بالنسبة إلى تلك المشاريع السينمائية التي لم يقيّض لأصحابها أن يحققوها فصارت أفلاماً شبحية توجد آثارها وأطيافها في تاريخهم أكثر مما توجد في الواقع، لا بد من القول إنها ربما تكون في نهاية الأمر "أهم" ما في تاريخ أصحابها وأرشيفاتهم... وينطبق هذا القول بالتأكيد على مئات المشاريع السينمائية التي لم يفت المؤرخين، عالميين وعرباً، أن أفردوا لها الدراسات والمجلدات، لكنه لا ينطبق بالتأكيد على الفيلم الذي نتناوله هنا، حتى وإن كان "صاحبه" واحداً من أشهر المبدعين في تاريخ الفن السابع وأكثرهم شعبية. نتحدث هنا عن ألفريد هتشكوك وبالتحديد عن "فيلمه" الذي حمل حين ولد للمرة الأولى عنواناً يكاد يبدو اليوم بديهياً ولا سيما في سياق هتشكوكيته: "الرقم 13". بيد أن الخصوصية التي تسم هذا الفيلم تكمن في أنه بدا دائماً منسياً من قبل هتشكوك الذي كان يتجاهله إلى حد كبير في كل حوار يجرى معه. وليس أدلّ على هذا من أنه وفي الكتاب الاستثنائي الذي ضم في مئات الصفحات ذلك الحوار التاريخي الذي أجراه معه زميله السينمائي الفرنسي فرانسوا تروفو في ستينيات القرن العشرين، لم يخصّ هذا الفيلم بأكثر من عشر كلمات يشوبها الضجر، على رغم إلحاح تروفو.
هل كل ما يحققه المبدع إبداعاً؟
من ناحية مبدئية قد يبدو هذا الموقف مستغرباً، بخاصة أن هذا المشروع كان يفترض به أن يكون أول الغيث في مسار هتشكوك الإخراجي... فمن المعروف أن وضعية مثل هذه تعطي أي عمل ومهما كان مستواه، شفعة ومكانة على الأقل بالنسبة إلى ذكريات صاحبه، لكن الحال لم تكن هكذا مع هتشكوك. وهنا حتى من دون أن نفترض أن ثمة في خلفية موقف كهذا، بعض الذكريات السيئة المتعلقة بالفيلم، سنبادر أول الأمر إلى الإشارة بأنه إذا كان مبدعون من طينة كوبريك وإيزنشتاين وأورسون ويلز وغيرهم من أصحاب تلك المشاريع الرائعة التي لم تحقق أبداً، قد احتفظوا في ذاكرتهم بمكانة لمشاريعهم الشبحية فإن هذا عائد إلى كون كلّ واحد من تلك المشاريع وليد أفكار صاحبه: واتته الفكرة فصمّم المشروع وكتبه وربما بدأ بتحقيقه ثم لم تكتمل الأمور فظلّ المشروع حدثاً معلقاً وجرحاً دائماً، فإن المشروع "الهتشكوكي" الذي نتحدث عنه هنا لم تكن له أية علاقة بالسينمائي الذي كان شاباً طازجاً في ذلك الحين ووجد الاستديو، من دون مقدمات، يطلب منه أن يتحول من مساعد إلى مخرج مسنداً إليه مهمة إخراج ذلك السيناريو الذي لن يفوت هتشكوك لاحقاً أن يتحدث عن "سذاجته" وأن يقول ضاحكاً أن الاستديو لم يكتف بهذا، بل أنه حتى لم يسأله رأيه حين تعاقد - أي الاستديو - مع بطلي الفيلم وكانا من نجوم الكوميديا الشعبية الكبار في إنجلترا بدايات عشرينيات القرن.
قبل قرن من الزمن
انطلاقاً من هذين المعطيين على الأقل، قد يكون في إمكاننا أن نفهم موقف هتشكوك من ذلك المشروع الذي ولد ومات في مثل هذه الأيام تحديداً قبل قرن من الزمن، أي عام 1922. ومهما يكن من أمر هنا، فإن هذا المشروع لن يكون الوحيد المجهض في مسار ذاك الذي سوف يكون خلال العقود التالية واحداً من أشهر وأفضل مبدعي الفن السابع. إذ هناك في الذاكرة السينمائية ما يقرب من دزينتين ونصف الدزينة من مشاريع "هتشكوكية" لم تر النور أبداً. والأدهى من هذا أن بعض تلك المشاريع وئد ولم يتمكن صاحب "الطيور" و"بسايكو" و"فرتيغو" و"النافذة الخلفية" من إكماله أو حتى البدء فيه وهو في عز شهرته وجبروته الفني. إذاً، ولد مشروع "الرقم 13" في عام 1922، حين أرادت شركة الإنتاج السينمائي "غينسبورو بيكتشرز" أن تستفيد على عجل من عقد مزدوج كانت وقعته مع النجمين كلير غريت وإرنست تيسيغر. وكان هذان يكوّنان ثنائياً هزلياً في السينما الإنجليزية لكن جمهورهما الأساسي كان أميركياً. وهكذا إذ بدأت رساميل سينمائية أميركية تتدفق على إنجلترا ليُحقق بفضلها أفلام رخيصة الكلفة للجمهور الأميركي أيام كانت السينما لا تزال صامتة وكان الفنانون الإنجليز مطلوبين لجودة أدائهم، كان من السائد أن يتم وضع المشروع والتعاقد مع النجوم وكتابة السيناريو قبل أن يؤتى بأيّ كان ليتولى تقنيات الإخراج. وعلى هذا النحو يومها جيء بالشاب هتشكوك وكان يعمل مع الاستديو كمساعد ورسام وكاتب لوحات الحوارات التي تظهر على الشاشة كلما "نطق" ممثل بعبارة ما.
حماسة هائلة لأيام مختصرة
يومها وحتى قبل أن يقرأ السيناريو بكامله، انصرف هتشكوك متحمساً بقوة للبدء في تصوير الفيلم. غير أن التصوير لم يدم سوى أيام قليلة. أما السبب فهو أن الأموال الأميركية سرعان ما انسحبت، إذ بعد فورة أولى تمثّلت في تفضيل التصوير في بلاد الإنجليز، تضاءل اهتمام الأميركيين بالأمر، إذ صلحت أمور السينما الأميركية التي خشيت المنافسة الإنجليزية وبدأ أهل السينما هناك يخففون من غلوائهم وشروطهم. ونعرف أن ذلك التساهل كان له فضل كبير ليس فقط في عودة الأموال الأميركية إلى أميركا، بل كذلك في لحاق مواهب كثيرة برأس المال آتية من إنجلترا خاصة كما من ألمانيا وفرنسا وأوروبا الشرقية. وطبعاً نعرف أن هذا هو الواقع التاريخي الذي سيعطي هوليوود كوزموبوليتها ومكانتها. غير أن هذه حكاية أخرى بالطبع. أما حكايتنا هنا فإننا نختمها مع أول مشروع هتشكوكي مجهض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سوء تفاهم سياسي!
لم يوجد هذا الفيلم إذاً على الإطلاق. ولكن في المقابل ثمة مشاهد عدة صوّرت منه وثمة صور عدة أيضاً. ومع هذا، ولأن أحداً لم يشاهد الفيلم ناهيك بأن السيناريو نفسه ليس متوافراً، ساد دائماً الاعتقاد لاحقاً - وطبعاً انطلاقاً من "عنوان الفيلم" - بأننا هنا في إزاء عمل تشويقي ما - ورائي يرتبط بدلالة الرقم 13، كما يرتبط بطبيعة السينما التي سيحققها هتشكوك لاحقاً. غير أن هذا بعيد جداً عن واقع الحال. فالحقيقة أننا أمام فيلم هزلي من نوع كان سائداً ومطلوباً من الجمهور العريض في ذلك الحين. أما رقم 13 - وهو في المعتقدات الشعبية رقم النحس بامتياز - فإنه الرقم الذي تحمله شقة تدور فيها ومن حولها جملة أحداث ومقالب في أحد طوابق بناية يعيش فيها عدد من الأشخاص غريبي الأطوار ومن بينهم طبعاً بطلا الهزل اللذان رسم مشروع الفيلم بأسره كرمى لعيونهما. أو بالأحرى كرمى لعيني السيد بيبادي، الأميركي الثري وفاعل الخير الذي اشترى تلك البناية أصلاً كي يسكن فيها عائلات من ذوي الدخل المحدود. ومن خلال هذا البعد، على أية حال، تتضح هنا - على الأرجح واحدة من سمات هذا الفيلم: سمة ترتبط بما كانت أميركا تحاول أن تقوله خلال تلك السنوات التالية للحرب العالمية الأولى عن مساندتها للإنجليز بعد تقديم الانتصار العسكري الذي حرر أوروبا - وفي مقدمها إنجلترا - من العدو الألماني... ولكن هذه - أيضاً - حكاية أخرى لا مجال للخوض فيها هنا وإن كان في الإشارة إليها توضيح مفترض لرفض هتشكوك خلال عقود حياته التالية أي حديث عنها. وصولاً إلى الزعم أنه نسي موضوع الفيلم تماماً!!
مهما يكن من الأمر، سواء أكان هتشكوك صادقاً في مزاعمه حول الفيلم أو ماكراً في الالتفاف حول المسألة برمتها، يبقى المشروع ككل جزءاً من تاريخه. وإلى جانبه هناك مشاريع أخرى له تحولت إلى أفلام شبحية، من أبرزها "كاليدوسكوب" أو "فرنزي" الذي كان هتشكوك يود تحقيقه في عام 1964-1967، لكنه أبدله بسيناريو آخر يحمل العنوان نفسه "فرنزي"، حققه بالفعل من دون أن يكون ثمة تشابه بين الموضوعين. ومن بين تلك المشاريع أيضاً "فخ لرجل وحيد" (1963) و"ماري روز" (1964) و"3 رهائن" (1964) و"هروب" (1940) و"الرجل الأعمى" (1960)... وغيرها. ولعل الطريف في الأمر كله هو أن هتشكوك كان دائماً كالقطار السريع، بحسب وصف جان - لوك غودار له، يسير في طريقه قدماً من دون أن يتلفت إلى الوراء متحسّراً على ما قد يكون فاته. ونعرف أن هذه لم تكن أبداً حال زملائه الآخرين من كبار أهل السينما الذين اعتادوا أن يحنّوا إلى مشاريعهم في أيامهم الأخيرة متحسّرين إذ لم يقيّض لهم تحقيقها. وهي حسرة أسهمت بالتأكيد في تلك الأسطرة التي كانت من نصيب الأفلام الشبحية!