لو تحدثت اليوم أو في أي زمن من الأزمان عن السرياليين، لا شك أن الاسم الأول الذي سوف يقفز إلى الأذهان سيكون الرسام غريب الأطوار سلفادور دالي. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن فنه قد عبر عن السريالية بأكثر مما فعل أي فن آخر، فإن السرياليين أنفسهم تعمدوا أن يطردوه باكراً من صفوفهم إنما لأسباب لم تكن فنية بالتأكيد. ففن الرجل لم يكن على سرياليته غباراً. كانت الأسباب أخلاقية بالأحرى وتنضوي تحت شعار "فتش عن المرأة" الشهير.
وللمرأة هنا اسم عرف كيف يتبدل تبعاً لعلاقاتها وتأثير تلك العلاقات في حياتها كما على المسار السريالي، حتى ولو أن الاسم الأكثر ثباتاً وديمومة الذي ستعرف به حتى رحيلها صيف عام 1982 عن 97 سنة سيكون غالا دالي. أما عند مولدها، عام 1894 في كازان الروسية، فكان إيلانا دياكونوفا، وحملت بين المرحلتين في أول صباها الباريسي تحديداً اسم غالا إيلوار، كزوجة للشاعر بول إيلوار، ثم كادت تحمل اسم غالا إرنست ذات مرة.
لكن منذ "خطفها" سلفادور دالي وتزوجها عام 1934، حملت الاسم الذي رافقها نحو خمسين سنة حتى وإن لم تكن كل تلك السنوات سعيدة. ولنعد هنا إلى ما بدأنا به حديثنا أي تسببها في القطيعة بين سلفادور دالي والسرياليين.
نهم إلى الدولارات
ففي عام 1929 وكان سلفادور أصغر من زوجة صديقه إيلوار بعشر سنين تمكن الرسام الإسباني المشاكس من أن يخطف قلب الروسية الحسناء فتخلت عن زوجها الشاعر الفرنسي لتعيش مع دالي أربع سنوات قبل أن يرتبطا بزواج دام حتى نهاية عمريهما. وكانت تلك العلاقة هي ما أغضب السرياليين، وعلى رأسهم أندريه بريتون وماكس إرنست ولوي آراغون، من ناحية انتصاراً لصديقهم إيلوار، الذي كاد تصرف غالا يدمره، لكن من ناحية أخرى لأن كل واحد منهم كان يجد في غالا ملهمة له واستكثروا على دالي الاستئثار بها.
وهكذا تذكر بريتون فجأة النجاح المادي الذي كانت لوحات دالي قد بدأت تحققه لدى جامعي اللوحات الأميركيين الذين كانوا يدفعون ثمن لوحاته بالدولار فلقبه بـ"النهم إلى الدولارات" AVIDA DOLLARI في لعب على حروف اسمه SALVADOR DALI توفق فيه فكان ذلك بدء تلك القطيعة التي لا بد من القول إن دالي كان الرابح فيها، نسائياً ومالياً. في وقت لم يبالِ أحد بكونه قد "خطف" تلك الحسناء التي لم تعرف بالإخلاص حتى وهي في أرذل العمر. ويشهد على ذلك كتاب بخطها عثر عليه عام 2005 في قصرها في بوبول الإسبانية عام 2005، ونشر في فرنسا بعد ذلك بسبعة أعوام تحت عنوان "دفاتر حميمية".
ممنوع على صاحب المال!
وقصر بوبول هو تلك الدارة الضخمة والرائعة التصميم المقامة في أعالي قرية كاتالونية بالاسم نفسه، التي اشتراها سلفادور دالي لفاتنته، وقد أربت على الرابعة والسبعين لتقيم فيه بعيداً من صخب الحياة الاجتماعية، لكن في تلك الفترات التي تفصل بين رحلة إلى نيويورك وفترة إقامة في باريس. وهناك كانت غالا تنصرف إلى التأمل وزراعة نباتات الحديقة، منصرفة لنفسها غير مستقبلة إلا من تعتبرهم عشاقاً لها لا يمكنهم الوصول إلى دارتها إلا بناء على موعد مسبق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والطريف أن سلفادور نفسه كان غير قادر على زيارة الدارة التي دفع ملايين الدولارات ثمناً لها كهدية لغالا، إلا بناء على موعد مسبق يتفق عليه سلفاً، علماً بأنه هو نفسه لم يكن ليسمح له بحمل مفاتيح القصر. وكل هذا كان معروفاً ولا يضير دالي نفسه في شيء. فهو الآخر كان يمارس حياته ومهنته الفنية، التي ظلت ناجحة ومدرة للدولارات حتى أيامه الأخيرة وفي معزل عن "كل ضروب الخرف" حسب تعبيره، التي ظللت سنواته الختامية، كما ظلت غالا المستفيدة الوحيدة مما يهطل عليه من أموال ضخمة. وكان هذا أيضاً معروفاً ومتفقاً عليه بين الزوجين.
لكن ما لم يكن معروفاً كان أن غالا التي كانت منذ عقود طويلة قد أعلنت أنها أخيراً قد تخلت عن رغباتها في أن تكون كاتبة كبيرة، واكتفت من المجد بما فعلته بشكل أفضل في حياتها. أي أن تكون ملهمة عشاقها الرسامين والكتاب تباعاً حتى استقر أمرها ملهمة لسلفادور طوال أكثر من نصف قرن، غالا هذه لم تتوقف عن الكتابة بالفعل، لكن لنفسها وعلى شكل تلك النصوص الحميمية، التي كانت تنصرف إلى كتابتها في هدأة قصرها البديع.
الحلم الذي تحقق
وهكذا يمكن القول إن غالا دالي قد حققت حلمها الكتابي في سرها، تحديداً في مئات الأوراق التي حرصت على إخفائها في بعض زوايا القصر بعيداً من الأعين، وكان يمكن ألا تكتشف هناك أبداً لولا الصدفة التي لعبت لعبتها، و"أكرمت ذكراها ككاتبة" ولو بعد نحو ربع قرن من موتها ومن موت سلفادورها الحبيب. فما الذي حملته تلك "الدفاتر الحميمية" التي بالكاد نشر منها نحو 200 صفحة في عام 2005؟ الجواب البسيط هو: حملت نوعاً من سيرة ذاتية كتبتها لنفسها عن نفسها بلغة فرنسية أقل ما يقال عنها إنها لم تكن على الأناقة الأدبية، التي كانت تتطلع إليها. فبعد كل شيء.
وعلى الرغم من أن دراسة الحسناء في سنواتها الروسية الأولى كانت بالفرنسية على غرار أبناء وبنات البورجوازيات المحلية في إمبراطورية القياصرة الروس، لا سيما حين تكون العائلات، كعائلة غالا، من الفئات المثقفة، فإنها أبداً ما أتقنت الكتابة بتلك اللغة، ولا حتى باللغة الروسية الأم، كما كانت تقول ضاحكة. وهي لئن كانت ستتكلم الإسبانية بطلاقة لاحقاً فإن الكتابة بهذه اللغة لم تكن سهلة عليها. ولربما كان هذا هو السبب الذي جعلها تغض الطرف بالتدريج عن الانصراف نهائياً عن الكتابة بشكل احترافي.
الكتابة بأربعة أيادٍ
وهو أمر نعود للقول إن نصوص "دفاتر حميمية" تكشف عنه، لكنها تكشف كذلك عن خفايا من حياة غالا منها ما يتعلق خصوصاً بعلاقاتها الغرامية التي لم تتوقف عنها يوماً ولا حتى في ذروة غرامها بسلفادور، الذي دائماً ما تلقبه بـ"رجل عمري الوحيد" غير مهتمة بأن تبرهن بعد بضعة أسطر بأنه لم يكن الوحيد. على أية حال. كذلك تخبرنا غالا أن إيلوار بدوره لم يكن وحيد حياتها حين كان زوجها، ولا ماكس إرنست كان وحيداً في حياتها يوم عشقته. ما تريد أن تقوله لنا هو أنها كانت دائماً تخشى الوحدة، وتحب أن تكون محبوبة. أما إذا كانت قد بقيت مع سلفادور دالي أكثر من خمسين سنة فما هذا إلا "لأنه فهمني وساير رغباتي، وكان هو الآخر منصرفاً إلى حياته الخاصة، إضافة إلى أنه كان يملك من المال ما يفيض عن حاجاته وحاجاتي".
هذا كله أشارت إليه غالا بكل وضوح. غير أن ما لم تشر إليه، ولسوف يكشفه النقاد والمختصون بالتحليل اللغوي حين راحوا يشتغلون بكل جدية على سبر "أسرار" تلك "الدفاتر الحميمية"، فهو أنها إذا استثنينا منه ما يتحدث عن سنوات صبا غالا الأولى حين كان اسمها لا يزال إيلينا، كتبت بأربعة أيادٍ لا بيدين. وهو تعبير يفضي في عالم التحليل الإبداعي إلى القول بأن شخصين تشاركا في كتابة النص الواحد، ما يفيد بأن غالا دالي لم تكن وحدها من سجل تفاصيل تلك الحميمية التي تتحدث عنها، والتي قد يحدث لقارئ ما أن يتساءل عما إذا كان سلفادور قد قرأها؟ ولعل المختصين يبدون على حق، إذ يفتون في نهاية الأمر ليس فقط بأن الرسام الملقب بـ"ذئب السريالية" قد قرأ تلك "الحميميات" المدهشة، بل عاون فاتنته على كتابتها أيضاً وربما من دون أن يرف له جفن. بل لم يعدم الأمر من حاول أن يؤكد لدى مقارنة دفاتر غالا الحميمية بالكتابين الأشهرين اللذين خلفهما دالي نفسه، "يوميات عبقري" و"حياة سلفادور دالي السرية"، أن هذين الكتابين، كما حال "يوميات حميمية"، كانا أيضاً نتاج تعاون أدبي مثمر بين الزوجين. فما سماه بريتون يوماً "نهم إلى الدولارات" لا يمكنه أن يتوقف عند حدود اللوحات!