيد في آسيا. ويكتب أرمسترونغ، أستاذ النظرية السياسية في جامعة ساوثمبتون، قائلاً إنه "في معظم الأحيان يجري استغلال وسوء معاملة عمال البحر بعيداً عن الأنظار والأذهان".
في إطار مواز، سأل مرة أحد المعجبين الشبان جيمس جويس إن كان بوسعه تقبيل اليد التي كتبت "عوليس"، فأجابه الكاتب الشهير: "لا، فهي قامت بأشياء كثيرة أخرى". في شهر شباط هذا العام تكون مئة عام قد مرت على نشر رواية جويس التي تسرد أحداث يوم واحد بمدينة دبلن. قراءة "عوليس" تشبه ارتقاء جبل أدب، وإن كنتم مستعدين للتحدي فإن سلسلة "بينغوان كلاسيكس" Penguin Classics نشرت أخيراً طبعة مجلدة جديدة ورائعة احتفاء بمئوية هذه الرواية.
وإليكم أدناه مراجعات كاملة لروايات كتبها كل من مونيكا علي، دافني بالاسي أندريادس، لان سمانثا شانغ، أودري ماغي، وفيسنا غولدسورثي، إضافة إلى كتاب غير روائي للبروفيسور غاي ليشزينر.
"زواج حب" Love Marriage لمونيكا علي
تجري أحداث "زواج حب" في لندن بعامي 2016 و2017، وهي تتناول عائلتين مختلفتين، لكنهما مرتبطتان عاطفياً بأسرار بالغة القدم، وبأكاذيب وخيانات. وتغدو عائلتا غورامي وسانغستر مرتبطتين على نحو وثيق عندما يحب كل من ياسمين غورامي وجو سانغستر، وهما طبيبان شابان، بعضهما البعض، ويغدوان خطيبين. العائلتان كما سبق وأشرنا مختلفتان جداً، لكنهما متشابهتان في مقدرتيهما على خداع بعضهما بعضاً والكذب.
مونيكا علي، المولودة في بنغلاديش والتي انتقلت عائلتها إلى إنجلترا سنة 1970 حين كانت في الثالثة من عمرها، سبق واستكشفت ماضيها في روايتها الحاذقة "بريك لاين" Brick Lane الصادرة قبل 16 عاماً. واليوم أيضاً تأتي روايتها الجديدة، "زواج حب"، متناولة تجربة الهجرة في إنجلترا من خلال "شوكت" و"أنيسة" (ماما وبابا) وولديهما ياسمين وعارف. وذاك يظهر أحياناً من منظار علاقتهما التهكمية مع الحمى المستقبلية، هارييت والدة جو، وهي كاتبة نسوية ومذيعة من منطقة إسلينغتون. ويقول جو في مطلع الرواية ممازحاً، إن هارييت سوف تحب حقيقة زواجه من امرأة ذات أصل هندي، ويضيف، "أهلك أصيلون لدرجة أنهم سيمنحونها النشوة (الجنسية)"، بيد أن الطريقة التدريجية التي تتبعها هارييت لتملك أنيسة، ومعاملتها مثل حيوان أليف، تبقى جلية وواضحة.
وعلى الرغم من أن الرواية تقع في 500 صفحة، ومكتوبة في فصول قصيرة ومضبوطة، متناولة موضوعات حساسة مثل التمييز العرقي، والدين، والإسلاموفوبيا، والإدمان، والعلاج، والجنس، والسياسات الجنسية، ووسائط التواصل الاجتماعي، إلا أنها تتمتع بالمقاربة الجذابة التي تميز كتابة مونيكا علي. أحد الأمثلة الصغيرة على ذكائها وهزلها الاجتماعي يورد صورة: "بابا يقود [فيات مالتبلا]". وإن لا تعرفون كيف يبدو هذا، أقترح عليكم البحث عن صورة مناسبة كي يتسنى لكم أن تقدروا تمام التقدير وصف علي للسيارة كـ"[رجل فيل] المركبات، بعيني خنفساء ورأس منتفخ".
كذلك فإن عمل ياسمين في مجال رعاية المسنين يتيح لعلي تقديم فكرة ساطعة عن الحياة في أوساط "هيئة الخدمات الصحية" (البريطانية) NHS، بدءاً من السياسات الداخلية وعجرفة المستشارين الذكور. كل شخص عاين عامل(ة) طبيب(ة) يحاول أخذ عينة دم من متقاعد، سوف يقدر كلام علي عن الأمر باعتباره "سحب دم من شريان كان مثل محاولة إضاءة شمعة من دون فتيل". كما أنه من الصعب نسيان مريض ياسمين، السيد ساربونغ، الرجل الذي يعاني الـ"هيدروسيل" في كيس خصيتيه (الذي) بات "بحجم بالون من الهيليوم".
ومع اقتراب يوم العرس تبدأ المشاعر في أوساط العائلتين بالتأجج، فتتجاوز نطاق السيطرة تزامناً مع انكشاف الأسرار وخروجها إلى العلن.
تقودك رواية "زواج حب" إلى الاهتمام بشخصياتها الرئيسة، كما تجعلك تفكر بأحكامنا اتجاه الناس القريبين لنا. لقد كتبت علي رواية قوية وحاذقة برقتها، تسائل هويتنا والطريقة التي نحب بها في بريطانيا القرن الواحد والعشرين.
"زواج حب" لمونيكا علي، منشورات "فيراغو" في 3 فبراير (شباط)، 18,99 جنيه استرليني.
"فتيات سمراوات" Brown Girls لدافني بالاسي أندريادس
الرواية الأولى لدافني بالاسي أندريادس، "فتيات سمراوات"، والتي بدأت كقصة قصيرة، تلاحق مجموعة من نساء شابات هن بنات الجيل الأول والثاني من المهاجرين وقد نشأن في "دريغز أوف كوينز"، الحي النيويوركي الذي ولدت ونشأت فيه الكاتبة.
وتأتي هذه الرواية الصاعقة على لسان يتكلم بصيغة الجمع – وهذه الـ"نحن" تمثل مجموعة أصوات لفتيات ونساء شابات ينتمين إلى مجموعات شتات مختلفة – كما ترد لازمة "فتيات سمراوات، فتيات سمراوات، فتيات سمراوات"، مراراً وتكراراً. و"السمار" (أو اللون البني) يعني "قلق" (أو عدم ارتياح)، حسب أندريادس. ومن هنا فإن روايتها تبحث في العنصرية والإذلال اليومي الذي تعيشه تلك النساء الشابات (ثمة قصة مروعة عن فتاة يطلب منها الوقوف عند طرف مجموعة أشخاص تلتقط صورتهم، "في حال اضطررنا إلى حذفك من الصورة فيما بعد").
وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب – يأتي في فصول قصيرة ويتألف من 203 صفحات – إلا أن نطاقه يبقى طموحاً: فهو يتناول ظاهرة "تنخيب" الأحياء والمناطق السكنية (أي ظاهرة الـ"جنتريفيكايشن" واستبعاد الفقراء)، ونظام الطبقات الاجتماعية في الولايات المتحدة، وتجربة الاستعمار والهجرة والنجاة في بلاد يحكمها رئيس "سام". كذلك تأتي الرواية مليئة بملاحظات صغيرة تتعلق بالمشاهد والأصوات والروائح والأطعمة التي يختبرها المرء الناشئ في منطقة الـ"كوينز".
ويضم الكتاب طبعاً أموراً شائكة تستدعي التفكير تتعلق بالجماعات المهاجرة التي تعيش في هوامش الحياة الأميركية، إلا أن أكثر ما يذكره المرء من الرواية هو توصيفاتها البديعة للصداقة. كما أنها تضم تأملات مؤثرة في نشأة المرء وفي كيفية فهم ذلك من منظور الزمن والمجال – خصوصاً في الطريقة التي نقوم بها أحياناً بفهم ما واجهه أهلنا تدريجياً في خضم حياتهم. مما يعطي هذه الرواية التي تجري وقائعها في منطقة الـ"كوينز" بعداً عالمياً متيناً. تتساءل إحدى الشخصيات: "كيف صرنا على هذا الحال؟ متى توقفنا عن أن نكون نفس الأشخاص الذين يحتاجهم بعضنا البعض؟ هذه تساؤلات نطرحها جميعاً، من دون شك.
"فتيات سمراوات" لدافني بالاسي أندريادس، منشورات "فورث إستايت" في 3 فبراير (شباط)، 12,99 جنيه استرليني.
"عائلة تشاو" The Family Chao لـ"لان سامنثا شانغ" (منشورات بوشكين برس/ إيفي أولووا نيهينلولا)
ليو "بيغ" تشاو هو السيد العنيف الذي يحمل موته الغامض السر المتضمن في قلب الرواية التشويقية المبتكرة التي كتبتها لان سامانثا شانغ بعنوان "عائلة تشاو".
وباستلهام كتاب دوستويفسكي "الإخوة كارامازوف"، الذي يكابد فيه ثلاثة إخوة طغيان والدهم، قامت شانغ بكتابة نص كوميدي ماهر عن تجربة الهجرة، حيث تسدد فيه طلقات صائبة على "الحلم الأميركي". وليو، الذي قام وزوجته بتأسيس مطعم صيني ناجح، يصفه أحد أبنائه بأنه "أميركي من الطراز الأول"، أي "نرجسي جشع، ورأسمالي وقح أراد استغلال الجميع".
الرواية التي تتمحور حول أبناء ليو الثلاثة – الابن الأكبر والطائش داغو، والمحامي الذكي مينغ. وطالب الجامعة الساذج جيمس – تجري وقائعها في هايفن، ويسكونسين، التي توصف مرات عديدة في الكتاب بـ"التعيسة" و"القذرة" و"بؤرة العوز الموحشة". شانغ، التي تدير "محترف الكتاب في آيوا" هي ابنة مهاجرين غادروا الصين سنة 1949، وتستقي موضوعاتها من تجربة الغربة كي تقوم بدهاء باستكشاف الأفكار والرؤى والرغبات المتناقضة عند الأميركيين من أصل صيني وفي قصصهم.
وثمة حبكات فرعية ومنعطفات في الرواية – منها واحدة تتعلق بأولان، مهاجرة جديدة من غوانغزهو، حيث يبدو أن لا أحد يعرف عنها الكثير، كما أن العائلة لا تستسيغ "رائحتها الثعلبية وفكها الرفشي" – والكثير من المقاطع المضحكة، منها زواج أجهض لمنع أن تنتهي المرأة فيه بشخصية "ويني ذا بو".
كما أن شانغ التي تبتكر استحضارات رائعة لروائح الحياة المطعمية ونكهاتها، ترصد مظاهر معاداة الآسيويين والتمييز العرقي ضدهم وذلك عبر ملاحظات كتبتها طالبة صحافة تدعى لين شين، تنشر مدونات تتعلق بمحاكمة رجل أطلقت عليه الصحافة اسم ويليام داغو "آكل الكلاب" (دوغ إيتر) شو.
كذلك فإن الصورة التي ترسمها شانغ لـ"كتلة الهراء"، العائلة الأميركية – الصينية، التي تمزقها أسرارها ومشاعر الحسد والغيرة فيما بين أفرادها، تمثل أيضاً استعراضاً لا ينسى للتيارات القاتمة في أخلاقيات البلدات الصغيرة.
"عائلة تشاو" لـ"لان سامانثا شانغ"، منشورات "وان" في 3 فبراير (شباط)، 16,99 جنيه استرليني.
"المستعمرة" The Colony لأودري ماغي
الرواية الثانية للفائزة بـ"جائزة المرأة" Women’s Prize، أودري ماغي. تبدو الرواية ظاهراً قصة رجلين – رسام إنجليزي ورجل فرنسي متخصص باللغة – يصلان لتوثيق حياة جزيرة صغيرة قبالة الساحل الغربي لإيرلندا. وحين يشرعان بمحاولة التعرف على ما يشكل الهوية هناك، يصبح الواقع والحقيقة ضبابيين.
وتتقاطع التبادلات الكلامية الغنائية تجاه الزائرين بتوصيفات وحشية متفرقة للعنف الذي عصف بإيرلندا نفسها في صيف 1979. كما يرد على لسان إحدى شخصيات الكتاب: "أحوال العنف والفوضى في ذلك الموت، في تلك المقاتل، تعيش جنباً إلى جنب مع جمال الناس، والمناظر الطبيعية، [جنة عدن] أصابها الاضطراب فانقلبت، وغدت حالة معلقة، حالة مهام غير منجزة، حيث أطياف الماضي ما زالت تخيم فوق الحاضر".
ويقدم لنا كتاب "المستعمرة" أفكار متباينة في معنى أن يكون المرء من المستعمرين ومن المستعمرين، كما يمثل صورة دقيقة بارعة عن الشخصية والمكان، لكن، وخلف ذلك كله، تأتي رواية ماغي، المعبرة والحاذقة هذه، بمثابة احتفاء مؤثر بالحاجة إلى التواصل.
"المستعمرة" لأودري ماغي، منشورات "فاير" في 3 فبراير (شباط)، 14,99 جنيه استرليني.
"الرجل الذي تذوق الكلمات: داخل عالم حواسنا الغريب والآسر" The Man Who Tasted Words: Inside the Strange and Startling World of our Senses للبروفيسور غاي ليشزينر
يستكشف البروفيسور غاي ليشزينر في هذا الكتاب عدداً كبيراً من حالات محيرة تكون فيها الحواس – النظر، والذوق، والسمع، والشم، واللمس – قد بدأت تتعثر، وكل شيء راح يضطرب.
هذا الكتاب كان بمثابة قراءة تجريبية لمن هم، مثل حالتي، لا يتمتعون بعقلية علمية، إلا أن ليشزينر، طبيب الأعصاب والمستشار في كلية طب الأعصاب ومركز اضطرابات النوم في مستشفى "غاي وسانت توماس"، يعد مرشداً ضليعاً لكثير من المشكلات المحيرة، حتى لو كان من الصعب عليك متابعة تفاصيل نقاش معقد في ما نعتبره الحقيقة المطلقة للعالم حولنا، والتي هي واقع افتراضي خلقته عقولنا وأسلاك جهازنا العصبي.
ويأتي كتاب "الرجل الذي تذوق الكلمات" مليئاً بمسرات تتهادى في أذهاننا. وأنا شخصياً استمتعت بالرسم (التوضيحي) الذي يظهر كيفية قيام عقولنا بتسوية ومعالجة الالتباسات البصرية، فتختبر صعوبة الانتقال السهل في رؤية "فتاة وعجوز طاعنة في السن" بصورة واحدة، حتى لو كانت الاثنتان هناك طوال الوقت.
كذلك يأتي هذا الكتاب الهائل مليئاً بتأملات مقلقة، منها أفكار ليشزينر المتعلقة بـ"كوفيد-19"، إذ إن هذه الجائحة على فظاعتها كان يمكن لها أن تكون أكثر فظاعة. ويقر البروفيسور ليشزينر بأن "تبلور فكرة أن فيروس كورونا بإمكانه التسبب بفقدان حاستي الشم والذوق" طرح في الأصل مخاوف من "كارثة عصبية"، وذلك على غرار جائحة "خمول والتهاب الدماغ" في مطلع القرن العشرين التي أعقبت التفشي العالمي للإنفلونزا (الإسبانية).
ويشير ليشزينر في كتابه إلى أن أعراض "كوفيد-19" هي على الأرجح نتيجة التهاب خلايا في الظهارة الشمية وليس الخلايا العصبية نفسها، إذ "فيما يمكن لعدد من الفيروسات الدخول إلى الدماغ عبر هذا الطريق، يظهر، ولحسن الحظ، أن "كوفيد-19" ليس واحداً منها". هذا من حسن الحظ لأن طفرة الإنفلونزا الإسبانية قتلت 1،6 مليون شخص وتركت خمسة ملايين يعانون "خمول والتهاب الدماغ"، وهي حالة لها أعراض تحاكي أعراض مرض الباركنسون.
"الرجل الذي تذوق الكلمات: داخل عالم حواسنا الغريب والآسر" للبروفيسور غاي ليشزينر، منشورات "سيمون أند شوستر" في 3 فبراير (شباط)، 16،99 جنيه استرليني.
"ستار حديدي: قصة حب" لفيسنا غولدسورثي
إنه كتاب ينتهي بفصلين قاطعين مثل سكين: نص يسرد علاقة الحب الهالكة بين ميلينا أوربانسكا والشاعر الكاريزمي جايسون كونور، والخاتمة المروعة.
وغولدسورثي التي ولدت في بلغراد سنة 1981، تقوم بالتقاط ذاك العالم الخانق والمعزول لدولة خيالية تدور في فلك الاتحاد السوفياتي ما قبل البيريسترويكا، ويأتي وصفها لهذا البلد مفعماً بالقوة والاندفاع. ميلينا، "الأميرة الحمراء"، ابنة شخصية سياسية بالغة التأثير في تلك الدولة، وتمثل دليلاً مطلعاً من الداخل على الوقائع الكالحة للحياة هناك، وذاك يشمل كل شيء، من المنتجات الطبية والأدوية الفاسدة وصولاً إلى الطريقة التي بات فيها الإجهاض، وسيلة للسيطرة على الخصوبة، واقعاً حياتياً بالنسبة للنساء الشيوعيات (تجربة ميلينا في هذا الإطار ترد في قصة مؤثرة تحكي عن ممرضة "تجر كرسياً متحركاً في مستشفى مع رتل من الأدوات المعدنية المصطفة مثل عربة حلويات قبيحة").
معظم وقائع الرواية تدور في لندن، التي يهرب إليها كل من ميلينا وجايسون. وتلتقط غولدسورثي التي انتقلت إلى إنجلترا سنة 1986، غرابة الثقافة البريطانية والناس في ذلك العقد من السنوات. فالتفاصيل المعبرة والمتتالية التي تروى عن تلك الحقبة تبدو حقيقية: مباهج المطاعم الإيطالية الرخيصة في الـ"سيسيليان إفنيو" بمنطقة بلومسبوري، كفاءة الـ"رويال مايل" (البريد الملكي) (أجل أيها الأولاد، هذه حقيقة، حتى إنه كنا نحصل حينها على توصيلتين في اليوم الواحد)، والرجال الغريبون في منتصف العمر الذين كانوا مبهورين بمارغريت ثاتشر. وراحت ميلينا تدريجياً تفهم ما حذرها منه والدها حين قال لها إنه لا أحد سعيد في إنجلترا. "لا أحد. لا الفقراء ولا الأغنياء. حتى أسرتهم الملكية تعيسة. لقد قابلتهم"، قال الوالد لابنته.
كذلك تقوم غولدسورثي، وهي شاعرة حازت جوائز، ببث دعابات لطيفة تتعلق بمكائد وادعاءات جايسون الأدبية عموماً. وحين تحضر ميلينا لقاء قراءات شعرية تلاحظ وبطريقة مضحكة أن هذه المناسبات "تمثل لقاءات صغيرة لقراءات متحمسة، لا تسمع على الدوام، يحضرها أشخاص يتبادلون تقبلهم للضجر، كون من حقهم أن يضجروا". وفي نهاية المطاف تلاحظ غولدسورثي أن جايسون فيما يحقق مزيداً من النجاحات، ليس سوى "وصولي ثقافي يتصرف مثل دولفين في سيرك".
ويتجسد جانب آخر من قوة الرواية باستخدام عامل الطقس (وأجوائه)، وذاك يمثل شخصية ثابتة في "ستار حديدي"، بدءاً من البرد القارس في وطن ميلينا – حيث الأصابع وشحمات الأذن تسلم نفسها للجليد وتتجمد – وصولاً إلى "البرد الهادئ المتواصل" في شتاء لندن. كل هذا يشكل جزءاً من الإحساس العام بالقصة ذات الوقع البالغ والتي تتناول موضوعات كبرى – الحرية، الحقيقة الفنية، العائلة، الدولة، النزاهة، والخيانة – بأسلوب حاذق بتفاصيله المرهفة.
"ستار حديدي: قصة حب" لفيسنا غولدسورثي، منشورات "شاتو وويندوس" في 10 فبراير (شباط)، 14،99 جنيه استرليني.
© The Independent