لم تمض الحلقات العشر الأولى من مسلسل "كسر عضم" حتى أثار العديد من التساؤلات، وفتح الباب واسعاً على جدل بدأ عن فساد سلطة زعماء الحرب السورية، وهل لشخصيات المسلسل مرجعيات في الواقع السوري اليوم؟ انتهى هذا الجدل أخيراً عن ملكية النص عندما فجّر الكاتب فؤاد حميرة مفاجأة من النوع الثقيل عن اعتماد "كسر عضم" على خطوط رئيسية من نصه "حياة مالحة"، والذي كان قد كتبه عام 2011، وكان بمثابة استشراف لما ستؤول إليه حال البلاد مع اندلاع الأحداث الدامية في آذار (مارس) من العام نفسه.
المسلسل الذي كتبه علي معين صالح، وأخرجته الفنانة رشا شربتجي أعاد قضية حقوق الملكية الفكرية إلى الواجهة في الوسط الفني السوري، وأتاح الفرصة للسؤال مجدداً عن موقع الكاتب في العمل الدرامي التلفزيوني. فبعيداً من الآراء المتضاربة حول واقعية الأحداث التي يعالجها "كسر عضم" عن فساد رجال من جهاز الجمارك السورية، تصدّر السجال بين الكاتب فؤاد حميرة ومنتج المسلسل إياد النجار على صفحات "فيسبوك"، وذلك بعد الكلام الذي قاله حميرة في بثٍّ مباشر على صفحته في الموقع الأزرق، وفيه أخبر حميرة متابعيه عن سرقة الخط الرئيسي لأحداث "كسر عضم" والذي يتناول قصة رجل متنفّذ يدعى الحكم (فايز قزق) يصاب بمرض الإيدز بعد إقامته علاقة غير شرعية مع إحدى الطالبات الجامعيات، ومن ثم يقوم بنقل العدوى إلى زوجته. إلا أن شركة "كلاكيت" ممثلةً بالمنتج إياد نجار فنّدت اتهامات حميرة، وأوضحت بأن العمل لم يستند إلى نص "حياة مالحة" وبأن الشركة مستعدة للتعاون مع صاحب "الحصرم الشامي" في حال رضي بذلك، مشيرةً في بيان لها بأن الكاتب الحصري لـ "كسر عضم" هو علي معين صالح، والذي عمل مع المخرجة رشا شربتجي في ورشة (دراما رود) لكتّاب السيناريو لتحقيق نص هذا المسلسل بإشراف الدراماتورج رانيا الجبان.
مخدرات ومتورطون
يسلط "كسر عضم" الضوء عبر خطوط درامية متشابكة على شبكات الإتجار بالمخدرات وتصنيعها، وعن تورط ضباط في الجمارك في نقلها إلى بلدان في الخليج العربي، وذلك عبر مواجهة بين زعماء هذه الشبكات وضباط من الأمن السوري يتمكنون في النهاية من كشف الأيدي الخفية لتجارة ملايين من حبوب الكبتاغون المخدّرة. ويتعرض المسلسل السوري الذي لا تزال عمليات تصويره جارية حتى الآن في مدينة دمشق وريفها، إلى الفساد الجاري في الجامعة والقضاء السوريين، وذلك عبر قصة محامٍ مرتشٍ وأستاذ جامعي يقوم بتمرير أسئلة الامتحانات لطلابه، مقابل تعريفه إلى طالبات يتم استدراجهن إلى علاقات غرامية مع أستاذهن في حرم الجامعة.
ينتمي مسلسل "كسر عضم" إلى نمط الدراما الصفراء التي ترتكز على الفضائح الاجتماعية، وتقديم المكان السوري على أنه مكان منقبض وخطير ودموي. وهذا من خلال المعالجة الفنية التي تسعى إلى تصوير شرائح معينة من المدن والبلدات السورية من دون سواها، وتكريس صورة سلبية عن الطبقة الوسطى، وتنميط الصراع بين فقراء وأغنياء بغية تحقيق أكبر قدر من الإثارة والتشويق على مدار ثلاثين حلقة. ودرجت هذه الأعمال منذ بزوغ أعمال تلفزيونية سورية في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، من مثل "غزلان في غابة الذئاب" و"شتاء ساخن" و"الخبز الحرام" و"لعنة الطين"، وصولاً إلى مسلسلات "الولادة من الخاصرة" و"دقيقة صمت" وسواها من الأعمال السورية، التي يعيدها البعض إلى مسلسلات الجريمة التي مهّد لها برنامج "حكم العدالة" في إذاعة دمشق منذ أكثر من ثلاثة عقود. وفيه تم تناول جرائم قتل وسرقة واغتصاب من ملفات القضاء السوري، وتقديمها للمستمعين كوسيلة استباقية تأديبية لمكافحة الجريمة، وفضح أفعال الجُناة.
مشاركة الرقابة
يأتي "كسر عضم" في مقدمة الأعمال التلفزيونية السورية التي تكمل مسيرة العديد من المسلسلات الاجتماعية التي وظفّت الواقع السوري لصالح جذب شرائح متنوعة من المشاهدين في العالم العربي. إلا أن بعض النقاد يحيلون هذه النوعية من الإنتاج بأنه من كتابة الرقابة السورية، فيما يصفها البعض الآخر بأنها مسلسلات كتبتها الاستخبارات، وتسعى من خلالها إلى التنفيس عن الجمهور، ومعالجة الاحتقان الحاصل في بلاد تفتقر إلى حرية وسائل التعبير، وتعاني من كمِّ الأفواه، وسيطرة السلطة شبه المطلقة على مؤسسات الصحافة والإعلام... إضافة إلى التضييق على الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي عبر قانون الجريمة الإلكترونية الذي لا يزال يطاول العديد منهم في داخل البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدور معظم أحداث هذا المسلسل داخل مؤسسات رسمية يبدو أنها قامت بتقديم تسهيلات كبيرة لإنجاز "كسر عضم"، والتقاط لحظة حساسة تشي برغبة بعض رجال في السلطة في الكشف عن بعض غيلان الثروة والنفوذ في سورية، وتقديم تبريرات لكفِّ أيديهم عن العديد من المرافق الحيوية التي استفرد بها هؤلاء، فأثروا على حساب قوت الشعب ونيله للعيش الكريم. وهذا ما يجعل "كسر عضم" بمثابة محاكمة علنية لهؤلاء الفاسدين بأسماء مستعارة، والتمهيد درامياً لسياسات أكثر حزماً في الحد من الهوة المرعبة التي أوجدتها الحرب بين فقراء سورية وأغنيائها.
عملت المخرجة رشا شربتجي على توفير بنية بصرية ملائمة لمسلسلها الجديد، بعد سنوات من انشغالها في أعمال البيئة الشامية والأعمال العربية المشتركة. وهي تضع توقيعها من جديد على عمل اجتماعي سوري نابع من وقائع يصفها البعض بأنها حقيقية، ولها إسقاطات مباشرة على بنية الفساد المتحالف مع تجار أعضاء بشرية ومخدرات وأسلحة، وسواها من أنشطة اقتصاد الحرب الرائجة منذ نيف وعشر سنوات. لكن اللافت في "كسر عضم" هو اعتماده على جيل من الممثلين الشباب من مثل كرم شعراني وخالد القيش وولاء عزام، وابتعاده نسبياً عن سلطة النجوم، وممثلي الصف الأول. وهذا ما يحسب لصاحبة "تخت شرقي" التي تبدو اليوم في مقدمة المخرجات العربيات اللاتي ثبتن أقدامهن في المشهد الدرامي العربي بعد سنوات من العمل كمساعدة مخرج مع أبيها المخرج المعروف هشام شربتجي.
تبدو البصمة الخاصة لمخرجة "كسر عضم" في تقديم ملخصات بصرية خاطفة وأنيقة لأحداث عملها، وما يشبه الفوتومونتاج الخاص بكل حلقة من المسلسل، مع الإبقاء على صوت الراوي الداخلي. وقد جاء كتعليق على معظم الحلقات التي تم بثها حتى الآن في أسلوب يقارب الشاهد على الحدث، وتكنيك أخذ أبعاداً ملحمية في مقاربة أحداث المسلسل الذي فاجأ جمهوره منذ الحلقات الأولى بانتحار شخصية الضابط الشاب ريان (سامر إسماعيل)، وذلك بعد اكتشافه فساد أبيه الضابط الكبير في جهاز الجمارك، وضلوعه في عملية تفجير سيارة مفخخة بموكب أحد الضباط الكبار للتورية والتمويه على تمرير بضائع ممنوعة إلى داخل الحدود السورية. الأمر الذي أثار ردوداً متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما مشهد وداع الأب الفاسد لابنه الغارق في دمائه، وما تخلل هذا المشهد من أداء نوعي لكلٍ من الممثلين فايز قزق وسامر إسماعيل، مما اعتبره البعض بمثابة عقاب إلهي لشخصيات متسلطة ينتظر السوريون بلا طائل مثولها أمام العدالة، وليس فقط على شاشة التلفزيون.