هناك خطأ شائع في فهم الأدب شاع وانشر بين العامة والخاصة، وهو الخطأ الذي جنى على الأدباء وعلى الأدب جناية كبيرة. ولعل مركز هذه المغالطة الجوهرية هو ربط مفهوم الأدب بمفهوم الأخلاق "النقوية" Puriste.
وأول من جنى الجناية الكبرى على الأدب في تعميم هذا الاتجاه المفاهيمي هو المنظومة التربوية والجامعية، التي كرّست وبشكل بيداغوجي وحتى أكاديمي "مشبوه" هذا التحريف المفصلي في التعريف بمعنى "الأدب"، ومن مقاعد المدرسة ومدرجات الجامعة امتد هذا الفهم الفاسد إلى المنظومة النقدية العامة، ولم يتأخر الإعلام الثقافي ليتلقفها وينفخ فيها بطريقة دعائية تبسيطية خطيرة، وتكون في نهاية المقام الضحية سلسلة من أجيال المبدعين والقراء على حد سواء.
أمام حصار المدرسة والجامعة والإعلام وخطب المساجد ستنتهك حرية الإبداع والاجتهاد بالإجماع!
يفتح المتعلم العربي والمغاربي عينه ومنذ السنوات الأولى للتحصيل على ربط مفهوم "الأدب" بـ"الأخلاق"، فـ"الأدب" كما يفهمه المتعلم هو "حسن الأخلاق"، وكل أدب يتناول مواضيع في تفكيك المجتمع بكل ما فيه من قبيح ورذيلة هو أدب "يجب محاربته"، لأنه يدخل في خانة "سوء الأخلاق!".
حين ارتبط مفهوم الأدب بمفهوم "الأخلاق النقوية" غُلّقت أبواب الحرية أمام المبدع، وسُدّت منافذ الاجتهاد والتحليل والجرأة في القول الأدبي، وضعف النص، وأصبح سقف الخيال حانياً جداً.
وبربط مفهوم الأدب بمفهوم "الأخلاق"، تحوّلت فيالق "الأخلاقيين النقويين" في العالم النقدي والقرائي العربي والمغاربي إلى رُقباء على الإبداع، رُقباء لا تنام لهم عين، تحوّلوا إلى سلطة "قامعة"، ومن خلال حضورهم الهوسي فقد كرّسوا وبشكل مَرَضي منسوب الرقابة الذاتية التي يمارسها المبدع ضد نفسه قبل الرقابة الاجتماعية والسياسية والدينية.
جرّاء هذا الخلط بين مفهوم الأدب ومفهوم الأخلاق، والأخلاق هنا هي مسطرة السلوك بمفهومها الديني، بدأ الأدب يعرف حالة من التفتيش البوليسي الذي يطاول تفاصيل التفاصيل، وتحوّلت المقولات النقدية إلى أحكام "فتوى"، حيث أصبح الناقد أو القارئ مُفتياً، "يفتي" فيما هو جميل، فيما هو "مقبول"، فيما هو "مرفوض"، فيما هو غير "مستحب"، فيما هو "مشروع" شرعياً، وفيما هو "غير مشروع" شرعياً، وبمثل هذه الممارسات الخطيرة القادمة من حقول غير حقول الأدب والإبداع فقد ظهرت سلسلة من الشروط والموانع أمام المبدع تحدد له مربعات "اللعب" وقوانين لعبة الكتابة، لعبة الإبداع.
وعلى قاعدة الرؤية الأخلاقية "النقوية" بخلفية دينية ذات طعم أيديولوجي تمليها المواسم السياسية للأنظمة المتعاقبة، تأسست "الكتب المدرسية" الخاصة بتدريس الأدب العربية والمغاربية، حيث توضع نصوص في الوعظ وسور قرآنية وخطب مسجدية في مقررات كتب الأدب، فتختلط هذه النصوص الأيديولوجية الدينية الوعظية بالنصوص الإبداع التخييلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن وضع نصوص أو آيات قرآنية وخطب مواعظ في غير مكانها المناسب، وبالأساس في كتب الأدب والإبداع، تجعل المتعلم ومنذ بداية علاقته بالنص الأدبي الذي ينتمي إلى "المتخيل" و"الأسطوري" في حالة من التوتر والغموض، حيث الخلط بين الأخلاقي والأدبي، ما بين الديني والأدبي، ما بين الوعظي والأدبي، وسيعاني المتلقي كثيراً من هذه العلاقة التي ستكبر معه، وستصاحب مفهومه للإبداع طوال حياته، والتحرر منها لاحقاً ليس بالأمر البسيط حتى وإن كان ممكناً.
فالعتبة التي تصادفنا حيال أي نص أدبي، مهما كان عصره، صدر الإسلام أو أموياً أو عباسياً أو مملوكياً أو حديثاً أو معاصراً، ومهما كان جنسه، روايةً أو قصةً أو شعراً أو مقامةً، تتمثل في غالب الأحيان بنصوص تُحيل على الديني والأخلاقي، سواء بسور من القرآن الكريم، أو بخطب مليئة بالدرس الأخلاقي لفقهاء أو مصلحين.
انطلاقاً من هذه الرؤية أصبحت صورة المبدع النمطي في مخيال القارئ والناقد أيضاً ظلاً لصورة رجل الدين أو المصلح الأخلاقي، وإذا ما خرجت عن ذلك فهي صورة للرفض والتنديد والمقاطعة والقراءة السرية.
وعلى قاعدة هذه الرؤية المختلة فلسفياً ونقدياً أصبح مقياس نجاح أو إخفاق هذا الإبداع أو ذاك يحدد بطبيعة المسافة التي تفصله عن الأخلاق والدين والإصلاح، فكلما ابتعدت سقطت اللعنة على المبدع، وكلما اقتربت رُحِّب بمثل هذا الأدب.
ماذا نقول عن بلد يمنح للمتوج في مسابقة كبيرة للشعر "بطاقة سفر" لأداء العمرة، إن مضمون هذه المكافأة، في هذا المكان، يعطي صورة فصيحة وبليغة عن "فهم" الأدب/ الشعر الناجح.
وفي ظل هذا الحصار الفكري والمفاهيمي الذي يخلط بين مفهوم "الأدب" و"الأخلاق" و"الإصلاح" و"الدين" تراكم الإنتاج العربي والمغاربي من خلال نصوص محتشمة، نصوص فيها كثير من النفاق الاجتماعي، وتفتقر إلى الجرأة والحرية في مواجهة حقائق المجتمع بما فيه من قبيح وجميل.
وجرّاء تفشّي هذه الأحكام الأخلاقية والدينية التي تحتل مكاناً ليس بمكانها، تتشكل حالة من الخوف لدى المبدعين، وهو ما يدفع بهم إلى الابتعاد قدر الإمكان عن اقتحام الممنوع أو "الخارج" عما ترسمه مقاييس الدين والأخلاق العامة، وأمام هذا أصبح الأدب متشابهاً يدور في موضوعات باردة ومنافقة.
على هذه الرؤية أيضاً نتج عندنا أدب "أعمى" و"أطرش"، أدب يرفض رؤية "القبيح"، لأنه لا يستطيع أن يصنع منه "جمالاً"، إذ ليس من السهل إبداع الجميل من القبيح، القبيح هنا نسبي وبمفهومه العام.
إن في "القبيح" فتنة مثيرة بالنسبة للمبدع الذي يرى العالم بكل ثرواته الخيرة وقيم الحياة على تنوعاتها، ولا يخشى مواجهة المناطق الخطرة التي يعيش فيها ومنها ولها قسم كبير من المجتمع.
على هذه الأرضية القائمة على مبدأ الفهم التقليدي للأدب المهيمن نتج لدينا أدب طهراني كثير زائف وكاذب وسطحي، أدب يحاول أن "يغطي الشمس بالغربال"، يريد إرضاء صوت "المصلح الديني" وصوت أي "نظام سياسي" هدفه شيطنة مفهوم "حرية التعبير"، وذلك لتكميم الحريات الفردية والجماعية.
إن سيادة الخلط بين مفهوم "التخييل" الحر في الأدب من جهة ومفهوم "الإصلاح الأخلاقي والديني" من جهة أخرى، تستفيد منه الأنظمة في خلق رقابة صارمة ضد كل من يريد أن يرفع من سقف الحرية قليلاً، فمثل هذا الخلط يجعل السلطة السياسية في تناغم مع السلطة الدينية والأخلاقية لمحاصرة الكتابة والكتاب، وقد نتج عن ذلك في كثير من الدول العربية والمغاربية ما يشبه محاكم تفتيش جديدة، "تُفلّي" رأس كل نص أدبي، وتطلق النار على كل لسان سليط أو غير منتظم تحت مسطرة وضعها الفقهاء والأخلاقيون والمصلحون الاجتماعيون.
لو لم يكن محمود درويش محمياً من قبل القضية الفلسطينية، لو لم يكن صوتها عربياً وعالمياً دون منازع، وهي سلطته الكبرى، لكان كثير من نصوصه عُرضةً للمحو، والدليل على ذلك الأزمة التي أثارتها قصيدته "يوسف" وقصيدة "مديح الظل العالي" من عواصف أطلقها رجال الدين.
ليس للكتاب العرب والمغاربيين جميعاً سلطة محمود درويش الرمزية، لذلك فالتنازل والاستسلام والخوف هي حالات ظاهرة في كتابات هؤلاء المبدعين.
إن الكتابة بشكل واعٍ ومقتدر عن الرذيلة وعن العنف وعن الجنس وعن السرقة وعن الاعتداءات وعن الفضائح وعن المثلية وعن "الفيمينيسيد" (قتل النساء) لا يعني أنها كتابة تروج لذلك، بل إنها لتدين هذا الوضع الذي لا يجب التستر عنه.
خلق الكاتب المبدع الأصيل ليفضح الفضيحة، وحين يفضح الفضيحة يجب أن يعرفها بتدقيق، أن يفقه القاموس الكفيل بتفكيكها.
جاء المبدع الكاتب الحر والمنسجم مع قيم الإنسانية الخيرية لا ليترك الفضيحة تنام هنيةً، فنومها مريح للأنظمة السياسية ولتجار الدين الحنيف، بل ليعرضها أمام العامة والخاصة، فمحاكمتها بفحصها وعرضها وعدم الخوف من مواجهتها.
سيقول قائل، وهذا الكلام يتردد دائماً، وهو كلام ليس غرضه الدفاع عن "الجميل"، لكن هدفه هو "التستر" على الفضيحة: "الكتابة عن القبيح لا تكون إلا باستعمال أسلوب (لا يخدش الحياء)، إن دُعاة هذا الرأي يريدون، في الحقيقة، قول نصف الحقيقة، فباسم الخوف من (خدش الحياء) يصمت الأدب المعاصر عن ممارسة حقه ودوره في الكشف عن واقع وتاريخ البشاعة التي هي ميدان ثري يشتغل عليه الأدب، بل هو هاجسه، ويمكن العودة إلى كتاب أمبيرتو إيكو (تاريخ البشاعة)".
لم يكن بعض القدامى من الأدباء العرب والمسلمين يخافون من الكتابة عن كل شيء ولا يترددون في استعمال قاموس نراه اليوم نحن وكأنه قاموس "وسخ" و"يخدش الحياء" بتعبير أصحاب نزعة "خدش الحياء" من "النقاويين"Puristes .
لم يكن بعض الفقهاء يترددون شأنهم شأن بعض الأدباء في تفصيل التفاصيل عن الجسد والجنس والأعضاء الحميمية، وكانوا يردون على العامة التي قد تتساءل عن هذا الأسلوب وعن هذا القاموس الجريء، ولكنه الواقعي جداً: "لا حياء في الدين".
ماذا كان سيحدث لو أن أحدنا كتب اليوم "ألف ليلة وليلة" جديدة؟ ماذا سيكون مصير أحدنا لو كتب ما كتبه أبو نواس أو بشار بن برد أو المعرّي أو الراوندي أو السيوطي أو النفزاوي؟
إن "القبح" أو "البشاعة" أو "الفضيحة" مكون أساسي في كتابة الجمال الأدبي، لا يكتمل الجمال إلا بالقبح، ولا يكتمل الأدب إلا "بسوء الأدب" بمفهومه الفلسفي، لا الإصلاحي المبسط.
وعليه، يجب أن يستعيد الأدباء عبارة الفقهاء، فهم أحق بها، وأعني العبارة التالية مع تحوير بسيط: "لا حياء في الأدب"، إن الجمال أدبياً يتم اكتشافه في كل شيء، في اللغة الوقحة، وفي الموضوعات الجريئة التي تتحدث بها النساء في الحمامات، يتحدث بها الأطفال في الساحة العمومية، يتحدث بها العشاق في المكالمات الهاتفية، يتراسل بها الشباب في خطاباتهم الخاصة، الأدب الذي لا يتمكن من الدخول إلى هذه الأماكن التي تبدو مُقفلة هو أدب بارد، فاشل، منقوص.
الأدب يريد أن يقول الحياة كاملةً، ولا يمكنه أن يقول هذه الحياة كاملة إلا إذا وظف لها قاموسها الكامل، واستعمل رؤية فلسفية شاملة ليكون المشهد كاملاً غير مبتور.