"كان يا مكان" ليست استهلالاً لحكاية رويت في غابر الزمن، لكنها اليوم عنوان لمعرض جدرانه حواري دمشق القديمة وأزقتها العتيقة، حيث تسمع هديل حمام الجامع الأموي ورفرفته بين الناس، بينما حمام آخر معلق بين السماء والأرض في هذا المعرض الساحر.
في حنايا حارات الشام بجدرانها العتيقة فتح غاليري قزح أبوابه لـ15 فنانة وفناناً تشكيلياً مع صاحب فكرة العرض والمشرف الفني للعمل، الأستاذة الجامعية في كلية الفنون بجامعة دمشق، الدكتورة بثينة علي، لتقديم عمل فني متقن باستخدام فن التجهيز بالفراغ (فن ظهر في العقد الأخير من القرن العشرين، ويتسم بأنه فن يقاوم بشدة مسألة البيع والشراء، ويعتمد بطريقة مشاهدة عروضه على وجود مساحة فراغية للمكان، وعلى مدة عرض قصيرة للفنان).
اعتمد العمل على "الحمام" كعنصر أساس ومشترك للعرض، تنوعت موضوعاته بشكل مشوق امتد على مساحة واسعة في دمشق القديمة، تعد أكبر مساحة عرض لهذا النوع من الفنون.
حكاية العرض الفني بدأته الأستاذة الجامعية الدكتورة العلي قبل 11 عاماً، حين تقرر أن تزين طيوراً مشغولة بشكل يدوي، وذلك تحت أحد جسور العاصمة السورية، لكن وضعت الحرب أوزارها من دون أن تحقق حلماً طالما راودها، وتحول إلى واقع باستخدام عروض فن التجهيز بالفراغ، وقدمت لهذا الغرض أربعة آلاف حمامة بعدما ظلت حبيسة المستودعات لعقد من الزمن، وعبر هذا العرض تناثرت الطيور مع فنانين قدموا أعمالهم بأشكال مختلفة.
الحمام ليس رمزاً للسلام فقط
تروي الدكتورة بثينة علي، لـ"اندبندنت عربية"، عن عملها لأكثر من عقدين بعروض فن التجهيز، وتعده فناً يبقى على احتكاك مع كل شرائح المجتمع عبر التجهيز الخارجي، "لقد كانت الفكرة أن يكون الفن للناس، لأنه على احتكاك مباشر معهم، ومع كل الشرائح المجتمعية، والفئات العمرية ويحكي عن قضاياهم".
وتعتقد العلي، أن الغاية من اعتماد فكرة الحمام لكون هذا الكائن طالما رمز للفرح والسلام، وترى فيه في المقابل رمزاً تختلف دلالاته في كل زمان ومكان من دون أن تؤطر رمزيته بـ"السلام" كما هو شائع.
وتتحدث بأن نظرتها للحمام قبل عشر سنوات تدور لاستحضار عراقة دمشق وكيف كانت قبل عهود زمنية، حينها عكفت على إقامة المعرض تحت "جسر الرئيس" الذي يتوسط العاصمة، وعقدة التقاء ووصل بين أرجاء المدينة، حينها تعثر بسبب الحرب، "لا يمكن أن نأسره في كلمة واحدة له كثير من الأبعاد".
البعد الرابع
في غضون ذلك، برز دور الغاليري لصاحبه سامر قزح، الذي تحدث عن تحويل المشروع من حلم للفنانة صاحبة الفكرة إلى واقع، وقال في معرض حديثه، "الأعمال التي تعرض ضمن أحياء عمرها مئات السنين حظيت برضى المتلقين وأعطت بعداً آخر للعمل، بينما الأحياء التي اختيرت للعرض هي في الشام القديمة مثل طالع الفضة والجوانية".
وفي المقابل شهدت الأحياء الدمشقية حماساً من قبل الأهالي، وأبناء الحي بشكل منقطع النظير لإنجاح هذا المشروع الفني، وانسجام الطيور بين الجدران العتيقة، له بعد رابع للعمل الفني، حسب رأي قزح.
ويلفت النظر إلى إقامة معارض جماعية سنوية أو دورية تأخذ حيزاً واسعاً، لكن المميز أنه ضمن البيوت السكنية بهذا الحجم والامتداد كان أول مرة في سوريا والمنطقة وفق رأيه.
ووصف المعرض بأنه "من أكبر المعارض التي تختص التجهيز بالفراغ، ومساحة العرض فيه بلغت 140 متراً طولاً، إضافة إلى فناء الغاليري، وقاعاته، وبيت صديق مجاور تعاون معنا صاحبه ليسخّر غرف بيته ويضم جزءاً من المعرض بدار عربية ضمن مساحة إجمالية تُعد سابقة من نوعها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رسائل الحمام
يرفرف الحمام، هذا الطير الذي يشغل حيزاً في حياة الشارع السوري، ويشتاقون له كي يعيشوا بسلام بعد عشرية من الصراع المسلح على الأرض، إذ ظهر الطير في أعمال الفنانين حاملاً رسائل مختلفة، كل عمل يحمل موضوعاً، كعلاقة الحمام بروح الشهيد أو بالحلم أو الأم، وكل فنان صاغ الحمامة بالطريقة التي تناسبه، فالحمام على اللوحة حمل الأبعاد الثلاثة، وليست ثنائية البعد وفق قواعد فنية تمسك بها صانعو "كان يا مكان شباك"، بينما تركوا للمشاركين من الفنانين صناعة موضوعاتهم الشيقة بإبداع يتناسب مع طريقة فن التجهيز بالفراغ.
لك أن ترى طيوراً تحمل أضواءً، وظلالَ أجنحةِ حمامات أفردتها لتروي قصة ارتبطت بالسوريين، ومن جملة الأعمال قصة تحكي عن حال المهاجر، الذي يحمل سجنه معه كتقاليده وعاداته وبيئته، كمهاجر مسجون على الرغم من رحابة هجرته لأصقاع الدنيا، وعمل ثانٍ أخذ المتلقي إلى مشاهدة الأقفاص وعلاقتها بالحياة، بينما حضرت الـ"كشّة"، وهو مصطلح دارج بين الناس يعني مجموعة الطيور من الحمام التي تطير وتسرح سوياً بشكل جماعي ضمن نطاقها الجغرافي، التي ما زالت على الرغم من الحرب موجودة، تتمسك تلك الطيور وأهل دمشق بالسلام والمحبة وبالأمل.