تحدث النقاد الذين انعطفوا على الشعر القديم بالنظر والتأمل، عن 'الرمضانيات"، وهي القصائد التي دارت حول شهر رمضان، بوصفها فناً شعرياً مستقلاً بذاته، له سمات أسلوبية يتميز بها، وملامح دلالية يختص بها. واعتبروا هذا الضرب من الشعر إفصاحاً عما تموج به الروح المؤمنة من معانٍ ومشاعر يُثيرها شهر الصيام.
والواقع أن كل قارئ لهذا الشعر لا بد أن يُلاحظ تواتر بعض العناصر الفنية والدلالية فيه، لعل أهمها استدعاء الحكمة والمواعظ الدينية، واسترفاد المعاني التي يستخدمها غرض الزهد، واستلهام بعض القصص التعليمية لانطوائها على عبر ودروس أخلاقية... كل هذه العناصر تتداخل في الرمضانيات بحيث لا نستطيع فصل بعضها عن بعض.
وقد حفلت المدونة الشعرية القديمة بهذه القصائد الرمضانية، التي وإن دارت حول شهر الصيام تحتفي به وتعدد فضائله، فإنها تضمنت موضوعات صغرى مختلفة.
وربما عمد بعض الشعراء إلى مزج "الرمضانيات" بأغراض شعرية أخرى مثل غرض المديح، فتتداخل عندئذٍ معاني غرض المديح بمعاني فن "الرمضانيات" تداخل التسوية والتشابك. وفي المدونة الشعرية أمثلة عديدة لهذا الضرب من الشعر مثل قصيدة الصنوبري:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ووقاك الإله ما تتقيه
أنت في الناس مثل ذا الشهر في الأشهر أو مثل ليلة القدر فيه
أو قصيدة البحتري التي يهنئ فيها الخليفة العباسي المعتصم بالله بشهر رمضان:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم وبسنة الله الرضية تفطر
ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر
هذا المزج بين الأغراض يجعل القصيدة تحتضن، في الأغلب الأعم، عدداً من المعاجم بعضها يرتبط بشهر الصيام، وبعضها يرتبط بغرض المديح.
"فن القوما" وعلاقته بشهر الصيام
ولعله من المفيد أن نذكر، قبل أن نتناول المدونة الشعرية الرمضانية، بالدراسة، أن لرمضان فناً أدبياً خاصاً به، ظهر منذ العصور العباسية في مدينة بغداد، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة، وما زال موجوداً إلى اليوم، وهو "فن القوما" الذي يتضمن قصائد وأشعاراً جرت على وزن مجزوء الرجز (مستفعلن فعلان أو مستفعلن فاعلان) تحمل عبراً وعظات ينشدها المسحراتي للصائمين، وربما وضع لها ألحاناً وغناها. كما يتضمن هذا الفن عدداً من القصائد والأزجال تدور حول توديع شهر رمضان مستخدمة لغة وجدانية موصولة بفن الغزل عند العرب.
وقد عرف الشاعر محمد علي عزب هذا الفن قائلاً: "إنه نظم غنائي يُصاغ باللفظ العامي، وله شكل فني خاص به، حيث يتكون البيت من عدة أشطر مُقفّاة بطريقة معينة". وقد ارتبط هذا الفن بالتسحير في رمضان، ويقال إن تسمية "قوما" جاءت من نداء المسحراتي يجوب الشوارع وقت السحوروهو ينادي "قوما للسحور".
وجاء في كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" لشهاب الدين الأبشيهي، أن أول من اخترع هذا الفن الأدبي هو ابن نقطة، وهو أبو بكر محمد بن عبد الغني (629هـ)، في عصر الخليفة الناصر في أواخر القرن السادس، وأتى على ذكر نماذج من القصائد التي جرت على وزن "فن القوما"، واشتهرت بخفة إيقاعها، وطرافة معانيها.
وتذكر كتب التراث أن الخليفة الناصر كان يطرب لابن نقطة، ويعجب بنظمه، فجعل له مرتباً شهرياً. فلما مات أراد ابنه الذي كان يجيد هذا الفن، أن ينبه الخليفة إلى موت والده، فجمع بعض الغلمان، ووقف معهم خارج القصر في الليلة الأولى من رمضان وأخذ يغني:
يا سيد السادات لك بالكرم عادات
أنا بني ابن نقطة تعيش أبي قد مات
فسمع الخليفة الغناء، وطرب له، وجعل للمغني ضعف ما كان لأبيه.
وأشار شهاب الدين الأبشيهي إلى أن هذا "الشعر الشعبي" قد أثر في الشعر الفصيح، وأورد عدداً من قصائد صفي الدين الحلي التي جرت مجرى هذا الفن في إيقاعها، ونظام أشطرها.
رمضان في تراثنا الشعري
وإذا عدنا إلى تراثنا العربي وجدنا حضوراً كبيراً لهذا الشهر في عدد من قصائده.
يبدأ الاحتفاء برمضان عادةً بالاحتفاء بهلاله. فهذا البحتري يتغنى بهلال شعبان، وقد أصبح قمراً إيذاناً بحلول الشهر، فقال في قصيدة أنشدها بين يدي المعتصم الخليفة العباسي:
قم نبادر بها الصيام فقد أقمر ذاك الهلال من شعبان
ويقول الشاعر الأندلسي ابن الصباغ الجذامي محتفلاً بهلال رمضان مستخدماً أسلوب الالتفات بحيث يتم الانتقال من المخاطب إلى المتكلم، ومن الجمع إلى المفرد:
هذا هلال الصوم من رمضان بالأفق بان فلا تكن بالواني
صُمْهُ وصنه واغتنم أيامه واجبُر ذما الضعفاء بالإحسان
في هذه الأبيات ألحّ الشاعر على ربط الصوم بالإحسان: الإحسان للنفس والإحسان للغير، والإحسان، كما جاء في القواميس: "نفع الخلق"، أو بذل جميع المنافع من أي نوع كان ولأي مخلوق يكون.
أما تميم الفاطمي، وهو ابن حاكم مصر، فإنه تمنى لو كان شهر الصيام حولاً كاملاً "غير منقطع". والحول عند أهل اللغة، غير العام، فالحول يعني عشرة أشهر ونصف الشهر.
يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت
فيه الضمائر بالإخلاص في العمل
صومٌ وبرٌ ونسكٌ فيك متصل
بصالحٍ وخشوع غير منفصل
يا ليت شهرك حولٌ غير منقطع
وليت ظلك عنّا غير منتقل
بهذه اللغة الأثيرية كتب الشاعر قصيدته، واصفاً شهر الصيام بالظل المنتقل، متمنياً بقاءه لأنه شهر الإخلاص والبر والنسك والخشوع.
هذا الإحساس نفسه يفصح عنه الشاعر الأندلسي ابن جنان، فيقول متحسراً على انقضاء شهر الصيام الذي بدا في هذه القصيدة ذا طبيعة نورانية.
مضى رمضان أو كأني به مضى
وغاب سناه بعدما كان أومضا
فيا عهده ما كان أكرم معهداً
ويا عصره أعزز عليّ أن انقضى
أما ابن المعتز فيصف هلال آخر رمضان، مبتهجاً بنهاية شهر الصيام فيقول:
يا قمراً قد صار مثل الهلال من بعد أن صيرني كالخلال
الحمد لله الذي لم أمت حتى رأيناك بداء السلال
الشكوى من شهر الصيام
تداولت كتب التراث حكايات كثيرة تصور تبرُّم عدد من الشعراء من شهر الصيام. ولعل أشهرها حكاية الأعرابي الذي صادف دخوله إحدى المدن بداية شهر الصيام فيها فقال متذمراً:
يقول بنو عمي وقد زرت مصرَهم
تهيّأ أبا عمرو لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي
سلام عليكم فاذهبوا بسلام
فبادرت أرضاً ليس فيها مُسيطر
عليّ ولا مناع أكل طعام
وقال أعرابي آخر وقد دعته زوجته إلى الصوم:
أتأمرني بالصوم لا در درّها
وفي الموت صوم يا أميم طويل
إن التذمر من شهر الصيام جرى في قصائد الشعراء، ولا يكاد يختفي حتى يُعاود الظهور من جديد. فهذا ابن الرومي يشكو من الشهر الكريم لحلوله في فصل الصيف فيقول:
شهر الصيام مباركٌ ما لم يكن في شهر آب
خفت العذاب فصمته فوقعت في نفس العذاب
وجاء شاعر ثانٍ فأضاف بيتين آخرين هما:
اليوم فيه كأنه من طوله يوم الحساب
الليل فيه كأنه ليل التواصل والعتاب
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الصاحب بن عباد فشكا من الشهر الكريم لأنه أحال بينه وبين حبيبته فلم يعد قادراً على مُلاقاتها:
راسلت من أهواه أطلب زورة فأجابني أولست في رمضان
فأجبته والقلب يخفق صبوة الصوم عن بر وعن إحسان
صُمْ إن أردت تعففاً وتحرُّجاً عن أن تكيد الناس بالهجران
وشكا بشار بن برد من نحول جسمه خلال الشهر الكريم فقال:
قل لشهر الصيام أنحلت جسمي
فمتى يا ترى طلوع الهلال؟
تراجع الرمضانيات في النهضة والحداثة
من الواضح أن الرمضانيات تراجعت على نحو واضح في الشعر الحديث، فلم يعد الشاعر يتغنى بهذا الشهر أو يعدد فضائله إلا لماماً. ولعل آخر الشعراء الذين احتفوا بهذا الشهر هم شعراء الإحياء من أمثال شوقي والرصافي والزهاوي. فهؤلاء عرجوا على شهر الصيام في سياق تكريسهم لوظيفة الشعر التعليمية التربوية، والتي تتمثل في المقام الأول في حراسة القيم ودرء خطر الموت والبلى عنها. فليس غر يباً بعد هذا أن يتحول الشعر عندهم إلى "ديوان أخلاق"، على حد عبارة البارودي، وأن يحتل الصوم فيه مكانة مهمة.
لكن بقدر ما خفت صوت القصائد التي تغنت بشهر الصيام في مدونة الشعر الحديث تعددت الأعمال السردية التي عرجت عليه واصفة طقوسه وعاداته كما هو الشأن في أعمال طه حسين ونجيب محفوظ.