بين الحين والآخر نخرج من الزمان، أو يبدو لنا الأمر كذلك، إذ نحتفل بأعيادنا الدينية والمدنية والعائلية والمهنية والشخصية. نظن أن الزمان توقف عن جريانه، أو أنه بسط لنا وجهاً آخر من هيئته، أو أنه انطوى على معنى جديد لم نألفه فيه. ليس العيد من صنع النخبة المكتفية بذاتها، بل فعل نابع من مسلك الجموع التي تحتاج إلى زمان كثيف ابتهاجي تعبيري يرتكض فيه الوجدان من شدة التأثر. ومن ثم، يضع العيد الإنسان في علاقة حية بالجماعة التي ينتمي إليها، ويعزز شعوره الانتمائي المشترك. الحقيقة أن العيد احتفاء بالماضي الذي يتخيله الناس في صور وأشكال شتى، لا سيما حين ينسبون إليه المجد الأثيل، والرفعة الأسمى، والإنجاز الأعظم، ذلك أن الوعي التقليدي يميل إلى تقديس الماضي، ونحت الحاضر والمستقبل على هيئته، في حين أن الحداثة تنزع عن الماضي قدسيته الأسطورية المتخيلة، وتضعه في سياقه التاريخي الموضوعي، ولكنها أيضاً تمنع الإنسان من الابتهاج الجماعي البريء، إذ توقظه من رقاده الأيديولوجي، وتصعقه بصدمة الفراغ الناشب في الكون والمشرع على جميع الاحتمالات، لذلك غالباً ما نعاين في إنسان الحداثة ميلاً إلى الموضوعية العلمية وزهداً في الاحتفاليات التراثية المبنية على التصورات الماورائية الأسطورية. لا عجب، والحال هذه، أن تضحي موضوعية الحداثة بابتهاجية التقليد، في حين أن غايتها الشريفة استنقاذ العقل من أوهام الماضي. يصح هذا الوصف في الأعياد الدينية، ولكنه لا ينطبق على الأعياد المدنية، الشخصية والجماعية والوطنية.
الزمان العيدي علاج الوجدان المضطرب
غير أن الجامع المشترك بين الأزمنة العيدية كلها رغبة الإنسان في البحث عن الهوية الذاتية والجماعية. فالزمان العيدي مصنع الهويات ومحييها ومنعشها ومغذيها، ذلك أن الإنسان شديد الحرص على ضمان ذاتيته الفردية والجماعية. فإذا به، في كل مرحلة من مراحل نموه، يحتفل احتفالاً رمزياً بالانتقال من طور إلى آخر. ينجم عن ذلك استمساك عظيم بعروة الجماعة الوثقى، وسعي حثيث إلى استنقاذ الهوية الذاتية التي يتصورها الفرد جوهر كيانه الخاص.
وعلاوةً على ذلك، يضطلع الزمان العيدي بوظيفة تكوينية لا تنشئ هوية الإنسان فحسب، بل تعالج اضطرابات الوعي المرتبك بالفراغ الأصلي الذي يصعب عليه فهمه وتسويغه. تنجح هذه المعالجة، خصوصاً في سياق الأعياد التي تحتفل بالرموز الأسطورية التأسيسية التي يتصورها الناس في أصل الكون والحياة والوجود والتاريخ، ذلك أن الاحتفالية العيدية تقصي من وعي الإنسان كل ضروب التهديد التي تنشأ من رهبة الزمان الأصلي وغموضية انبثاقه. مثل هذا الخطر يوشك أن يزعزع الوعي ويعطله، ما دام الإنسان عاجزاً عن شرح أصل الأصول ومبدأ المبادئ وعلة العلل، فإن القلق الأنطولوجي يعتصره ويكبله ويؤلمه إيلاماً كيانياً مبرحاً. وحده الابتهاج العيدي الجماعي يتيح للوعي المضطرب أن يهدئ من ارتجافاته ويخفف من انتكاساته، فيفجر في باطنه طاقات ضخمة من التعابير الاحتفالية تعزيه في محنته، وتعضده في ضعفه، وتوطده في اضطراب منعته.
على غرار السردية الأسطورية، يعمد الزمان العيدي إلى تصوير التاريخ تصويراً يتيح للإنسان أن يرضى بالثغرات الكيانية المقترنة بالفراغ الأصلي، وأن يعيد ترميم ذاته على الرغم من انعدام اليقين التأسيسي وغياب الحقيقة المبينة القاهرة. ومن ثم، ينطوي هذا الزمان على احتفالية عظيمة تدفع بالناس إلى سد الفراغ الكوني، وابتكار الحقائق الأصلية الرمزية، ونحت مشهد الوضوح البهي المفترض في نشأة الكون. بفضل النشوة الابتهاجية الجماعية، يرتضي الناس في الزمان العيدي أن ينزعوا عنهم غشاوة الاضطرابات الوجودية، ويلتحفوا بصور المشاهد الأصلية البهية التي تحتضن ما يرغب فيه الإنسان من معنى حياتي صالح شامل مطلق.
العيد حيلة الوعي المرتبك بسيلان الزمان
وعلاوةً على ذلك، يسهم الزمان العيدي أيضاً في معالجة خوف الإنسان الناشئ من عجزه عن الإمساك بجريان الزمان العادي، لذلك ما برحت الأعياد تضطلع بوظيفة بنيوية تمسك بالزمان، وتضبطه وتخفف من وطأة اندفاقه الهيجاني المتفلت. وظيفة العيد أن يوقف الزمان العادي، ويحمي الإنسان من أثر التغيرات المتسارعة التي تقلقه وتربكه، وتشل فيه القدرة على التكيف والتأقلم. العيد موضع الطمأنينة المبنية على ضمان الديمومة المنتظمة، ذلك أن الجريان الزماني العصي على الإمساك يهدد وعي الإنسان، ويحرمه من الاستناد إلى ثبات الهوية الذاتية المستقرة. لا ريب في أن بحث الإنسان الدائم عن هويته يصطدم بالسيلان الزماني المهلك، وذلك من بعد أن اتضح لنا أن طبيعة الوعي في جوهرها زمانية محض. لا يمكنني أن أدرك ذاتي والكائنات الأخرى والعالم إلا إدراكاً زمانياً. الزمان منحت الكائنات، ومصنع الأشياء، ومعمل الموجودات.
وحده العيد يزين للإنسان القدرة على تطويع الزمان وضبطه واستثماره في تعزية الوجدان المضطرب، لذلك أصاب الفيلسوف الفرنسي جان - جاك فننبرغر (1946) في أطروحته "العيد واللعب والمقدس" (La fête, le jeu et le sacré)، إذ صرح بأن "العيد، في روحه، يتجاوز مجرد كونه بنية اجتماعية ليفصح إفصاحاً حياً عن حقيقة أنطولوجية" ("العيد واللعب والمقدس"، 51)، ذلك أن العيد موضع جليل من مواضع انعقاد التصورات المتافيزيائية التي تنطوي عليها الحضارات الإنسانية، يفترض في صميم حقيقته موضوعاً يستحق استذكاره وإكرامه واستعادة رموزه في عمق الاختبار الوجودي، ما من عيد لا ينطوي على موضوع احتفائي يستثير في وعي الناس الرغبة في تدبر معانيه وإعادة غرسها في تربة الزمان العادي المألوف الرتيب.
العيد يخالف أحكام الزمن العادي
يبين عالم الاجتماع الفرنسي روجه كايوا (1913-1978) في كتابه "الإنسان والمقدس" (L’homme et le sacré) أن الجماعة المنتظمة في سياق النشاطات المألوفة والمهام المسندة، تبلغ حدود الاحتمال الأقصى، فتبيح لنفسها، بين الحين والآخر، أن تعاند الزمان المألوف وتبتكر الأعياد الموسمية من أجل إفراغ النفس الإنسانية مما احتشد فيها من اضطرابات الخضوع، ومعاناة الائتمار، ومحن التطويع الإفقاري. ومن ثم، فإن الزمان العيدي يهب الوجود الإنساني إيقاعاً مختلفاً يستبدل بالتكرار الرتيب الانفجار الغليان في الكيان، وبالسكونيات المألوفة الجيشان الحماسي في الوجدان، وبالانشغاليات اليومية الهادئة حمى التصعيد في الحراك الجماعي، وبالتشتت الفردي الانعزالي الالتحام الجماهيري الوثيق، لذلك يكتسب الزمان العيدي قدسيةً جليلةً تسوغها له إرادة الإقدام الخلاصي الذي يفرج عن مكارب الإنسان، ويحرر وعيه المضطرب المثقل بأخطر ضروب الاستغلال والإنهاك. الزمان العيدي يستخدم آليات الإقدام من أجل إعتاق الإنسان من مسارات الإنهاك، أي إنه يخالف أحكام الزمان العادي لكي يخرج الإنسان من مأزق الاستنفاد الذي يوشك أن يفرغه من طاقاته الذاتية.
حقيقة الأمر أن كايوا، وهو تلميذ مؤسس الأنثروبولوجيا الفرنسية مارسل موس (1872-1950)، اعتنى أيضاً باستجلاء رمزية المعدنيات في المخيال الإنساني. في كتابه "أحجار" (Pierres)، راح يترصد الطبيعة الرمزية المعقدة التي تنطوي عليها الأحجار الكريمة في قدرتها على استثارة الخيال الفني والأدبي الإبداعي. غير أنه كان مديناً لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دركايم (1858-1917) الذي أظهر قدرة الزمان العيدي على تعزيز روابط الجماعة الإنسانية بواسطة استذكار المعتقدات الأساسية التي يحملها الوعي الجماعي، ذلك أن الأعياد أزمنة موسمية تحيي في هذا الوعي روابط الانتماء المشترك وترسخ وحدة الجماعة، جاعلةً كل فرد من أفرادها يختبر اختباراً أكثف وأعمق طبيعة كائنية الاجتماعية. فالإنسان كائن اجتماعي يحتاج إلى الزمان العيدي حتى يتذكر مقامه وموقعه ودعوته ووظيفته.
مقام العيد بين صون الجماعة والإسراف المباح
في سياق تحليل عيد الثورة الفرنسية، تبين لنا المؤرخة والكاتبة النقدية الفرنسية مونا أوزوف (1931) في كتابها "العيد الثوري" 1789-1799 (La fête révolutionnaire) أن العلوم الإنسانية تناولت العيد في تصورين مختلفين: يذهب الأول، ومن مناصريه إميل دركايم نفسه، إلى أن العيد التئام الجماعة التئاماً يجعلها تختبر الفوران الابتهاجي المشترك، في حين يصر الثاني، ومن مؤيديه فرويد (1856-1939)، على أن العيد يخالف هذا المقام كله، إذ إن الفوران الابتهاجي لا ينشأ إلا من انتهاك المحرمات، أي من المغالاة المسلكية الجماعية التي تبيح الزمان العيدي في استثنائيته المتمردة. في نظر فرويد، العيد إسراف مباح ومنظم، ينصرف فيه المبتهجون إلى الاستمتاع بملذات العيش من غير أن يضبطهم ضابط أو يراقبهم مراقب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق نفسه، يبين الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) أن العيد يعبر تعبيراً عفوياً عن اللاوعي الجماعي الذي يهيمن على مسار الحياة في المدينة الإنسانية، فيطلق العنان لضروب شتى من المغالاة في المسلك والانتهاكات في الممارسة، حتى تتضح معالم الأخلاقيات السائدة في المجتمع، وترتسم حدود الأحكام والقواعد المعتمدة. غير أن الإسراف المباح يعزز سطوة القانون الاجتماعي، إذ يجيز للناس المحتفلين أن يفصحوا عن هيجان رغائبهم في مكان محدد وزمان معين، لذلك لا تتكاثر الأعياد في الأسبوع الواحد، بل يقتصر عددها على بضعة أزمنة تتزين بها السنة في دورتها الكاملة.
العيد محطة التأمل البهيج في دعوة الإنسان الكونية
الزمان العيدي يستوقف الزمان العادي، ويقتطع منه فترةً وجيزةً يكللها بالمعاني القدسية السامية، لذلك ليست أزمنة الأعياد شبيهة بالأزمنة اليومية العادية، إذ إنها تجعلنا نحس أن الزمان أوقف مجراه، وأن التاريخ يستعيد حقباته ويستجمعها في كثافة رمزية تفيض دلالةً وإيحاءً. في الزمان العيدي يقف الإنسان أمام نفسه ليتأمل في طبيعة هويته، وخصوصية مقامه، ومعنى وجوده، وجوهر دعوته، ومغزى التزامه الحياتي الشامل. لا شك في أن الأعياد تستثير فينا الرغبة في استدراك أصل الأصول ومعنى المعاني، أي الحياة بكليتها وشموليتها، حتى نطور فهمنا الذاتي الذي يجعلنا نستجلي سر الوجود الإنساني برمته. الزمان العيدي استجمام الوجدان الساعي إلى اغتراف القوة الضرورية التي تساعد الإنسان في الاضطلاع بمسؤولية الحياة الشائكة المعقدة المربكة. إنه واحة الترميم الكياني الذي يهبنا القدرة على مواصلة النضال في معترك التلازم الدهري بين الإخفاق والتألق نختبرهما في حقول شتى من حياتنا اليومية.