برحيل الشاعر السعودي علي الدميني تفقد القصيدة الحداثية في العالم العربي والخليج خصوصاً أحد روادها الكبار الذين أسهموا في تطوير الخطاب الشعري وأتاحوا لنمط جديد من الكتابة أن يكون.
بدأت المغامرة في السعودية منذ أوخر السبعينيات حين مضى علي الدميني، مع عدد من الشعراء مثل محمد جبر الحربي وخديجة العمري ومحمد الدميني ومحمد الثبيتي ومحمد العلي، يكتبون قصيدة جديدة بدت اللغة العربية فيها عالماً قائماً بذاته، مُفْعَماً بالحياة، منفتحاً على كلّ الاحتمالات، حمّالة لكلّ ألوان التفسير والتّأويل.
مشروع شعري
كان مشروع علي الدميني ورفاقه منذ البداية يقوم على ضرورة الخروج عن اللّغة القديمة، بقواعدها المقرّرة وقوانينها المقدّرة واجتراح لغة جديدة لا تكون زجاجاً شفّافاً ننظر من خلاله إلى المضمون، وإنّما تكون زجاجاً ملوناً، يشدّنا إليه وإلى زخارفه، قبل أن يشدّنا إلى ما وراءه. فاللّغة، في هذا المشروع، لا تحاكي شيئاً، ولا تنقل شيئاً وإنّما هي عالم قائمٌ بذاته، تشدّ المتقبّل إليها قبل أن تشدّه إلى شيء آخر خارج عنها. فكانت مجموعتاه الشعريتان "رياح المواقع" 1987 و"بياض الأزمنة" 1999 علامتين على هذه الانعطافة الكبيرة في طرائق الكتابة وأساليب التعبير في السعودية وبقية بلاد الخليج العربي.
بدت قصيدة الدميني للوهلة الأولى مستعصية على الأفهام، لا تستسلمُ إلى قارئها بيُسر وسماحة، لأنّها من القصائد التي تقتضي من القارئ التخلِّي عن الفهم التقليدي للّشعر، كما تقتضي منه أن يبذل جهداً تأويلياً كبيراً حتّى يستوعب رموزها، ويُدرك غامضّ أقنعتها. وبسبب من هذا، وجب على القارئ أن يعقد حواراً معها، أن يصغي إلى الأصوات التي تتقاطع داخلها، وأن يستحضر النصوص التي استدعتها والرموز التي وظفتها.
لا شك في أن الدميني كان إنساناً شديد الانهماك في الحياة، والشعرُ عنده لم يكن تعبيراً عن حقائق النفس فحسب، بل كان تعبيراً عن حقائق الواقع، وقد امتزجت بحقائق النفس. لهذا كان الإحساس بالخلل ينتاب كلَّ شيء، وكان الإيقاع متواتراً في مجموعات الشاعر، فالكتابة عنده طريقة نقد للحياة، ومحاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها. لكن الأهم في القصيدة التي يكتبها هو خروجها على ما استقرّ من أعراف لغويّة وتقاليد شعريّة، مؤسسة بذلك "أسلوبها" المخصوص ونبرتها المتفرّدة:
"ومراراً أغسلهم بالحدائق كي يتركوا جثتي في المياه/ عارياً كقميص بلا شفتين/ نائماً في رفاتي كما أشتهي/ سابحاً في صفاتي كما ينبغي/ وأتوجني سيداً وأمير/ ولكن/ كيف لي أن أرى دون قطعتهم سترتي/ فوق عرشي الضرير".
هذه لغة جديدة لا عهد للشعر الخليجي بها من قبل. لغة ذات إيقاع استعاري لافت، الصورة فيها لا يمكن الإحاطة بفيض معناها، إنها مفتوحة على أفق من التأويلات لا يحد منتهاه. لكن الأهمّ من ذلك، أنّ هذه القصيدة تمكنت من توسيع معنى الشعر بحيث أصبح يحتضن نصوصاً لا تخضع لشروط الشعريّة القديمة (الوزن، القافية، النظام البياني التقليديّ)، وإنّما تستمدّ شعريّتها وشرعيّتها من إيقاعها المخصوص، من قوّة صورها، من حضورها الإبداعيّ... وبعبارة واحدة من جدّة تجربتها الجماليّة والروحية. قصيدة الدميني أنموذج للقصيدة العربيّة الحديثة التي توافرت فيها كلّ هذه الخصائص.
استدراج اللغة
كلّ هذه الانتهاكات إنّما هي استدراج للغة حتّى تتحوّل من مؤسّسة جماعيّة خارجة عن إرادة الشاعرة توجّهها وتتحكّم فيها، إلى أداة تحرّر وانعتاق، عن طريقها تقول تجربتها وتفصح عن رؤاها. فاللغة في الشعر الحديث، كما يقول الناقد جمال الدين بن شيخ، هي مجلى الشاعر وليست محبسه، فهو يتجلّى فيها ولا يكتفي بارتدائها، إنّه يؤسّسها. فاللغة تولد مع كلّ شاعر ولادة جديدة.
إنّ الشاعر ما فتئ يسير على الحد الفاصل بين الشعر وبقيّة الأجناس والفنون الأخرى، يتشرّبها ويغتذي منها. ونذكر منها على وجه الخصوص الخطاب السردي الذي وشم ذاكرة قصائده بنار حرائقه. فكثيرة هي النصوص التي استلهمت خصائص هذا الخطاب واستدعت قوانينه جامعة بين كينونة الشعر وصيرورة القص في وحدة لا تنفصم عراها:
"هؤلاء الذين يربون قطعانهم في حشائش ذاكرتي
هؤلاء الذين يقيمون تحت لساني موائدهم
كالهواء الأخير
مرة أستعير لهم فرح امرأة في الجريدة
مرة أطلق السهم نحوي
فأخشى عليهم جنون الصبي".
تعدّ مدونة علي الدميني من قبيل المدوّنات التي تشدّ القارئ إليها، أي إلى لغتها وصورها ومجمل رموزها، قبل أن تشدّه إلى ما هو خارج عنها. فقصائد هذا الشاعر لا تصف ولا تعبّر ولا تبوح بقدر ما تومئ وتشير وتلوّح. وهي في هذا، تختلف عن المدونات الشعريّة التي تراهن على استخدام اللّغة المتعدّية التي تحيل على العالم الخارجيّ، تشهد له حيناً وتشهد عليه حيناً آخر. لكنّها تظلّ، في كلّ الحالات، منشدّة إليه، ومنه تستمدّ رموزها وصورها.
هذه اللّغة اللازمة التي تشدّ انتباه المتقبّل إليها قبل أن تشدّه إلى ما تقول، هي التي احتفت بها دواوين علي الدميني، باعتبارها الأساس الذي ينهض عليه الخطاب الشّعري الحديث. قصائد الدميني، إذا استعرنا عبارة بعض النقاد الغربيّين، ليست وليدة معنى سابق عن القصيدة، وإنّما هي وليدة مرور أصابع الشاعر على معزف الألفاظ. فهي تولد لحظة الكتابة، وتنشأ لحظة التقاء الشاعر بمجهول اللغة.
القناع في مدونة الدميني
ما انفك الدميني يعقد من خلال قصائده حواراً مع الشعراء السابقين، يسترفدهم ويحاورهم ويستدعي طرائقهم في الكتابة. وإنّه لأمر ذو دلالة أن يحتفي الدميني في الكثير من قصائده بشعراء الجاهلية، يسترجع قصائدهم وسير حياتهم والأفكار. لهذا لا يمكن أن نفهم قصائد الدميني في الكثير من الأحيان من مضمون عبارتها، وإنّما من التوتّر القائم بين الكلمات ومن الأصوات الصادرة عنها ومن طرائق كتابتها ومن الإيماءات الأسطورية والسحريّة التي تنطوي عليها. من أهمَّ ما يتميّزُ به شعر الدميني استخدامه أسلوب القناع. والقناع رمزٌ يتّخذه الشاعر ليُضفي على صوته نبرةً موضوعيّة. وغالباً ما يتمثّل في شخصيّة من الشخصيات يتلبّسُ بها الشاعر ويتكلّم من خلالها ليُعبّر عن موقف يريدُهُ، أو ليحاكم نقائص العصر الحديث على حد عبارة إحسان عباس.
إن القناع الشعري ظلّ، على حداثة عهده، موصولاً بجذوره الميثولوجيّة، مرتبطاً بأصوله البدائية. بل لعلّ قيمة القناع الشعريّ تتأتّى من هذا الجانب، فهو كوّة مفتوحة في جدار اللّغة على المقدّس والمفارق والمتعالي، وبارتدائه يستعيد الشاعر علاقته الأسطورية بالكون والأشياء. لكنّ القناع الشعريّ لا يحيل على القناع الأسطوري فحسب، وإنّما يحيل أيضاً على الأقنعة المسرحيّة والاحتفاليّة، وهي الأقنعة التي كانت تتيح للإنسان أن ينسلخ عن هويّته ويكتسب هويّة ثانِية، فيصبح متعدّداً على وحدته، يمتلك، إلى جانب وجهه الحقيقيّ وجوهاً عديدة أخرى.
تعددت قصائد القناع في مدونة علي الدميني وتنوعت وتعدّ "قصيدة الخبت" من أهمّ القصائد المقنعة في هذه المدونة وأولاها بالعناية. في هذه القصيدة يرتدي الشاعر قناع طرفة بن العبد ويستعيد سيرته:
"أنشدتُ للرعيان ثوب قصيدة في البرّ
عاقرني الفؤاد على النوى
وتباعدت نوق المدينة عن شياهي
آخيت تشرابي الأمور بنخلة
وغرست في الصحراء زهو مناخي
أفردت يا ابن العبد...".
تختفي هنا ثنائيّة الرّامز والرّمز، والمستدعي والمستدعى ويهيمن ضمير واحد هو ضمير المتكلّم. الشّاعر هنا لم يعد واقفاً خارج سيرة الشاعر يكتفي بالإشارة إليها أو الإحالة عليها، إنّما أصبح داخلها، تحوّل كائناً من كائناتها، في فضائها يتحرّك، وبرمُوزها يتكلّم وعبر أزمنتها ينتقل. هكذا لم يبق في القصيدة المقنّعة داخل أو خارج، لم تَبْق هناك قصة من جهة، وقصيدة تستلهم رموزها من جهة ثانية. لم تبق شخصيّة تاريخية في طرف، وشاعر يستدعيها في طرف آخر. القصيدة انتظمت السيرة وأدرجتها ضمن قوانينها، والسيرة خضعت لإيقاع التجربة وأصبحت قادرة على الإفصاح عنها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا انسلخت تجربة الشاعر عن الأساس التّاريخيّ الذي تجري فوقه وتمدّدت في الزّمن، وخرجت شخصيّة طرفة من سياقها الخيالي إلى حيّز التّاريخ واحتضنت نبضه وإيقاعه.
على أنّ أهمّ ما يميّز قصيدة الدميني كونها لا تفصح عن التجربة مباشرة وإنّما تسلك إليها طريقاً غير قاصد، فهي تهيب من أجل التعبير عنها بعناصر موضوعيّة تَنْهَضُ وسيطاً بين الشاعر وتجربته من ناحية، وبين الشاعر والقارئ من ناحية أخرى. "فتبطئ من التدفّق المباشر للذّات من جهة، وتبطئ من إيقاع التقاء القارئ بصوت الشّاعر من جهة أخرى"، كما قال جابر عصفور، والوسيط في هذه القصيدة هو قصة طرفة كما روتها كتب الأدب. لكن ّ الشاعر لم يلتزم بكلّ عناصر القصة بل عمل على تغييرها وتحويرها حتى تتلاءم وتجربته:
"لخولة أطلال أجوس زواياها
ببرقة ثهمد
إذا أفردتني الأرض جاوزت للغد
أبوح بطعم الحب أقتات موعدي
أعاتب أحبابي، بلادي بفيئها
وأهلي وإن جاروا عليّ فهم يدي".
وهذا يعني أن بين القصة كما جاءت في المصادر الأدبية وبين القصة من حيث هي خطاب شعري، تمْتدّ مسافة هذه المسافة تملؤها، إذا استعرنا عبارة الناقدة يمنى العيد "زاوية الرّؤية" التي يتمُّ من خلالها تفكيك الأسطورة وإعادة بنائها من أجل بناء نظام آخر، عالم متخيل بديل. أن "زاوية الرؤية" هي موضع تحريف، وهذا التحريف هو الذين يمنح النّص تشكيله ويجعله يستقل ببنيته. وبذلك يحقق تمرّده على مرجعيّته، يحقق هذا التمرّد بالصياغة الجديدة، وبتأسيس حجم وفضاء مبتكرين. وبسبب من هذا كان طرفة علي الدميني مختلفاً عن "طرفة القصة الأدبية"، فالشاعر لم يستنسخ القصة ولم يحاكها، وإنّما حوَّلها إلى شظايا وأنقاض، وبنى من حجارتها بيته الشعري الجديد، أي بعبارة أخرى أقام أسطورته الجديدة على أنقاض الأسطورة القديمة.
بهذه الطريقة تمكن علي الدميني من إنجاز نصه الذي ما فتئ، يلفْت انتِباهنا إلى دلالاته وحضورها الذّاتي، مؤكداً أنّ المضمون هو أثر من آثار هذه الدلالات، أثر من آثار أجراسها ورموزها وصورها. هكذا تمكن هذا الشاعر من توسيع معنى الشعر أي من توسيع معنى الحياة.