عندما يصبح الموت محتماً لا يعبأ الإنسان بكيفية الوفاة، هكذا يختصر أحد المنتظرين أمام مرفأ طرابلس (شمال لبنان) الذين ركبوا "قارب المصير المجهول".
فركاب القارب أو بعضهم في الأقل كانوا يعلمون أن "الوصول إلى أوروبا صعب وربما مستحيل، ولكنهم قبلوا بالمخاطرة لعلهم يصلون إلى حياة جديدة". ولكن تسعة من هؤلاء في الأقل لقوا حتفهم، فيما أنقذت وحدات البحرية في الجيش اللبناني 48 شخصاً، ويستمر البحث عن ناجين من الركاب الذين يعيش أهلهم على أمل العودة.
وبحسب المعلومات الخاصة، فإن "قارب نزهة انطلق من قبالة أحد المنتجعات السياحية المهجورة في منطقة القلمون الساحلية جنوب طرابلس، ليغرق بعد نحو الساعة من انطلاقه وعلى متنه أكثر من 60 راكباً". ويفيد أحمد تامر، المدير العام للنقل البحري والبري في وزارة الأشغال العامة اللبنانية، بأن عمليات البحث التي تتولاها القوات البحرية التابعة للجيش اللبناني تجري على بعد تسعة أميال من شاطئ الميناء في طرابلس، على نقطة تبعد ستة أميال من جزيرة الرمكين.
يقدر عامر حداد، رئيس لجنة محمية جزر النخل، أن الوقت الذي يحتاج إليه المركب لبلوغ النقطة التي وقعت فيها الحادثة مقابل الرمكين، هو قرابة 45 دقيقة عن شاطئ الميناء. وهذه المنطقة لا تخضع لسلطة البلدية، لأن البحر هو من مسؤولية وزارة النقل، ومراقبة التحركات في المياه خاضعة لسلطة القوى الأمنية البحرية.
قارب المأساة
اختصر غرق قارب الهجرة غير الشرعية أمام شاطئ الميناء في طرابلس، المأساة التي يعيشها المواطن اللبناني الذي أوصلته الأزمة وصانعوها إلى حالة من اليأس والضيق. بعد الساعة العاشرة من مساء السبت 23 أبريل (نيسان)، بدأت تتسرب الأخبار عن غرق قارب مقابل جزيرة الفنار – الرمكين. في البداية، كان الحديث عن 60 راكباً، ولكن الأهالي يؤكدون أن العدد أكثر من ذلك بكثير. وما هي إلا لحظات حتى بدأ الأهالي التجمهر في محيط المرفأ. عند المدخل، نساء يعجزن عن الكلام، يعشن حالة من الانهيار العصبي والبكاء الشديد، في انتظار خبر عن أقارب لهم ذهبوا في المركب، إلا أن البحر غدر بهم وسرق منهم ومن أبنائهم فرحة العيد. أتى هؤلاء من الأحياء المهمشة في طرابلس، لعل أبواب الفرج تأتي من المرفأ.
نتجه إلى الساحة، حالة من الهرج والمرج، رجال يصرخون ويطالبون بالسماح لهم بدخول حرم المرفأ، ويطالبون عناصر الجيش المنتشرين بإعلامهم بأي جديد. ويتابعون مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة التحديثات، التي في ضوئها كان يزداد منسوب الخوف والرجاء. وفي الأثناء، حضر عدد كبير من المرشحين إلى الانتخابات النيابية في طرابلس.
يختصر عدنان عبد الله، "صديق الشبان الذين هربوا"، أسباب خروجهم بطريقة غير شرعية. يقول "هربوا من وضع البلد والمسؤولين الزفت الذين حملوهم لركوب شختورة... لم يكن أمامهم إلا الهروب إلى الموت، لأن لا مستقبل هنا". ويشير عبد الله إلى أن "بعض ركاب القارب كانوا ممن حاول سابقاً الهجرة غير الشرعية على متن قارب أيضاً، فقد سبق أن أوقف الشاب (أ.د) بسبب محاولته الهجرة غير الشرعية، إلا أنه ما لبث أن كررها وبرفقته أسرته".
ما هي إلا دقائق، حتى بدأت سيارات الصليب الأحمر اللبناني وجهاز الإنقاذ والطوارئ الخروج من حرم المرفأ، وتوزيع الركاب على المستشفيات الذين لم يكن من ضمنهم إلا ضحية واحدة حتى منتصف الليل، فيما يُنتظر، بحسب المعلومات الخاصة، تسليم ثماني جثث انتشلها الجيش خلال ساعات نهار الأحد.
رواية ناجٍ
يروي أحد الناجين الذي اشترط عدم ذكر اسمه أنه "التحق بالقارب الذي كان على متنه أقارب له، قبل ربع ساعة من انطلاقه". وبعد نحو 45 دقيقة، تمت محاصرته من قبل قوارب تابعة للقوة البحرية، جرى اصطدام بين قارب الركاب وذاك العسكري، فبدأت المياه تدخل المركب. سادت حال من الخوف في أوساط الركاب، بسبب بدء قاربهم الغرق رويداً رويداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضيف "خفنا كثيراً على الأطفال وبينهم رُضع، حطمنا زجاج الغرفة التي كانوا فيها لإخراجهم منها. كانت كميات المياه تزداد في الداخل، بسبب حركة القارب العسكري حولنا إلى أن غرق القارب. عندها، بدأ الاعتماد على المهارات الفردية في السباحة. لم يكن لدينا سترات نجاة أو أي تجهيزات للإنقاذ". بعد ذلك، بدأت قوارب الجيش انتشال الناجين.
يتحدث الناجي عن حال توتر كانت بين القوة العسكرية التي حاولت منع القارب من مغادرة المياه الإقليمية اللبنانية.
وقد خرج الشاب من حرم المرفأ وملابسه مبللة بالمياه. حضه بعض الشبان الذين تعرفوا إليه على الذهاب إلى المنزل أو مكان آمن، إلا أنه أصر على الانتظار، لأن "هناك بعض الأقارب ما زال مصيرهم مجهولاً".
في انتظار الحقيقة
على ضفتي الحقيقة، يتوزع الأهالي والجهات الرسمية. فمنذ أسبوع، أوقفت القوى الأمنية اللبنانية قارباً على متنه لاجئون سوريون، حاول الانطلاق نحو قبرص. ويشكل هذا الأمر إعادة نشاط خطوط الهجرة غير الشرعية، في ظل استغلال المهربين حالة اليأس التي يعيشها المواطنون.
في ظل هذا، يبقى مطلب الكشف عن شبكات الهجرة غير الشرعية مطلباً أساسياً لوقف المتاجرة بأرواح المواطنين، علماً بأن القضاء اللبناني ينظر حالياً في ملف "قارب الموت" الشهير الذي انطلق في سبتمبر (أيلول) 2020 من قبالة شاطئ الميناء، وما زال ثلاثة من ركابه في عداد المفقودين، بعد ادعاء قاضي التحقيق على المهربين في الجريمة.
في الأثناء، طالبت "عشيرة آل دندشي"، التي ينتمي إليها بعض الركاب، بفتح تحقيق شفاف في الحادثة. وأشار بيان العائلة إلى أنها لن تتسلم أحداً من الضحايا الذين قضوا على يد خفر السواحل من الجيش اللبناني، حتى إخراج أحد أبنائها، وغيره من الأشخاص "الذين ما زالوا قيد الاعتقال".
أما قيادة الجيش اللبناني فأصدرت بياناً، جاء فيه أنه بتاريخ 23 أبريل 2022 تمكنت القوات البحرية في الجيش من إنقاذ 48 شخصاً بينهم طفلة متوفاة (حتى صدور البيان) كانوا على متن مركب تعرض للغرق أثناء محاولة تهريبهم بطريقة غير شرعية، قبالة شاطئ القلمون، نتيجة تسرب المياه بسبب ارتفاع الموج وحمولة المركب الزائدة. وقد عملت القوات البحرية بمؤازرة مروحيات تابعة للقوات الجوية وطائرة "سيسنا" على سحب المركب وإنقاذ معظم ركابه. وأشار بيان قيادة الجيش إلى توقيف المواطن (ر.م.أ) للاشتباه بتورطه في عملية التهريب وبوشرت التحقيقات بإشراف القضاء المختص.