ملخص
من لا يكادون يملكون ما يخسرونه اجتماعياً واقتصادياً غالباً ما يكونون الأكثر تقبلاً للتفكير الراديكالي في تنظيم المجتمع الإنساني، وهم الأبرع في التعامل معه ولو في عالم الخيال.
لعل أول ما يتبادر إلى الأذهان من كلمة اليوتوبيا هو الحلم. فمن يتعرض لهذه الكلمة لا يتصور غالباً واقعاً ملموساً، إنما يتصور أفكاراً عن العالم كما ينبغي أن يكون، أفكاراً متجاورة، وليس مساكن وحقولاً ومدارس. وقد يتبادر لذهنه في أحسن الأحوال أنه بصدد قراءة نقد عميق للواقع المعاش، وتصور لإصلاح عيوبه، لكن الكتاب الذي نعرض له هنا لا يكلمنا عن خيالات وأوهام أو حتى نظريات، إنما عن واقع، وبلدات كانت تجسيداً ملموساً لتصورات أهلها وأحلامهم، وإن لم تأت في مثالية الأحلام.
الكتاب عنوانه "الطوبايون السود: البحث عن الفردوس وأرض الميعاد في أميركا"، والمؤلف هو أهارون روبرتسن، وقد صدر الكتاب في 400 صفحة عن دار "فارر شتراوس أند جيرو".
قد يبدو الجمع بين "اليوتوبيا" و"الأميركيين السود" مفارقة مريرة، فالأميركيون الأفارقة ورثة ظلم فادح استمر قروناً من الاستعباد في المزارع وغيرها، ثم ردحاً طويلاً من الزمن قاسوا فيه التفرقة العنصرية، ولا يزالون على المستوى المجتمعي في الأقل يعانون هذا الإرث، فكيف يجتمعون واليوتوبيا؟
يجد جون جيرمينا سوليفان خلال استعراضه للكتاب بـ"نيويورك تايمز" في الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حلاً لهذه المفارقة، "إن من لا يكادون يملكون ما يخسرونه، اجتماعياً واقتصادياً، غالباً ما يكونون الأكثر تقبلاً للتفكير الراديكالي في تنظيم المجتمع الإنساني، وهم الأبرع في التعامل معه، ولو في عالم الخيال. ويكتب أهارون روبرتسن أن (استمرار الظروف البائسة العتيقة التي يعيشها السود، واليقين بأنه يوجد ما هو أفضل، هما التربة التي تنشأ منها الطوباوية السوداء)".
لا يقدم أهارون روبرتسن في كتابه فلسفة كما أسلفنا، ولكن تاريخاً عاش طرفاً منه، فالكتاب كما يقول جون سوليفان "يراوح ما بين التاريخ الشخصي، والتاريخ الأكثر مدرسية. فتمضي صفحات كثيرة في مسار مباشر نسبياً مقدمة الطرح الذي قد يتوقعه المرء من كتاب كهذا، بمعنى أنها تناقش (مختلف الأحلام والهجرات والتجارب الاجتماعية الجماعية للأميركيين الأفارقة)، لكن فصولاً أخرى تأتي أكثر انطباعية، فيحتوي عديد منها على رسائل بعثها إلى المؤلف والده، واصفة ما عاشه الرجل الكبير من مصاعب (منها وصمة السجن لـ10 سنوات بتهمة السطو المسلح) وافتتانه بواعظ في كنتاكي يلقي عظاته عن يوتوبيا القرن الـ18 السوداء المعروفة بنغرولاند (أي أرض الزنوج)".
وقد نشأ أهارون روبرتسن نفسه في ديترويت، التي يقول عنها "إنها أكثر المدن الأميركية وصفاً بـ"الدستوبيا" (أي نقيض اليوتوبيا)"، غير أن صباه شهد ما يصفه بـ"(رحلات حج) لا تنسى إلى مزرعة جديه في بروميس لاند (أي أرض الميعاد) التي أسستها بعد الحرب الأهلية أسر أميركية أفريقية حديثة العهد بالتحرر من العبودية. وهذه المستوطنة التي لا تزال موجودة إلى اليوم وإن على نحو شاحب تتسق مع المعهود في البلدات السوداء التي أقيمت في عهد إعادة الإعمار بجسارة الروح الطوباوية بعدما انتهت العبودية وبدا لفترة وجيزة أن بالإمكان استحداث طرق جديدة في الحياة على أطلال الماضي".
و"إعادة الإعمار" هي الفترة التالية للحرب الأهلية في ما بين 1865 و1877 حين كافحت الولايات المتحدة تحديات جسيمة لدمج مختلف الولايات في الاتحاد الأميركي وتحديات أخرى لتحديد الوضع القانوني للأميركيين الأفارقة.
"افتتن روبرتسن ببقايا الطاقات القديمة المحفوظة في ذكريات جديه، ومنها يعيد بناء تاريخ بلدتهم، فيكتب أن (أهل بروميسلاند صنعوا بأيديهم كل شيء، من مقاعد المدارس إلى المداخن، عدا الكتب والصحف المهترئة التي كانت تأتيهم من شارلوت بعد أن يزهدها الأطفال البيض وآباؤهم)".
غير أن لوعي روبرتسن باليوتوبيا مصدراً أقوى من محض نشأته في أحد تجسدات الحلم الطوباوي الأسود، أي بروميسلاند، فقد كانت على مقربة منه حركة طوباوية هي (القومية المسيحية السوداء)، وكانت حركة إصلاحية اجتماعية كبيرة ظهرت في ديترويت على يد القس ألبرت بي كليج الابن.
في بدايات كتاب "الطوباويون السود" بحسب ما يشير استعراض غابرييل بامب (واشنطن بوست - 11 أكتوبر 2024)، يحكي آهارون روبرتسن عن المراهق غلانتن داوديل، وهو من شخصيات الكتاب المركزية، ولعبة كان يلعبها في مراهقته "إذ يقفز في قطار، ويظل يطوف في ديترويت، ثم يقفز منه قبل أن يبتعد كثيراً. كان ذلك في ثلاثينيات القرن الـ20، في زمن الكساد الكبير، ولم يكن لدى المراهقين ما يملأون به وقتهم. وفي أحد الأيام كان القطار شديد السرعة فلم يقفز منه غلانتن، وقرر بدلاً من ذلك أن يرى إلى أين سيأخذه. عبر القطار شيكاغو، وتوقف أخيراً في شرق سان لويس، إذ مدينة خيام اسمها جانغل، فسمع قصصاً عن طقس كاليفورنيا الدافئ طوال العام والعمل الوفير والإحساس بالأمان، وسمع أن من يتمكنون من اجتياز مفتشي السكة الحديدية، والمخبرين، والشرطة، يجدون أنفسهم في حماية (اتحاد مزارعي كاليفورنيا)، الذي يظهر المزارعون في كتيباته مبتسمين موعودين بعمل لكل قادر على العمل".
"خطر للصبي أن أحداً لا يموت في كاليفورنيا جوعاً، فلم يبال بتحذيرات المسافرين العابرين بجانغل في طريقهم إلى الشرق، إذ كانوا يقولون إن كاليفورنيا (أرض عبودية وأمل كاذب) يحيل اتحاد مزارعيها النساء والأطفال أرامل ويتامى".
يكتب بامب أن صورة التقاء أولئك المسافرين العابرين بعضهم ببعض، الباحثين عن الفردوس في اتجاهين متعاكسين، صورة مثلى لتجربة الأميركيين السود في القرن الـ20، فـ"كل هجرة تعقبها حسرة، فتفضي إلى مزيد من الهجرة، وشيء من الأمل، ونزر عارض من التحسن، وخطر محدق من أميركا البيضاء".
وصل غلانتن إلى كاليفورنيا نائماً في القطار، فأيقظه رجال الشرطة، وضربوه، وزجوا به في السجن، ثم ردوه إلى ديترويت في حافلة انطلقت به طوال أربعة أيام. ويكتب روبرتسن أن "أحد السائقين وصف غلانتن بالمارق "ولعلها من بقايا معجم العبودية"، فـ"لم يصدق غلانتن أذنيه، إذ المارقون هم الهاربون من الجحيم، وهو كان يسارع إلى الفردوس".
يكتب بامب أن "التوتر بين الهاربين من الجحيم والمسارعين إلى الفردوس ينبئنا بكثير عن كتاب (الطوباويين السود). فهو كتاب عن السعي وفشل السعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"نقضي غالب الكتاب في ديترويت، مسقط رأس روبرتسن، متعقبين قصة عالم لاهوت راديكالي يدعى ألبرت كليج الابن وجماعته (ضريح العذراء السوداء). ومن خلال استكشاف تلك اليوتوبيات المحددة، يعارك روبرتس أفكاراً كبيرة في الدين والمساواة والمجتمع والهوية السوداء. لتكون النتيجة تاريخاً لا ينسى لأحلام مستحيلة عظيمة القيمة".
يتساءل روبرتسن، "كيف تمكن السود، جماعات وأفراداً، من خلق أماكن جيدة من العدم الذي ظلوا محبوسين فيه طوال قرون؟" كانت بروميسلاند التي تأسست في حقبة إعادة الإعمار على أيدي العبيد المحررين غنية بالحديد، وقريبة من طريق سريع، و(تعد بأكثر مما يمكن أن تخصصه الحكومة الفيدرالية). ففكر مؤسسوها: فيم انتظارنا لـ(الأربعين فداناً والبغل)؟"، وكان ذلك ما تعد به الحكومة عائلات العبيد المحررة؟ "فكر المؤسسون: (لماذا لا نشتري الأرض بأنفسنا)؟"
يكتب روبرتسن أن البلدات السود التي أقامها العبيد المحررون "نادراً ما ترى بوصفها يوتوبيات، وإنما يشار إليها بوصفها محض فضاءات انتقالية توفر الأساسيات إلى أن يجري تفكيكها أو تظهر فرصة أكثر إغراءً منها في أماكن أخرى".
وتقدر بعض الدراسات أن عددها بلغ ما بين 200 و1200 بلدة ومستوطنة سوداء في أميركا الشمالية في ما بعد الحرب الأهلية، ويرى روبرتسن أن هذه الأماكن ملهمة، بعددها وطموحها، وإن لم يدم كثير منها طويلاً، "فقبل زوالها، استطاعت هذه الأماكن البقاء على مدى أجيال، متغلبة على الموارد المحدودة، موفرة الحاجات الأساسية لأشخاص لم يكن مسموحاً لهم بالازدهار في أماكن أخرى، فهي لذلك تمثل ما يشبه مخططاً للمستقبل المرغوب".
يكتب روبرتسن أن "نسيج الرؤى الطوباوية السوداء يختلف اختلافاً كبيراً في أرجاء الجنوب، لكن ثمة ثيمات متواترة وطموحات مشتركة طرح عديداً منها ونوقش صراحة في مئات من مؤتمرات الملونين بين ثلاثينيات وتسعينيات القرن الـ19". ومن هذه الأفكار "فكرة أن تكون للسود ولاية تضم تينيسي وكنتاكي والميسيسيبي"، وبدا أن العبيد المحررين يؤثرون هذه الفكرة في الفوضى التي خططتها لهم أميركا.
خلافاً لكثير من السرديات الطاغية لحياة السود في أميركا، تبدو سردية روبرتسن معنية بالحياة على الهامش، وبسبل البقاء الأقل استكشافاً وإن لم تقل أهمية. فأبطال تلك الحياة كانوا يعملون بعيداً من التيار الرئيس بوصفهم راديكاليين حقيقيين. حاولوا أن يتبينوا كيف يمكن تشغيل الأنظمة المالية والإسكانية الأميركية بعيداً من هياكل الرأسمالية الأميركية، واستعملوا خيالهم في محاولة تفكيك القسوة المحيطة بهم.
ورجوعاً إلى غلانتن داوديل الذي بدأ رجع إلى ديترويت ليعيش حياة صعلوك ومجرم ورسام انتهى إلى طلب اللجوء في أوروبا، ولكنه على رغم هذه الحياة ترك إرثاً غير متوقع، وإسهاماً في قصة هذا الكتاب، تتمثل في جدارية كنسية في ديترويت.
"تصور الجدارية التي رسمها غلانتن سنة 1967 السيدة العذراء في صورة امرأة سوداء، حتى عرفت الكنيسة التي استضافت الجدارية بـ(ضريح مادونا السوداء). وكان قسيس هذه الكنيسة هو ألبرت كليج الابن".
حاول كليج "أن يدمج للسود السماء والأرض، والفردوس بأرض الميعاد، بحديثه عن عالم حالم قائم على رؤى اجتماعية معينة"، ويتضح من تركيز روبرتسن على كليج الأهمية التاريخية للرؤية الجذرية للمسيحية في نضال الحرية الأسود.
ويشير غابرييل بامب إلى أن كتاب "لاهوت التحرير الأسود" (الصادر سنة 1970) لجيمس أتش كون قد سعى إلى وضع نضال الأميركيين السود من أجل الحرية في قلب المسيحية فكتب أن "اللاهوت الأسود لا بد أن يدرك أنه ما من مكان ليسوع الأبيض في المجتمع الأسود، فلا بد أن نستبدل به مسيحاً أسود، بحسب ما كان يقول كليج، مسيحاً يرى وجوده غير منفصل عن التحرر الأسود وتدمير العنصرية البيضاء". ومن هنا ولدت فكرة مريم السوداء وابنها.
رأى كليج القومية المسيحية السوداء والثورة والتمرد باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة. ويكتب روبرتسون أن العدالة بالنسبة له كانت تعني "توازن القوى بين البيض والسود بما يسمح للسود ببناء مؤسساتهم الموازية والحفاظ عليها. دونما تهديد من البيض بتدميرها". وكان هذا التهديد بالعنف يخيم على كل قرار اتخذه القوميون المسيحيون السود، سواء في ما يتعلق بإقامة مدارسهم الخاصة أو بناء مساكنهم الخاصة.
يكتب بامب أن أحد فصول الكتاب العميقة، "يركز على محاولة كليج إنشاء كيبوتس أسود حضري في كنيسة الضريح. بتأثير من فكرة الكيبوتسات الإسرائيلية". وكانت جماعات مناصرة الصهيونية والحكومة الإسرائيلية بدأت في أواخر الستينيات تنظيم جولات للأميركيين السود في الكيبوتسات. ويفسر روبرتسن ذلك باعتباره "محاولة لكسب تعاطف أقلية مؤثرة في ظل صراعات إسرائيل مع الدول العربية، وبخاصة حرب عام 1967".
غير أن كليج حرص بوضوح على التنصل من مساندة الصهيونية أو تأييد سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين، مؤكداً ذلك في خطبة موثقة له، ويوضح روبرتسن أن "انجذابه إلى الكيبوتس يعكس نهجاً واقعياً في تكييف نماذج بناء الأمم الأخرى وفقاً لأغراضه الخاصة" فقد كانت "الكيبوتسات تمثل مسعى ناجحاً إلى السلطة". وهكذا تبنت اليوتوبيا السوداء نموذج الكيبوتس، حتى إن القوميين المسيحيين السود حينما أقاموا في ثمانينيات القرن الـ20 مجتمعاً تعليمياً لأبنائهم أطلقوا عليه "بيت متوتو" وأشاروا إليه أيضاً بـ"الكيبوتس".
"وجاءت خطوة طبيعية أخرى في أعقاب الكيبوتس هي مشاريع ملكية الأرض، إذ اشترى القوميون المسيحيون السود أفدنة من الأرض في ساوث كارولاينا وأطلقوا عليها اسم بيولا لاند. وأعيد اختراع مشروع البلدات السود في ما بعد الحرب الأهلية بما يتواءم مع مزيد من الوعي".
"كانت هناك مشاريع أخرى، ومجتمعات تجريبية، وأمم صغيرة، في الجنوب. من أمثلتها مدينة سول في نورث كارولاينا التي أسسها أحد أصدقاء كليج (لتكون مجتمعاً متكاملاً من عشرات ألوف السكان يوفر للفقراء والعاطلين أسباب الازدهار الاقتصادي)".
غير أن هذه البلدات الجديدة جاءت بإحباطاتها، فيكتب روبرتسن أنه "لم يكن من سبيل إلى الاعتماد على التمويل من البنوك المملوكة للبيض أو المؤسسات الحكومية، فحيثما كان السود يسعون إلى إقامة قاعدة ضخمة من الأرض، كانوا يقابلون حتماً بمقاومة سياسية".
"يمتلك روبرتسن رؤية واضحة لأسباب فشل أفكار السود الطوباوية، وتجدد ميلادها، ومنها أسباب مالية، وأخرى تتعلق بالتحيز ضدهم، فضلاً عن العنف المصاحب بالضرورة لإقامة أي أمة. والقسوة في حقيقة أن السود في أميركا أقل عدة وعدداً، ولكن ما ظل يغذي النضال ضد هذه العقبات هو التوق الفلسفي إلى خلق عالم أفضل، والرغبة الخالصة والدائمة والبحث عن الفردوس الأرضي".
يكتب روبرتسن أن الطوباويين السود لم يتفقوا جميعاً على أن "بوسعهم تغيير العالم إلى الأفضل، لكنهم اتفقوا ولا شك على أن بالإمكان مقاومة الأسوأ أو تأخيره". ومن هنا فقصة الكتاب الجوهرية هي المقاومة لا بالنصر.
ولعل هذا هو الملهم في تجربة الأميركيين الأفارقة. فما من لحظة بعينها يمكن اعتبارها لحظة انتصار كبير، ولكن هناك ما لا حصر له من لحظات الانتصارات الصغيرة التي تشكل في جملتها حركة مقاومة دائمة. قد تتمثل لحظات الانتصار هذه في وصول أحدهم إلى منصب رفيع كان محرماً على أبناء عرقه إلى أن استطاع هو انتهاك هذا التحريم، ولكن النصر يظهر كثيراً في أمور أبسط، في مشاركات رياضية مبهرة، في أغنيات تروج وقصائد تنهمر كالمطر في مجلات الشعر الأميركي، في موسيقى وروايات وأفلام، وتظهر كذلك في نجاحات صغيرة وكبيرة في شتى مجالات الحياة، بما يجعل من الحياة اليومية للأميركيين الأفارقة نفسها فعل مقاومة دائمة.
العنوان: THE BLACK UTOPIANS: Searching for Paradise and the Promised Land in America
تأليف: Aaron Robertson
الناشر: Farrar, Straus and Giroux Farrar, Straus and Giroux